الفصلُ الثالث عشر

163 15 6
                                    

عاد إلى منزله، عاد إلى مسكن الصمت، عاد إلى حيثُ صراع الأفكار، جالسٌ على فِراشة يراقبُ بنظراته ذلك الصندوق المفتوح، فيضانٌ من الذكريات، بوابةٌ من الزمن أمامه، زمنٌ حاولَ نسيانه، زمنٌ يُحاول صفعة بالذكرى الآن وفي الحاضر..
.

« أيـُهـا الـعـزيـز..

  إلـيـك آخـر أحـرفـيّ..

     كنتُ أُحِبكَ ولا أزال، كنتَ الربيع في حياتي، كُنتَ الشمسَ في شتائي..

  تـعـلـم!
     أحياناً يكون إكرامَ الحُبِ دفنُه، أعذرني فـقلبي أنهكَهُ الفراق..
     عزيزٌ أنتَ وغالي، كنتَ أكثر من زوجٍ وحبيب، كنتَ كـوطنٍ تحتوينيّ، كـلاجئةٌ كنتُ إليك، و لكنَ الروحُ مهما طالَ بقاؤها في الحياة فهي أمانةٌ لا أكثر..
بَهُتتْ نفسيّ، وتوقفت أفكاريّ عن الكلام، كم كنتُ أتمنى رؤيتك قبلَ الغفوةِ الأخيرة، أعلمُ بأن ذكرانا ستُؤلمك، أعلم وما بيدي أيةُ حِيلة

     شـكـراً..
شكراً على ما عِشتُه معك..

     تـعـلـم!
رُغم كل شيء سأبقى أعيشُ معك، ستلقاني
  أجـل..

     أرجوك لا تحزن ولا تكتئب، أنت كلُ إنتصاراتي فـفتخر..
والآن سأحملُ حُبكَ معي لـلقبر فلا تُطل عليَّ الغياب فـإني أنتظر.. »

المخلصةُ إليكَ والحبيبة:
شَـفْـق...

***

كانت دموعُه تهطلُ كـالمطر، حاول كتمانها، حاول كبتها، ولكنها قويةٌ شقت طريقها للخروج، لا يزال ذلك الإعصار من المشاعر يكمن داخله، لا تزال النيران تُوقِد في أعماقه، مهما حاول فـلن تُطفئ نيرانُه، و مهما هطلت عليها دموعُ الأفراح إلا أنها شحيحةٌ لا تُطفئٌ شُعلةَ كبريت، لا تزالُ تلك الغيوم ثابتةً في سمائه، لا يزال ذلك الفراغ يأكلُه..
.

وضع تلك الورقة جانباً وظرفها، إستلقى على ظهره وراحَ يُحدقُ في السقف مُتأمِلاً ذكرياته، تلك التي عاشها في أحضانِ الوطن وبين ذراعيّ من أحب، رغمَ كلِ ما مضى عليه، رغمَ كلِ تشوهات جسدِه، باحَ بـحُبِه لها وهي تقبلتُه كما كان، لم تُرِد منه شيئاً سوى الإحتواء والأمان..
.

ولكن الأهل إغتصبوا حُريتهم في البقاء بجانبِ بعض، كانت الأحداث تُعاكِسُ طريقهم، تضرِبهم بـكلِ وسيلةٍ توفرت، حاولا الصمود، حاولا البقاء ولكن الأمر أصعب من أن يتحملاه، إفترقا وإلتصق قلباهُما...
.

طلبت منه إكرام حُبهما بالدفن و لكنها عَلِمت بأنها لن تستطيع إسكاتَ ذاكرتِه عن لفظ الماضي، تعلم بأنه ذلك النوع من الرجال النُبلاء النادرين، ذلك النوع الذي يختار الإخلاص لواحِدةٍ فقط، تلك التي يختارُها قلبه، ولكنها حثته على المضي والعيش، وهي ستنتظره..
.

شعر بالضيق، شَعر بالذكرى تخنُقه، تحركَ مُغادراً منزله، توجه لغسلِ أفكاره، قادتهُ قدماه إلى حيثُ التلة، إلى حيثُ إعتاد على رؤية الشفق ولكنه تأخر كثيراً فقد أسدل المساء سِتاره وهطل الظلام..
.

ليلٌ مشوؤم، ليلٌ يُزينه نعيقٌ البوم و عِواءُ الوحدة، أرخى جسده على إحدى الأشجار، كانت حباتٌ قليلة من الثلج تتساقط، رغمَ أن الشتاء شارفَ على الإنتهاء إلا أنَّ الرياحَ البارِدة لا تزالُ تصفعُ وجوه المارة..
.

إختار السيرَ بدلاً من البقاء، تتدفق الذكريات بوابلٍ من الألم، سار والرياح، يقوده الصمت، صامَ قلبه عن الكلام و تحدث عقله كـإذاعةٍ لا تَسكُت..
.

والـلـيـلُ يـبـتـدعُ الـتـهـاويـلَ الـغـريـبـاتِ الـفـنـونْ
ويُـرَهِّـلُ الـمـذيـاعُ حـشرجـةً يُـسـمـيـهـا الـلـحـونْ
الـحـبُّ مـتّـهـمٌ ومـتـهـمٌ أسـى الـقـلـب الـحـنـونْ *

.

عادَ إلى منزله، عاد مُثقلاً بـهمٍ من الأفكار، إستلقى على فِراشه مُنهكَ الجسد، يشعر بالألم بدونِ سبب، يشعر بأنه سيفقد كُلَ شيءٍ تمسكَ به بـدونِ مقاومة، وكأنه يستسلم للقدر مجدداً..
.

إنتهت تلك الليلة بوابلٍ من الأفكارِ في رأسه، نامَ ثقيلَ البال، أُنهِكَ بـدونِ أن يعمل، حالٌ آل إليها كـمريضٍ أسقمتهُ كلمات الوداع..
.

أشرقَ النهار، وغردت الطيور، تلألأ الثلجُ كاسِراً أشعة الشمس الجلية، يومٌ يلوح بقدومِ الربيع، إنحسرت مساحاتُ الثلج وبانَ من أسفلِها غطاءُ العشب المُخضر لامعاً..
.

خرجَ جانيل من منزِله عابسَ الوجه تعيسَ الحال، توجه إلى سيارته وقادَ في سبيله بمللٍ بادٍ، كانَ من شأنِه البقاء في المنزل ولكنه لم يُرد سجن نفسه بينَ صدى الذكريات، إختارَ قتلَ الفراغ علَّهُ ينسى ويتعافى، فتحُ جروح الماضي وإن خفت تظلُ مؤلمة...
.

إندثار الحب لا يعني عدم عودتِه، دفنُه لا يعني بأنه قد مات، طالما تتذكر وتعيشُ أحداثاً قلتَ عنها إنـتـهت، فإنك لا تكذبُ إلا على ذاتك، وإن كنتَ مُقتنعاً بذلك فهذا ليسَ سوى غشاءٌ عن الحقيقةِ فـإستيقظ!
.

متكئٌ على مِقعدِه يُحدِقُ في الفراغ، أتاهُ صوتٌ منادياً عليه من العدم، حاثاً إياه على الخروج من تلك الهاويةِ المظلمة، منتشِلاً إياه من دوامةِ التفكر كـطوقِ نجاة...
.

-  Excuse me! Mr. Janelle
« المعذرة! سيد جانيل »
إستيقظ عائداً وتحدث:
- Hmm ... What?!
« ماذا؟! »
- Your cellphone's ringing!
« هاتفك يرن »
- Oh!!
« أوه!! »
ألقى نظرةً على الرقم المُتصل ولكنه غريبٌ عن باقي الأرقام لديه..
أجابَ وعلامات الإستفهام تُزينُ أفكاره..:
- Hello!
« مرحباً »
- Is this Mr. Janelle!?
« السيد جانيل!؟ »
- Yes!
« أجل! »
- I'm calling from the...
« أنا أتصلُ من الــ ... »
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

( * ) الدجى المشبوه " البردوني "

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔Where stories live. Discover now