الفصل الرابع عشر

184 40 18
                                    

وضعَ السيد وارم كوب القهوة الدّافئ على الطاولة أمامي قائلاً بتعجّب:
-لا أصدق هذا، لقد صنعت السيدة ليزا كلّ هذه الأطباق وأنتِ ترغبين بكوبٍ من القهوة!
-بالطبع، لا أنكر مهارة السيدة ليزا بالطبخ ولكن ما من شيءٍ يضاهي مذاق القهوة الّتي تعدّها أنت، سيد وارم.

ضحك السيد وارم واقفاً بجانبي حاملاً حقيبته بينما أخذتُ رشفةً من فنجان القهوة ذاك، أعدتُ الفنجان إلى صحنه الصغير على الطاولة ثمَّ همست وأنا أتأمّل لون القهوة الدّاكن أمامي:
-من المؤسف بأنَّ هذا هو فنجان القهوة الأخير الّذي ستعدّه لي..

عاد الحزن يغمر وجه السيد وارم، وضع حقيبته أرضاً قائلاً:
-سيدة إيامي..أرجوكِ..

قاطعته بعَجَلَةٍ:
-يا إلهي، سيد وارم! أنظر إلى الساعة، سيفوتك القطار حتماً إذا تأخرتَ أكثر من هذا، هيا، هيا بسرعة! لم يتبقى الكثير من الوقت.

حمل السيد وارم حقيبته مجدداً متوجّهاً نحو الباب، والحزن قد أثقل كاهله، التفتَ إليّ قائلاً بصوتٍ مبحوح:
-اعتني بنفسك جيداً..سيدة إيامي.

مضت عدّة دقائق منذ رحيل السيد وارم، عاد الصمت القاتل مجدداً، جسلتُ هناك أصغي إلى صوت عقارب السّاعة المزعجة، وأشعر بتلكَ الحفرة اللّعينة تنفتح تحت كرسيِّ مجدداً؛ فأحكمتُ إمساكي لفنجان القهوة بيدي الاثنتين كغريقٍ يتشبّث بحبل نجاته الوحيد،هامسةً لنفسي:
-كلَّ شيءُ سيكون على ما يرام.

ألقيتُ نظرة على مائدة الطعام، أضحتْ الأطباق باردةً منذ فترة ورغم أنّي لم أكن أملك أيّة شهيّة إلّا أنّه سيكون استهتاراً بالجهد الّذي بذلته السيدة ليزا إذا لم أتذوقهم على الأقل؛ فرحتُ أتناول القليل من كلِّ طبقٍ.

في ذلك الوقت، كان السيد وارم في طريقه إلى محطّة القطار راكباً سيّارة أجرة، مدَّ يده إلى جيبه باحثاً عن هاتفه ليرسل رسالةً إلى السيدة ماري يُعلِمها بأمرِ عودته لكنّه لم يجد شيئاً، بحثَ في حقيبته الصّغيرة فلم يجد شيئاً أيضاً؛ فخاطب السائق بأدبٍ ولطفٍ قائلاً:
-هلّا عُدتَ من حيث أتينا من فضلك؟ يبدو بأنّي نسيتُ هاتفي هناك.

رغمَ أنّي لم أكن أشعر بالجوع إلّا أنني وجدتُ نفسي أستمتع بالأكل مع مرور الوقت، فقد كان الطعام لذيذاً للغاية، كما هو متوقع من طبّاختي الماهرة، التفتُ إلى المطبخ حيث كانت تقف السيدة ليزا دائماً لأشكرها على هذه الأطباق الطَّيبة ولكنني لم أجد أحداً.

'-آه..هذا صحيح..لقد رحلتْ..'

شعرتُ بالهدوء المخيف يعود مجدداً ولكن لم يعد لوحده هذه المرة، إذ عاد وبرفقتهِ ذكرياتٌ من تلك الحادثة الشنيعة..

أرضٌ باردة كالصقيع، غرفة مظلمة وسقفٌ منخفض كالقبر، أستلقي هناك بملابسي الرّثة القذرة، ووضع على الأرض فوق رأسي إنائين واحدٌ فارغٌ كانت فيه بعض المياه منذ ثلاثة أيامٍ مضت والآخرُ يحتوي فتات خبزٍ عفن تجمّعت حوله قطيعٌ من النمل الأحمر الكبير، بينما كانت معدتي خاوية من أيّ طعامٍ منذ عدّة أيام..

"...ولكنّك لا تعلمين ما هو مذاق الجوع، سيدة إيامي."

رُنَّ صوتُ ليام في رأسي كمنبّه مزعج؛ فضربتُ على مائدة الطعام بيديّ الاثنتين بقوّة بعد أن تملّكني غضبٌ جامح كنتُ قد ابتلعته لفترةٍ طويلة صارخةً مخاطبةً ليام وكأنّه يجلس أمامي:
-ما الّذي تعرفهُ أنت بحق الجحيم؟!..ما الّذي تعرفه عنّي؟!..

سُكِبَ كوب الشاي البارد على المائدة بينما اهتزّت باقي الأطباق من شدّة الضربة، وضعتُ يداي الاثنتين على رأسي إذ عاد الوجع الرهيب ذاك فجأة؛ فرحت أتمتم مكررةً كلامي بصوتٍ خافتٍ مخنوق:
-ما الّذي..تعرفه..أنت..؟..ما الّذي.. تعرفه..عنّي..؟

دون أن أدرك أنّ السيد وارم كان يقفُ في الخارج على وشكِ أن يطرق الباب حينما سمع صوتَ صراخي فتراجع عن الأمر وبقيَ هناك للحظاتٍ بتعابير حزينةٍ للغاية ثمَّ رحل من جديد دون أن يستعيد هاتفه.

.................................................

*سيتم تنزيل الفصل التالي يوم الأحد القادم*

الوريثة الوحيدةWhere stories live. Discover now