الفصلُ الحادي عشر

169 14 6
                                    

يسير في رواق الجامعة مُتجهاً نحو مكتبه، الكلُ ينظر إليه وكـأنهُ أُعجوبةً ما، كـحالِه سابقاً لم يأبه لهم ولا حتى لـكلماتِهم، أوقفه عن المُضي صوتُ ذلك الشاب المألوف، تقدم إليه وحياه بحفاةٍ وكأنه عاد من معركة حطين..
.

قال له والبسمةُ تعلوه:
- Wellcome back Mr. Janelle
« مرحباً بعودتك سالماً سيد جانيل.. »

قهقه الآخر مُجيباً عليه:
- أهلاً بك.. إذاً كيف حالُك وكيف حالُ والِديّك!؟
أجابه بـبشاشة:
- بخير والحمدلله في نعمة، وأنت كيف تجري أُحوالك؟!
رد مُجيباً عليه بمزاح قائلاً:
- هيَّ لا تجري بل تسيرُ أبطئ من الحلزون، لازلتُ أعيش كما ترى!
قهقه الآخر على التشبيه وأردف قائلاً بعد أن عمَ الصمتُ لـبضعِ لحظات..:
- أتذكُر تلك الفتاة الصغيرة التي سألتنيّ عنها حينَ كنتَ مُغادراً منزلنا..
وضع جانيل كفه على كتف سُهيل مُحثاً إياه للسير معه نحو المكتبه، وقال:
- ما بها!؟
- في الحقيقة أنا لم أكن أعرف من تكون إلا حين أخبرتيّ والدتيّ عنها..
همهم بتفهمٍ وأسترسل قائلاً:
- إذاً فـإن والِدتك تعرِفُها..
- أجل بالفعل..
- إذاً...
قال جانيل بقلةِ صبر وقد كان يُخفي شوقه لـمعرفةِ حالِها...
- سـأروي لك ما وقع حين أتت رأيتُها قبل يومٍ من الآن..
- حسناً أنا أنصت..

•• قـبـل يـوم ••

كنتُ قد بقيتُ في المنزل أنتظرُ قدومها مُتخلياً عن محاضراتِ يومٍ مُهم، ظللتُ و والِدتي ننتظرُ طلتها علينا، كانت أُمي تنشغل بأعمال المنزل و أنا أنتظرها في الخارج علَّها تأتي..
.

إنتظرت وإنتظرت حتى نفذ صبري وظننت بأن والدتيّ تُمازحُني وألا وجود لتلك الفتاة..
قررت الذهاب و المشيَّ قليلاً عَليّ أُريحُ كياني فقد خامرني الكسل وبلادةُ الجسد..
.

سرت مُتجهاً نحو أطراف الغابة، كنت أنصتُ إلى لحنٍ من هدوءِ الطبيعة و تغاريد العصافير رغمَ برودة الجو، جلستُ على إحدى الصخور وبدأتُ بالعبث بغصنِ شجرةٍ جافة، حينها سمعتُ صوتاً لخطواتٍ قريبةٍ مني، رفعتُ رأسيّ لأرى من يمرُ بجانبي..
.

كنت قد نسيتُ بالفعل أمر الفتاة حين رأيتها تجتازني مُتجهةً نحو الطريق العام حاشرةً جسدها بين الشُجيرات، تبعتُها بعد أن لمحت الوصف الذي حاكته والِدتيّ لي..
.

سرتُ أتتبعُها بخفوت حتى لا تعلم أني أراقبها، رأيتها تتجه نحو منزلنا، توقفت أمام الباب ولكنها لم تدخل، سمعتُها تُنادي والدتي ولا من مُستجيب، إقتربتُ منها أكثر ووضعتُ يدي على كتفها..
.

نظرت إليَّ بعينيّها الرمادية، جثوتُ على ركبتيّ وهمهمتُ بسؤالها عمّن تكون!، ولكنها لم تُجبني بل ظلت صامتة تُحدق في عينيّ بعمق، جعلتني أنظارها مُتوتراً حتى نسيتُ ما كنت أريده..
.

أمسكت بيدي وقالت " إتبعنيّ " وقد تبعتُها بفضولٍ إلى أين ستأخذنيّ، سرنا كثيراً حتى أن الظلام بدأ يُخيم على المدينة، كان الشفق قد حاكَ مكانه بين صفحات السماء، لم يُخامر تفكيري الشكُ حولها، كنتُ أتبعُها بقلبٍ مُطمئن..
.

تجاوزنا بوابةً كبيرة نافذين إلى داخلها.. قبور!.. العديد من القبور، كيف أننا وصلنا إلى هذه المقبرة دونَ أن أشعر، كنتُ هائماً في أفكاري، أسيرُ وعينايّ تقرأ كُلَ مكتوبٍ على حافةِ القبور..
.

أوقفتنيّ فجأة حينَ وصلنا إلى منتصف المقبرة، تركت يدي ومضت نحوَ قبرٍ يتيم الوحدة، لاحَ لي أسمٌ غريبٌ عليها، كان قبراً لإمرأة ماتت قبل عشرةِ أعوام ولكنَ حروف أسمها قد غدا بعضها مختفياً، توجهتُ إليها وقد خالط قلبي مشاعرٌ ممزوجةٌ بالخوفِ والشفقة..
.

إقتربتُ منها وسألتها من يكون صاحب القبر، ولكنها مجدداً تجاهلت سؤاليّ، قررتُ تركها مُرتاحةَ دونَ سؤال، رأيتُها تمسح على القبر بأصابعها الرقيقة وقد كانت عيناها مغرقة بالدموع العالقة، وضعت رأسها على التراب بعد أن أغلقت عينيها، ظننت الفتاة نائمة، لهذا قررتُ هزها قليلاً علَّها تستفيق..
.

جسدها الساخن أصابني برعبٍ شديد، رفعتُها بيديّ وأخذتها متوجهاً لمنزلي، كنتُ قد إتصلتُ بوالدتيّ وأخبرتُها بما جرى بعد أن إستوقفتُ إحدى التكاسي لتُقلني للمنزل..
.

تحدثت الفتاة بعد أن بدأت تستفيق، أخبرتني بأنهم ينتظرونها وقد أشارت إلى إسمٍ لميتمٍ ما، توجهنا إليه، أخذتها إحدى السيدات من يدي وقد كانت تبدو خائفةً عليها حينَ إستقبلنا أمام المدخل، بقيت هناك إلى ما يُقارب ساعتين، عادت إليَّ تلك السيدة وقد أخبرتني بأن الفتاة الصغيرة تتماثل للشفاء فقد كانت مريضةً في الأيام السابقة واليوم هربت دون عِلمهم بها..
.

***

حينَ إنتهى سُهيل من حديثه كان جانيل غائصاً في دُنيا أخرى، ناده عدةَ مراتٍ حتى إستفاق ولكنه ظلَ يُحدقُ بساعةِ يده مطولاً بعد أن أخبر سُهيل أن يذهب إلى مُحاضراتِه..
.

لم يعُد جانيل إلى طبيعته بعد الحديث الذي دار بينه وسُهيل، كان سارحاً في خيالها طوال الوقت، بدا و كأنه يحاول إدخل الخيط في ثُغرِ إبرةٍ صغيرة..
.

كانت ساعاتُ النهار تطول ولا تقضي، كل دقيقةٍ تمرُ عليه كدهرٍ مستوي، إكتفى بسؤال طُلابه عن ماهية أحلامهم وكأنه يبحث عن ذلك الحلم الضائع بين أمانِيهم..
.

الجميع يتحدث، بعضهم يعربون عن سعادتهم وآخرون عن حزنهم لأنه أجبروا على دراسة مالا يُريدون ولكنه تفاجأ حينَ وجد أحداً من طلابه لا يمتلك أي مراد، قالَ بأنه ضائع ولا يزال يبحث عن ذاتِه المفقودة..
.

ودعهم جانيل ومضى مُتجهاً إلى مكتبه، كانَ مشغول البال بأمرِ ذلك الحدث.. صندوقٌ أخفاه من العيش..
إنتهى اليوم الطويل، توجه جانيل لمنزله مرهق التفكير، يقود السيارة بنفسٍ سارحة، مضى وطريق الليل، كانت أفكاره ضائجة و حوله هادئ..
.

يفكرُ في نبشِ جروح الماضي، عليه معرفة من تكون وما سرُ العشرةِ سنون، أكانت صدفة أم أن القدر يُعيدُ تذكيره بتلك الصفعة، أكان عليه نسيانها! أكان يجب عليه حفظ الصندوق وعدم رميه!..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Where stories live. Discover now