الفصل الثالث

379 57 106
                                    


أكثر ما يزعجني في المحاضرات الصباحية هو تأخُّرُ حوراء وسما المعتاد.. فهما تستقلان سيارة أجرة يتشاركُ بعض الطلبة بدفع أجرتها.. ولا بُدَّ أن يؤثر بعضهم على الآخرين بتأخّره صباحاً.. لذا فإنني أسير بمفردي بين ممرات الجامعة الآن.. أبحث عن القاعة التي حضرتُها عدة مرات ومن المفترض أنني حفظتُ طريقها.. لكنّني فاشلةٌ جداً في حفظ الأماكن.. وبينما كنتُ أدقق في القاعات التي أمرُّ بها لمحتُ شخصاً مألوفاً.. نوح.. أطرقتُ بعينَيَّ وسارعتُ من خطواتي لأتجاوزه.. لكنه انتبه إليّ.. وتقدم نحوي ليستوقفني قائلاً:

ـ لو سمحتِ، هل لي بسؤال؟

لم أرفع عينَيَّ عن الأرض حين أجبتُه باقتضاب:

ـ ماذا؟

ـ ما رأيكِ لو تمّت معالجةُ أسنانكِ مجاناً؟

نظرتُ إليه رغماً عني.. فسؤالُه كان غريباً.. لكني نسيتُ ما كنتُ أريد قوله.. فوجهُهُ كان قريباً يُظهر كل تفاصيله الجميلة.. كعينيه اللوزيتين العميقتين المحاطتين بأهدابٍ كثيفة.. أنفه الدقيق.. ولحيته الحليقة الناعمة.. أشحتُ بعينَيَّ لأجيب ببرود:

ـ سأرفض.

سأل مستغرباً:

ـ لمَ؟

ـ لأنني أخاف طبيبَ الأسنان.

شعرتُ بابتسامته حين قال:

ـ يبدو أنك مررتِ بتجارب مؤلمة، هل تسمحين لي بتغيير رأيكِ في هذا الشأن؟

نظرتُ إليه بضيق وتجاهلتُ تفاصيل وجهه لأقول:

ـ يبدو أنّكَ تبحث عن مريض لتطبّقَ دروسك عليه؟ لقد اخترت الشخص الخطأ، تابع البحث.

تركتُه وَواصلتُ مسيري في الممر.. أبحث عن القاعة اللعينة التي يبدو أنّ الأرض انشقت وابتلعتها.. هل كانت في هذا الطابق؟.. استدرتُ وعدتُ أدراجي لأبحث في الطابق الثالث.. ومن سوء حظي أنَّ نوح كان ملازماً لمكانه.. يراقبني.. ويبدو أنّهُ لاحظ ضياعي لأنّهَ سألني حين اقتربتُ منه:

ـ هل أساعدك؟

ولأنني خشيتُ التأخُّر عن المحاضرة وافقتُ على عرضِه.. فرافقني إلى الطابق الثالث وأوصلني عند باب القاعة التي امتلأت بالطلاب.. تمتمتُ بكلمات الشكر وهممتُ بالدخول.. لكنّه قال بصوت منخفض:

ـ هل يعني هذا أنّكِ موافقة على تلقّي العلاج مني؟

رمقتُه بنظرةٍ حادة:

ـ بالطبع لا.

*****

إنّها ليلةُ الجمعة.. أستطيع السهر دون قيود.. وهذا ما أحاول فعله لأتجنب رؤية ذلك المنام من جديد.. لكن عينَيَّ عنيدتان جداً.. تتوقان للنوم وتحرقانني كعقابٍ على مقاومتي.. فركتُهما وأجبرتُهما على متابعة المسلسل الكوريِّ الذي من المفترض أن يحسّنَ من مزاجي المتعكر.. لكن يبدو أنَّ لا شيء يستطيع تحسينه هذه الفترة.. فأمورٌ كثيرةٌ تحصل معي.. أمورٌ لا أفهمها وأخرى أخشاها.. كأحلامي الغريبة والشاب الذي عرض عليَّ معالجة أسناني.. بربِّه، من يعرض شيئاً كهذا على فتاة؟.. أو ربما أنا التي لا أفهم في أساليب الشباب في الجامعة.. كنتُ سأخبر سما وحوراء عن عرضه.. ثم خشيتُ أن يُظنَّ بي سوءٌ وتراجعت.. فلستُ ممن تحادثُ الغرباء.. ليس خوفاً على سُمعتي فقط.. بل هذه طبيعتي.. إذاً كيف سمحتُ بتلك المحادثة؟.. وبأن يوصلني إلى القاعة؟.. سيكون الذنب ذنبي إن تمادى بالتقرب مني..

لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن