الفصل الثاني

363 75 42
                                    

ما إن دخلتُ إلى مكتبي حتى تنفسّت الصعداء إذ سرعان ما وقعت عيناي على السيد ويرث الذي كان جالساً على كرسيِّ الجلديِّ الذي يقع وراء مكتبي موجهاً نظره إلى الباب وكأنّه ينتظر قدومي.

لم يكن مكتبي كبيراً، ولم تكن حاجياته كثيرة، خلف طاولة مكتبي توجد نافذة زجاجية ضخمة تغطي نصف الجدار، أما أمامها فتوجد طاولةٌ أخرى صغيرة وبجانبها أريكةٌ ضيقة.

توجهت إلى الأريكة فنزعتُ معطفي ووضعته عليها ثم خاطبت السيد ويرث بشيءٍ من العتاب:
-سيد ويرث، مالذي تفعله هنا؟ لقد أصابني الذعر حقاً حينما لم أجدك في مكتبك، هل هناك خطب م...
-كلا، مالذي تفعلينه أنتِ هنا، سيدة سيل؟

صدمتُ بمقاطعته لي فهو من أكثر الناس احتراماً للآخرين سواء كان يتحدث مع شخص كبير أم صغير، فلباقته بالتعامل هو ميزة معروفة به.

-عذراً سيد ويرث، ما الذي تقصده بماذا أفعل هنا؟ إنّ هذا مكتبي ومن الطبيعي أن أتواجد في...

قام بمقاطعتي مجدداً ولكن بنبرةٍ باردة أصابتني بالقشعريرة:
-ألم يخبرك أحد بالأمر بعد؟
-عن أيِّ أمرٍ بالضبط؟

وقف السيد ويرث بهدوء ثم أردف قائلاً:
-سيدة سيل، من هذا اليوم فصاعداً أنتِ لم تعودي مديرة شركة زيد، بل أنا.

بدا الأمر كمزحة رغم أنّ صوته كان جديّا للغاية، ترنّح جسدي قليلاً وتأمّلت وجهه بعمق للحظات.

-سيد ويرث، مالذي تتحدث عنه؟ أنا لا أذكر بأنني قمتُ بتعينك مديراً للشركة من قبل.
-بل فعلتِ ذلك، كما أنّك لم تقومي فقط بتعيني مديراً بل تنازلتِ أيضاً عن جميع الأملاك التي ورثتها عن جدك من ضمنها هذه الشركة والأراضي السياحية في الغرب وكراج السيارت الموجود أسفل المبنى.

بدا وجهه متعب للغاية، حديثه ذو نبرةٍ واحدة منخفضة الصوت ولكن حادة تقطع أذني كالسكين.

ضحكتُ بذعر متحدّثةً بصوتٍ مرتبك:
-عذراً، سيد ويرث، لا أظن أن أيّاً من هذا قد حدث، يبدو بأنّك متعب وقد تشابكت عليك الأمو...

قاطع حديثي مجدداً رميه لكومة الأوراق التي كانت على مكتبي؛ فتطايرت الأوراق أمامي ثم أخذت تسقط أرضاً واحدة تلو الأخرى.

-هذي الأوراق قمتِ بتوقيعها بنفسك خلال هذين الأسبوعين، في كلّ ورقة قمتِ بتوقيعها تنازلتٍ عن مُلكٍ معين.

لم ألملم الأوراق، ولم أنخفض لالتقطها حتى، كان توقيعي واضحاً على كلّْ واحدة منها، فتلك الورقة وقعتها حينما كنت أتناول فطيرة المربى مع صديقاتي، وتلك الورقة وقعتها بعد استيقاظي من النوم وتلك الأخرى وأنا أشاهد مسرحية هزليّة.

كلّ واحد منهن حملت توقيعي كشهادةٍ على مدى إهمالي وتكاسلي في الأسبوعين الماضيين.

ترنّح جسدي مجدداً، جاوبته بصوتٍ مرتجف دون أن أحرك ناظري عن تلك الأوراق المبعثرة:
-كيف لك أن تفعل هذا، سيد ليام؟.. لقد وثقت بك.. وسلّمتك كل أمور الشركة بالفعل مالذي تريده أكثر من هذا؟

ابتسم السيد ويرث بسخريّة، لأول مرة بدت ابتسامته مخيفة.

-سلمتني أعمال الشركة؟! أم أنّك دفعتِ بكل أعبائها عليّ؟ كما أنني، لم أقم بإجبارك على توقيع أيٍّ من هذه الأوراق بل بالعكس لقد نبهتك مراراً عن أهمية قرائتها ولكنّك لم تصغي.
-لأنني وثقت بك! وثقت بأنّ مهما كان محتوى تلك الأوراق فهو سيكون لصالح هذه الشركة.
-وهو كذلك بالفعل، سيدة سيل، إنّ استلامي لإدارة هذه الشركة سيكون أكثر أمراً صالحاً لها.

عمّ الصمت لحظات ثمّ أردف ليام قائلاً:
-أنتِ لستِ مؤهلة لهذا المنصب، سيدة إيامي، أنتِ لست سوى أميرةٍ مدللة فارغة من أيّ هموم أو أعباء وكلّ ما يشغل بالك هو كيفية الاستمتاع بوقتك والعيش برفاهية، أنتِ مهملة، غير جادة بعملك، مزيّفة، بلا أيّة آمال، إنَّ مصير هذه الشركة سيكون الفشل حتماً إن بقي بين يديكِ.
-مزيّفة؟! من منا المزيف هنا؟

ضحك ليام بسخرية، تأمّل وجهي المتألّم للحظات ثم أردف:
-لستُ شخصاً سيئاً، أنا أريد الأفضل لهذه الشركة فحسب ووفقاً لهذا يؤسفني إخبارك بأنني لن أقوم بتوظيفك هنا، فكما أخبرتك مسبقاً أنتِ لست مؤهلة لهذا العمل، كل ما تقومين به هو إلقاء اللوم على الآخرين بينما تقفين مكتوفة الأيدي دون القيام بأيّ شيء.

صمت ليام للحظة مجدداً ثم قال:
-يجب عليكِ إيجاد عمل سريعاً فمدّخراتك بحسابك المصرفي لن تكفي لأكثر من ثلاث سنوات، حسناً، ليس وكأنّ هذا من شأني.

قال كلامه هذا بينما كان ينظر للأسفل، نقل ناظريه إليّ مجددا ثم ابتسم بخبثٍ قائلاً:
-ربما ليس عليكِ البحث عن عمل سيدة إيامي، يمكنك الزواج بي فحسب.

عمّ الصمت مجدداً ولكن لم يدم طويلاً إذ سرعان ما أردف ليام بالحديث:
-أنتِ لا تمانعين الزواج بي، أليس كذلك؟ أقصد ستعيشين باقي حياتك كالأميرة المدللة مجدداً وتستمتعين بالعيش برفاهية، بالإضافة لذلك، أنتِ تحبينني، أليس هذا صحيحاً، سيدة إيامي؟

لم تكن ابتسامته مخيفة هذه المرة، بل كانت مؤلمة، مؤلمة للغاية.

-كلا، إنّ هذا خاطئاً.. أنا لا أحبك سيد ليام.

لم تتلاشى ابتسامته، فأكملت حديثي:
-كما أنني أفضل أن أموت جوعاً على أن أتزوج بك.

ضحك السيد ليام بصوتٍ عالٍ هذه المرة قائلاً:
-من السهل التحدث بشجاعة هكذا، ولكنّك لا تعلمين ما هو مذاق الجوع، سيدة إيامي.
-سوف أقاضيك.
-هذا بلا جدوى، أنتِ تعلمين هذا جيداً، فما من أدلةٍ كافية، كما أنّك وقعتِ هذي الأوراق بإرادتك الكاملة، إن كنتِ تجدين هذا غير عادل، إذا فلتعملي بجد ولتعودي لتستعيدي ما هو ملكك بدلا من إضاعة وقتك بقضيةٍ خاسرة.

كان كلامه صحيحاً، فما من أدلةٍ كافية لأفوز بهذه القضية فلم أجب بشيء بل التفت متجهةً للخروج من المكتب قبل أن أسقط أرضاً أمامه.

وبينما كنتُ أفتح باب المكتب، سألني ليام ببرود:
-أحقاً سترفضين الزواج بي، سيدة إيامي؟

لم أجبه بشيء فأردف قائلاً:
-حسناً، أليس لديك ما تقولينه لي؟

التفتُ إليه، أبرقت السماء فخترق الضوء زجاج النافذة الضخمة لينعكس على عينيّ البنيّتين، أجبته بنبرة باردة كالصقيع:
-فلتذهب إلى الجحيم.

أرعدت السماء بينما ابتسم ليام قائلاً:
-لقد أخبرتك.. مزيّفة.

الوريثة الوحيدةWhere stories live. Discover now