الفصل الخامس

254 64 41
                                    

أخذت السيارة تقترب مني شيئاً فشيئاً، لم تكن مسرعة، بل كانت تسير على مهلٍ لتجاري خطواتي.

تسمّرت في مكاني للحظاتٍ ثم بدأت بالجري، كان جسدي ثقيلاً بسبب حذائي ذو الكعب العالي وملابسي المبللة، وكان الجسر غارقاً بالمياه بسبب تلك الأمطار الغزيرة إذ كانت تسيل من جانبيه ثم تسقط بالبحيرة أسفله.

لم تتوقف تلك المركبة عن ملاحقتي بل ازدادت سرعةً واصراراً، بضع خطواتٍ تفصل بيني وبينها، بينما بدأت قوتي تتلاشى وخطواتي تتباطأ، وإذ بكعبِ حذائي قد كُسِر فسقطتُ أرضاً وبدأت قدمي تنزف.

ظننتُ لوهلة بأنَّ تلك السيارة  ستصطدم بي عمداً ولكنّها توقفت فجأة.

كانت أضواء السيارة الأمامية ساطعة للغاية انعسكت على أرض الجسر المبللة.

فُتِح باب السيارة وترجَّل منها أحدهم، لابدَّ أنه كان يمسك مظلة إذ استطعت سماع قطرات المطر وهي تتساقط عليها.

فعل الخوف فعله بي، تجمّدت أطرافي ونسيتُ أن أتَنّفس لوهلة ثمَّ صوتٌ مألوفٌ نادى باسمي:
-سيدة إيامي؟!

التفت ببطء كان الرجل يقف خلفي تماماً مقرِّباً مظلته مني، ينظر إليّ بملامحه الحنونة بقلق.

-سيد مارتي؟!.. ما الذي تفعله هنا؟!

ساعدني السيد مارتي في الصعود إلى السيارة فارتميت على كرسيها الجلديّ في الخلف، إذ كنتُ مرهقة للغاية.

راقبت السيد مارتي وهو يغلق المظلة ثم يضعها في مكانها، ثمَّ صعد إلى مقعده الأمامي فجلس خلف المقود محدّثاً إيايّ بلطف، ناظراً إليّ عبر المرآة:
-لقد كنتُ قلقاً للغاية عندما اتصل بي السيد ليام..

قاطعته بدهشة:
-ليام؟!.. ليام اتصل بك؟

أجابني بنبرته اللطيفة ذاتها:
-أجل، أخبرني أنك نسيتِ معطفك بالإضافة لهاتفك ومحفظتك كما طلب مني أن أبحث عنكِ بالأرجاء، حسناً..، من حسن الحظ أنني وجدتك بسرعة.

كانت أغراضي بجانبي بالفعل ورغم أنني كنت أشعر بالبرد إلا أنني لم أملك أيَّ طاقة لارتداء معطفي فاكتفيت بالاتّكاء على نافذة السيارة فلم يعد يستطيع السيد مارتي رؤيتي عبر المرآة.

-هل كنتَ أنت من يقود تلك السيارة؟ كانت تقفُ على الجهة الآخرى من الجسر.
-الجهة الآخرى من الجسر؟!.. يا إلهي، بالطبع لا! من ذاك المتهور الذي سيقف بذاك المكان؟

صمت سيد مارتي للحظات ثم سألني بهدوء:
-هل أنتِ متأكدة، سيدة إيامي؟ ربما كنت تتوهمين فحسب؟

راقبتُ أعمدة الإنارة التي كانت على طرف الطريق، أغلقت عيني ببطء ثم أجبته:
-ربما.
-عليكِ أن تأخذي حماماً دافئاً بعد دخولك المنزل فوراً كي لا تصابين بالزكام، كما أنّ قدمك تحتاج لضمادةٍ و مطهّرٍ أيضاً، من الجيد أنَّ الجرح لم يكن عميقاً..حسناً، أنا متأكد أن كبير الخدم السيد وارم سيعتني بك جيداً، إنّه شخصٌ صالح.

لم يكن كبير خدمي الشخص الصالح الوحيد، لقد كان السيد مارتي أحد سائقي شركة زيد المعروفين؛ فهو طيب القلب، جديرٌ بالثقة ورغم كبر سنه إلا أنّه كان سائقاً مخضرماً يعرف طرق المدينة كلّها.

لم تكن السيارة دافئة رغم أنّ السيد مارتي قد شغّل جهاز التكييف، وكانت قطرات المطر تزداد قوةً مصدرةً صوتاً مخيفاً إثر اصطدامها بسقف السيارة.

كنتُ على وشك أن أغفو حينما أيقظني صوت رنين هاتف السيد مارتي، لم يكن اتصالاً بل رسالةٌ فحسب، فتحت عينايّ وراقبت السيد مارتي بصمت، ما إن تفقد رسالته حتى إصفرّ وجهه وارتعشت يداه.

أبعدتُ رأسي عن النافذة فلتقت عينيّ بعينيّ السيد مارتي عبر المرآة:
-أكلّ شيءٍ على مايرام، سيد مارتي؟

لم يجبني بل أشاح بناظريه عني وأخذ يقود بسرعة أكبر.

تحدثت بصوتٍ مرتفع هذه المرة:
-سيد مارتي؟
-أ..أجل،.. لا تقلقي..

ابتسم لي من دون أن ينظر إليّ حتى، فجأة أصبح المكان من حولنا مظلماً فلم أعد أرى أعمدة الإنارة، استدرتُ بسرعة لأنظر عبر الزجاج الخلفي للمركبة، أضحت أعمدة الإنارة خلفنا بالفعل؛ فأدركتُ بأننا قد خرجنا عن الطريق الرئيسيّ، خاطبت السيد مارتي بذعر:
-لماذا تذهب بهذا الاتجاه؟
-إنّه طريقٌ مختصر..

ارتابني الشك فبدأت أنظر من حولي يميناً وشمالاً ثم بدأت أغصان أشجارٍ ترتطم بسقف السيارة ونوافذه.

-سيد مارتي..أليست هذه غابة قيسار؟

صمت سيد مارتي للحظات ثمِّ أجاب بصوتٍ خافت:
-أجل.
-لكن، طريق منزلي بالاتّجاه المعاكس تمام...

لم أستطع أن أكمل جملتي حتى، إذ أدار السيد مارتي مقود السيارة بسرعة فمالت السيارة بقوّة ومال جسدي معها فصطدم رأسي بزجاج النافذة بعنف، تحطّم الزجاج وشعرت بدمائي تسيل من رأسي وبدأت أفقد وعي تدريجيّاً، آخر ما أتذكره كان وجه السيد مارتي المرتعب وجملته المخيفة تلك:
"-أرجوكِ، سامحيني،..سيدة إيامي.."

................

رأيكم يهمني 

تصويت

تعليق

سيعني لي الكثير ❤️

*سيتم تنزيل الفصل السادس الأحد القادم*

الوريثة الوحيدةWhere stories live. Discover now