17

948 11 0
                                        


الجــــزء الســــابع عشــــر

حسبي من الهّم أنّ القلب ينتحبُ، وإن بدا فرحي للناس و الطربُ
مسافرٌ في دروب الشوق تحرقني، نار انتظاري ووجداني لها لهب
كأنني فارس لا سيفَ في يده، والحرب دائرة والناس تضطرب
أو أنني ُمبحر تاهت سفينته، والموج يلطم عينيها وينسحب
أو أنني سالكُ الصحراءِ أظَمأه، قيظٌ وأوقفه عن سيره التعب
يمد عينيه للأفق البعيد فما، يبدو له منقذ في الدرب أو سبب
يا شاعراً ما مشت في ثغره لغةٌ، إلا وفي قلبه من أصلها نسب
خيول شعرك تجري في أعنّتها، ما نالها في مراقي عزّها نصب
ريحانةَ القلب عين الشعر مبصرةٌ، وفجرنا في عروق الكون ينسكب
وأنت كالشمس لولا نورُها لطغى، ليل المعاناةِ وازدادت به الحُجب
يا من أبى القلبُ إلا أن يكون لها، وفـيه مأوى لعينيها ومنقلب
الله يكتب يا ريحانتي فإذا، أراد أمضى وعند الناس ما كتبوا
لو اجمعَ الناسُ أمراً في مساءتنا، ولم يُقدّر لما فازوا بما طـلبوا
ريحانةَ القلب روح الحب ساميةٌ، فليس ُيقبل فيها الغدر والكذب
ليس الهوى سلعةً ُتشرى على ملأٍ، ولا تباع ولا يأتي بها الغَلب
قد يعشق المرءُ من لا مالَ في يده، ويكره القلبُ من في كفّه الذهب
حقيقةٌ لو وعاها الجاهلون لما، تنافسوا في معانيها ولا احتربوا
ما قـيمة الناس إلا في مبادئهم، لا المال يبقى ولا الألقاب والرتب

لـ عبدالرحمن العشماوي

كانت تجلس في الصالة وتشاهد باندماج تام احد البرامج الدينية على قناة الشارقة ... وصوت الشيخ يرن على مسامعها بسكينة عطرت جو المكان برائحة المسك:
كان نبينا الكريم عليه الصلاة والسلامة مدركاً تماماً أهمية ما خصه الله عز وجل من نعم وألطاف، فكان عليه الصلاة والسلام لا يرى بأساً من تبيان ما يملكه من نعم لصحابته رضوان الله عليهم والناس، لذا تراه يقول: انا محمد النبي الأمي، وقال ذلك ثلاث مرات وقال: ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكَلِم وخواتمه وجوامعه .. (المسند للإمام أحمد)
كان بقوله الذي يشع ضياءاً وحكمةً يعلن للناس كافة بأنه سيد البلغاء وخطيب خطباء الأولين والآخرين ..
تمتمت بـ خفوت: اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
: سلام عليج امايه
اقتربت من أمها وقبلت رأسها ... ثم جلست بـ هدوء ..
:عليج السلام والرحمة ...
قطبت حاجبيها متفحصةً وجه ابنتها الشاحب المُصفر واردفت: عنوده بلاج فديتج ..!!
شعنه ويهج غادي شرا الكركم ..!!!
ابتسمت العنود ابتسامة لم تتجاوز عيناها وقالت بـ بحة خفيفة: لا فديتج ما بلايه شي .. مصدعه بس ..
حدّقت أم العنود بـ عينا ابنتها من تحت رموشها وقالت: مصدعه بس عنيدي ..؟!!
ارتجفت غصة كانت واقفة في وسط بلعومها كالصخر ..
"العنيدي" ..
لم تسمع هذه الكلمة من فاه ذلك القاسي منذ زمن مر عليها كالدهر ..
آآآآآآآآآآه ..
سيطرت على انفعالاتها الداخلية وهمست بحشرجة: هيه امايه مصدعه بس ..
ام العنود بـ نبرة حازمة أخرجت معها حكمة سنين ليست بالقليلة: انا ما بحن على راسج عسب تخبريني باللي فيج .. لاني ادري ان شي مستوي بينج وبين سيف .... حركاتكم هالايام وسكوتكم ما يخلي الواحد يطمن ... بس ابا اقولج شي واحد ..
سيف ريلج مثل الياهل .. يباله مداراه واهتمام اكثر .. لا تنسين ان المرض اللي فيه يخليه غصب عنه في نفسية حساسة وايد .. واي شي بيسمعه وبيشوفه يمكن يزيد من حالته ..
غير ان هو بطبعه كتومي وما يرمس عن اللي في خاطره بسرعة ..
عسب جيه اقولج اصبري عليه لو صار امبينكم خلاف ....
ارتجف فك العنود بـ ألم .. لم تتمكن من السيطرة على دمعتين حارقتين نزلتا ببطء من مقلتاها .... وهتفت بنبرة مرتجفة مختنقة:
بـ بـ بس امايه .. و و والله ما سويتله شـ شـي .. ماعرف هو ليش جيه جاسي معايه ..
مسدت ام العنود كتف العنود بحنان متفجر .. لتهتف بعدها برقة: بالمعاملة الحسنة والجلمة الطيبة بتعرفين هو شحقه يعاملج جيه انتي عليج انج تصبرين وما تخلين الامور تنفلت من ايديج ..


وضع رأسه بين ساقيه المنثنيين .... وأخذ يتلو بهمس مبحوح متحشرج موغل "بصبرٍ يكاد يفتك بـ تلابيب صدره":
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة
رفع ببطء رأسه وملامحه القاسية الجلمودية ترهب "بـ حق" كل من يقترب منه .. فـ هو بعد ان حاول قتل ذلك السجين "الذي ظنّ بأنه مات" أصبح مثار احاديث القسم الذي هو مسجون فيه .. وأصبح البعض يتجنبه الا "من يهوى اللعب بالنار" .. والذي يهوى اللعب بالنار يلقى ما يستحقه جزاء نزواته ..!!!
هتف بغلظة خرجت مع نظرته القاسية الصنديدية: لقد سبق وقلت لك لا اريد طعامكم القذر .. ألم تفهم ما قلت ...؟!!
هتف العسكري بـ غل/حقد ... فهو اصبح يكره هذا الهندي المتكبر كره وصل أقصاه في قلبه ... وزاد كرهه بعد ان فلت من عقابه الذي كان يجب ان يناله بعد محاولة قتله للسجين .....
كيف فلت من العقاب هو لا يعرف ..!!!!!
الذي يعرفه ان هذا السجين الهندي يبدو عليه سمات الجبال الشاهقة التي نادراً ما يراها في أحد السجناء لديهم ..!!!
سمات لم يرها الا في بعض السجناء العرب هنا .. بالرغم من ان هذا الهندي قد طغى على العرب في علوا كبريائه العتيد "المثير للغضب" ..

: كُل يا هذا، فأنت لم تأكل شيئاً منذ يومان ..

وبنبرة ساخرة بغيضة أضاف: أم إنك ترغب بخدمة فنادق خمس نجوم هنا ..!!


لم يكترث حارب بما قاله العسكري، بل انه اخفض رأسه بين ساقيه مرة أخرى واستمر بخشوع تام بترديد آيات من كتاب الله علّ همه وكربته هذه تنفرج:
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن ......


تصلبت شفتاه اللتان تتحركان بخفوت ما ان احس بـ ماء بارد يُصب على رأسه ......

تحرك فكه العريض الصلب بـ غيظ ناري "مكتوم" ...... الا انه وبصقيعية تامة .. مسح وجهه بطرف قميص السجن البالي القذر ...... وأكمل الآية بصوت شبه مسموع وصل مسامع ذلك الذي يضحك بشماتة كريهة:
لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) الأنبياء


ما هي الا ثانيتين ... حتى تسمر العسكري بـ خوف "لم يظهره" وهو يرى حارب .. بـ ندبته التي تضيف على خشونة مظهره خشونة قاسية وتعطي لـ شرارات رجولته لمسات ترهب من يراه .. مقبلاً عليه ببطء .....


خاف بالرغم انه يمتلك القوة والسلاح ..!!

ولكن "وقذف في قلوبهم الرعب" ..


هتف حارب بنبرة جلمودية خلت من أي مظاهر "الإحساس": اجلب لي ماءاً نظيفاً في الحال ..

ارتفع جانب فم العسكري بسخرية "خبيثة" وقال: كُل أولاً ثم سأجلب لك ماءاً بدل الذي سكبته على رأسك

احتدت نظرة عينا حارب بانفعال ناري .... فـ هو واجه الموت المحقق فقط لـ جلب ماء نظيف كي يتوضأ به ..
في الحقيقة هو سرقه من عسكري متغافل نائم الليلة الماضية عندما انتهى من فترة تنظيف المطبخ الداخلي للسجن ..
كيف له ان يتوضأ بماء الحمامات التي اختلط صفائه بفضلات الجرذان وصدأ الحديد ..!!
حتى ماء الشرب الشحيح لا يكفيه بتاتاً ليروي ظمأه ..!!!
قال بعد ان تمكن من السيطرة على غضبه الذي "يجب أن يُكبح حتى يحوز على الماء النظيف": حسنا سآكل ..
أمسك بالصحن وبلع لقيمة كبيرة من العدس ذو المذاق المقيت متجنباً بتعمد قطعة اللحم الذي فيه ..
لا يضمن ما إذ كان لحماً عادياً ام لحم خنزير ..!!!
وغير هذا وذلك .. هو يعرف تماماً النظام القذر السائد في هذه السجون ..
تقديم اللحم يومياً وباستمرار سيساعد مسؤولي المعتقل بسرعة من التخلص من الذين لا يريدون لهم الخروج بسلام .. أو التخلص من الاعداد الزائدة في السجن ..!!
(كما هو معروف، أكل اللحم باستمرار سبب رئيسي في الاصابة بداء النقرس الذي اذ مالم يُعالج، سيفتك لا محالة بقوة الشخص ويهلك جسده تدريجياً ..!!!)
هتف العسكري بابتسامة قذرة: كُل اللحم كُل .. لا تخف إنه لحم ضأن وليس بخنزير هههههههههههههه ..
رفع حارب حاجباً واحداً محاولاً ان لا يبين صدمته من حديث العسكري ....
كيف علم انه مسلم ولا يأكل لحم الخنزير ..!!
اتسعت ابتسامة العسكري بدهاء اشد قذارةً وقال متذاكياً: اوووه لا تنظر إلي هكذا يا عزيزي، لقد استنتجت انك مسلم من صلاتك الغريبة التي سبق ورأيت سجناء مسلمين يؤدونها بكل غباء هههههههههههههههه
قاطع ضحكته صوت عسكري أعلى منه رتبة وهو يهتف له بغضب حاد: راندي أيها المعتوه إني اناديك منذ ساعة كاملة مالذي تفعله ...!!!
ارتجف العسكري وقال بجزع: أ أ أ أ أني قادم سيدي
ما إن خرج حتى ارتخت عضلات كتفي حارب وحمد الله في قرارة نفسه على غباء هذا العسكري وجهله ..
فلو كان يعرف الهنود ومعاني اساميهم وثقافتهم لأدرك على الفور ان اسمه بالكامل هو اسم هندوسي بحت ..
زفر بخشونة قبل ان يقذف طبقه بعنف ملؤه الغيظ الأسود أخرج معه كل ما يعتمل صدره من ضيق وغضب مرير ..
آه يارب ..
أين سلطان .. أين هو ..!!
أهو غارقٌ في بحثه عنه أم تراه نسيه خلف مشاغل دنياه المزدحمة ..!!!!
ابتلع غصة علقمية وتفكيره المشوش يقوده لـ تلك اليتيمة ..
شقيقته موزه ..
يا إلهي ..!!!
كيف له ان يقبع هنا سجيناً وهو يشعر بأن شقيقته تعيش مرارة الفقد مرتين ..
وعذاب الوحدة أضعاف عذابها اليومي ..!!
الرحمة يا رب الكون ..
جلس بثقل على الأرض المقرفة ممدداً ساقاه الطويلان على طول زنزانته الضيقة ..
شعر بوخز أسفل فخذه الأيمن .. قطب حاجباه بإرهاق وهو يدخل يديه داخل جيب بنطاله ليخرج الشيء الذي يوخزه ..
ثواني مرت حتى استرد ذاكرته ولانت ملامحه القاسية ..
ادار الخاتم بين اصابعه السمراء .... ثم ضغط على فص صغير لينفتح الخاتم من الأعلى ويقرأ المكتوب بعيناه ....
"ناعمــــــــه"
ومن غير أن يشعر هو نفسه بـ "ذاته" التمعت مقلتاه المظلمان بلمعان غريب غريب بصورة بالغة/مبهمة مسترجعاً صورة
"تـــوأم نجــــلاءه" ..!!!

بات من يهواه من فرط الجوى خفق الاحشاء موهون القوىWhere stories live. Discover now