الفصل السادس

229 63 32
                                    


حينما استعدت وعيِّ، كانت ثيابي المتسخة بالطين أوّل ما رأيته، إذ كنت أجلس على الأرض المليئة بالوحل، وجسدي قد رُبِطَ لجذع شجرةٍ ضخمة.

لم تكن الحبال مشدودةٌ بقوة ولكنَّ رأسي كان يؤلمني للغاية وقدمي مازلت تنزف.

نظرتُ حولي، أشجار شاهقة الارتفاع تحيط بي من كلِّ الجهات، لكن لم يوجد الكثير منها، فأيقنت بأنني بمكانٍ ما على طرف غابة قيسار إذ استطعت أن ألمح الطريق الإسمنتيّ المؤدي إلي الغابة على مسافة ليست ببعيدةٍ مني.

لم تكن الأشجار كثيفة فكان بإمكاني أن أرى السماء السوداء الخالية من النجوم، بينما حجبت الغيوم الداكنة القمر بالكامل.

'يبدو أنَّ المطر قد توقف منذ فترة، لكن مالذي جاء بي إلى هنا؟ أكان السيد مارتي؟'

قطعَ تفكيري صوت بكاءٍ قادمٍ من خلفي حاولت بجهدٍ أن أستدير فوجدتْ السيد مارتي يستندُ إلى جذع شجرةٍ أخرى يبكي بحرقة.

لقد كانت رؤية رجلٍ كبير بالسنِّ مثله يبكي كطفل صغير أمراً مؤلماً فعلا ولكن مخيفاً أيضاً، فخاطبته بهدوء:
-سيد مارتي، لماذا تفعل هذا؟

لم يجبني بل استمرَّ ببكاءه، لكنني ناديته من جديد:
-سيد مارتي، أرجوك..أخبرني ما الخطب؟ ما كان محتوى تلك الرسالة؟..لماذا عليكَ أن تفعل هذا بي؟
أجابني باكياً بصوتٍ مخنوق:
-أنا آسف..أنا..آسف..سامحيني، أرجوك..عائلتي، أحفادي الصغار..أنّهم بحوزته..لقد هددني..لقد أجبرني على ذلك..أنا...آسف..

بدأ الذعر يتملّكني ببطء لكنني خاطبته بالنبرةِ الهادئة ذاتها:
-من هو..؟ من هو الذي أحتجز عائلتك، سيد مارتي؟ من هو الذي هددك؟

صوتُ خطواتٍ ثقيلة تدوس بالوحل قاطعت حديثنا، استدرتُ برعب، أراقب الاتجاه الذي يصدر منه الصوت، كانت الأشجار قليلة فاستطعت أن ألمح خيالاً أسوداً لشخصٍ يقترب لكنَّ الظلام كان حالكاً فلم أكن أرى بوضوح.

أخذ ذاك الشخص يقترب أكثر بينما صوتُ بكاء السيد مارتي يعلو أكثر مردداً اعتذاره مراراً وتكراراً.

ظهر الشخص من بين الأشجار أخيراً، بضع خطواتٍ بيننا فقط، فانتفض السيد مارتي من مكانه وراح يركض مبتعداً عني تاركاً إيايّ وحيدةً مع هذا الشخص الغريب.

كان ملفّحاً بالأسود، يرتدي بنطالاً ومعطفاً جلدياً يكسوهما السواد ويضع كمامة بيضاء تخفي فمه وأنفه وقبعة رمادية تغطي رأسه وعينيه، يحمل بيده اليمنى هاتفه النقّال وبيده اليسرى سكيناً كبيرة الحجم طويلة حادة تلمع رغم الظلام الدامس.

شعرتُ كما لو أنَّ قلبي قد توقف، وأنفاسي راحت تتسارع وجسدي يرتعش بأكمله، أردت أن أصرخ لكنَّ صوتي خانني فأخذت أهمس متأتئةً:
-ل..لا..ل..لا..أ..أرجوك لا..لا ت..تفعل..

راح يقترب مني ببطء متجاهلاٌ مناجاتي له، ممسكاً سكينه تلك بإحكام.

رحتُ أحرك جسدي يميناً وشمالاً بهستيريّة علّي أخلّص نفسي من تلك الحبال وأنا أصرخ، لم يخنّي صوتي هذه المرة، بل كان صوتي عالياً للغاية هربت بسببه الطيور التي كانت جالسة على الأغصان حولنا.

-كلا..كلا.. لا.. ابتعد.. ابتعد عني..، سيد مارتي، أين أنت؟ سيد مارتي، أرجوك عد،..فلينقذني أحد ما..كلا.. ابتعد..

رفع يده مستعدّاٌ ليغرسَ سكينه بي، تجمّدت بمكاني وأغلقت عيناي خاضعةً للأمر لكنَّ صوتُ تحطُّمٍ قويّ جعلني أفتح عيني من جديد لأجد ذاك الرجل يترنّح بمكانه والدماء تنزف من رأسه، وضع يده على جبنيه من شدة الألم بينما سقطت السكين منها، ضربةٌ أخرى وُجِّهَت إلى رأسه فسقط أرضاً بجانب سكينه، بينما كان يقف خلفه السيد مارتي حاملاً بين يديه غصن شجرةٍ عريض.

رمى السيد مارتي الغصن أرضاً ثم التقط السكين بسرعة وتوجّه إلي ليفكَّ وثاقي ثمّ وضع ذراعي حول عنقه وأخذ يساعدني بالهروب.

بالكاد استطعت الوقوف إذ جعلني الخوف كالدمية بلا أيّ حواس فجررت قدمايّ جرّاً لأبتعد عن ذاك الرجل قبل أن يفيق بينما السيد مارتي يلهثُ، يسحبني بكل قوته لأستطيع إكمال المسير.

-تمالكي نفسك، سيدة إيامي،.. سنهرب حتماً، سنخرج من هنا حتماً... استمري بالمشي، استمري..

لم أكن أرتدي حذاءً فأخذت الأغصان الصغيرة المتساقطة على الأرض تتحطم تحت قدميَّ العاريتين وتخترق تلك الأشواك الناعمة قدمي المجروحة بينما تغرق قدمي الأخرى بالوحل اللزج.

التفت لأتفقد ذاك الرجل فإذ به قد نهض بالفعل، يحمل هاتفه بيده ،يجري مكالمةً هاتفيّة مع أحد ما.

صرخ السيد مارتي فالتفت إليه:
-لا تتوقفي سيدة إيامي، أكملي، أكملي سيرك، بسرعة..بسرعة..

لكنّ الفضول غلبني فاستدرتُ من جديد.

لم تعد تلك الغيوم الداكنة تخفي القمر الساطع خلفها إذ كان شعاعه الفضيّ قد أغرق جسد ذاك الرجل، فاستطعت أن أرى قوامه بوضوح بالإضافة للون شعره وبشرته، رغم ذلك لم أستطع أن أرى عيناه، كان قد أنهى مكالمته فرمى بهاتفه أرضاً وراح يراقبنا ونحن نحاول الهرب منه بيأسٍ.

امتلئ المكان فجأة بصوت سيارات الشرطة مُعلِنَةً قربها، فأدرت وجهي للأمام من جديد لأدرك بأننا قد وصلنا للطريق الإسمنتيّ.

سقطنا أنا والسيد مارتي نحتضن الأرض، نتنفّس بصعوبة.

رفعتُ رأسي فإذ بسيارات الشرطة قد وصلت محتلّةً المكان بصوتها الصاخب وأضوائها الملونة، كانت مزعجة ولكن مطمئنة، التفت للوراء مرةً أخرى لكنّ الرجل الغريب كان قد اختفى بين الظلام.

..................................

رأيكم يهمني ❤️

تصويت  أو تعليق

سوف يعني لي الكثير .. 🌹

دعمكم لي هو حافزي لإكمال هذه الرواية 

ودافعي لكتابة الفصول بشكلٍ أسرع 

🌸🌸🌸

*سيتم تنزيل الفصل السابع الأحد القادم*

الوريثة الوحيدةWhere stories live. Discover now