الفصل السادس عشر

252 54 90
                                    


اضطر نوح للذهاب إلى عمله بعد أن تغيب ليومين من أجلي.. فقضيتُ صباح اليوم مع الطبيبة جمانة حيث باشرت معي بالعلاج الفيزيائي لتنشيط عضلات ساقَي.. كانت تبذل قصارى جهدها لتشجعني على تحريكهما لكني لم أكن أستجيب.. أخبرتها أنني لا أستطيع.. محتفظة بالسبب الحقيقي لعدم رغبتي باستعادة قدرتي على المشي.. بعد قضاء ساعة من المحاولات الفاشلة سمحت للممرضة بإعادتي إلى غرفتي بالكرسي المتحرك..

عند الساعة العاشرة زارني الطبيب علي.. فأيقظ بحضوره شرارة صغيرة من الحماس في داخلي.. قد يساعدني هذا الرجل على استعادة ما فقدته.. لأنه الوحيد الذي يفهم معاناتي.. لم يكن يحمل ملفاً أو قلماً هذا اليوم.. ممّا قلل من رسمية جلستنا.. ابتسم بلطف وقال إنني أبدو أكثر نشاطاً هذا اليوم.. سألته لأدخل في المهم مباشرةً:

ـ هل استفسرت من زميلك؟

ـ نعم، لكنه بحاجة لبعض الوقت للبحث في الأمر.

ـ كم قد يستغرق ذلك؟

هزّ بكتفيه وقال ببساطة:

ـ لا أعلم، لكن يمكننا استغلال الوقت لفهم ذلك العالم أكثر، ما رأيك؟

أومأتُ برأسي موافقة.. ما دام يعمل لمعرفة طريقة للعودة إلى عالمي فسأتعاون معه.. طلب مني أن أحدثه عن بعض الذكريات التي عشتها في غيبوبتي.. فأخبرته عن معظمها إلا التي كانت مشوشة في ذهني.. وأيضاً تجنبتُ ذكر أحلامي في الغرفة المظلمة.. لم أكن مستعدة لذكرها بعد..

ـ إذاً هناك تعيشين على الذكريات؟

ـ تقريباً.

ـ ألا تستطيعين العيش عليها هنا؟

ـ كلا، فهناك لا أعرف بـ... هناك أعيش اللحظة في الذكرى، لا أسترجعها في رأسي وأتألم على... هل تفهمني؟

ـ أفهمك.

الجميل في الطبيب علي أنه يقصد كل كلمة يقولها.. وذلك واضحٌ على تعابير وجهه الجادة.. تبدو الأمور أقل جنوناً حين أخبره عنها.. ربما كان ذلك السبب لجرأتي على ذكر الاحلام المظلمة.. ولم يُخفِ عني دهشته ورغبته بمعرفة المزيد من التفاصيل عنها.. حتى طريقة جلوسه اختلفت.. بعدما كان متكئاً على ظهر الكرسي انحنى إلى الأمام يسند مرفقيه على فخذيه باهتمامٍ أكبر..

ـ ما الذي يجعلكِ تعتقدين أن نوح هو الرجل الذي كان يزورك في تلك الأحلام؟

ـ قبل استفاقتي من الغيبوبة، رأيتُ حلماً أخيراً مع الرجل، كان يضع جبينه على جبيني ويتوسل لي أن أعود إليه، ثم بدأتُ أبكي في الحلم، ويبدو أن دموعي سالت في الواقع أيضاً لأن الرجل طلب مني فتح عينَيّ حين رأى دموعي، وعندما فتحتهما كان نوح من يحاول أيقاضي، لم أنتبه للأمر في الأحلام، لكن نوح والرجل يمتلكان ذات الصوت.

ـ أليس من الغريب أنكِ لم تتعرفي على صوته رغم وجوده في ذكرياتكِ وفي الأحلام؟

عقدتُ جبيني وأنا أومئ برأسي ببطء.. فتابع قائلاً:

ـ ألا تظنين بأن رفضكِ بالعودة إلى هذا العالم جعلكِ ترفضين التعرف إليه؟

ـ هل يمكن ذلك؟

ـ إنها مجرد تحليلات، فهذه التجربة جديدة بالنسبة لي كما هي جديدة لكِ، سوف نحاول فهمها سوياً.

*****

ساعدني نوح على الجلوس ورفع الوسادة لتسند ظهري ثم ناولني كوب عصير البرتقال الطازج الذي أحضره من المنزل في قنينة بلاستيكية.. ظلّ واقفاً وهو يحمل المنديل الذي أصبح يمسك به كلما قدّم لي أكل أو شراب.. مستعداً لتقلبات معدتي رغم أن تلك الحادثة لم تتكرر.. ارتشفتُ قليلاً من العصير البارد فانتعشت لمذاقه الحامض.. يبدو أنني بدأتُ أستعيد حاسة الذوق.. ويبدو أن نوح لم ينسَ حبي للعصائر الحامضة.. ناولته الكوب بعد بضع رشفات فأخذه دون أن يجبرني على شرب المزيد.. وضعه على الطاولة وجلس على كرسيه بقربي ليقول بصوت منخفض:

ـ هل تواجهين صعوبة في العلاج الفيزيائي؟

لم أرفع عينَيّ عن يدَي المستقرة في حجري.. فقد يكتشف ما يدور في رأسي..

ـ نعم.

ـ الطبيبة تنفي وجود خللاً في العضلات أو الأعصاب، تقول إن الأمر يتعلق بالإرادة، وأنكِ ربما تفتقدينها.

أطرقتُ برأسي أكثر ومنعتُ نفسي من عض شفتي.. لأن تلك الحركة تفضحني دائماً..

ـ يمكننا تغيير الطبيبة إن كانت هي السبب بعدم استجابتكِ للعلاج.

ـ كلا، الأمر لا يتعلق بالطبيبة.

ـ إذاً بماذا يا براءة؟

لم أجب.. بل طلبتُ منه أن يخفض ظهر السرير لأستلقي.. فنهض وساعدني على تعديل السرير ووسادتي.. ثم ظلّ واقفاً عند رأسي.. ينظر إليّ وكأنه يبحث عن الإجابة في وجهي.. أغمضتُ عينَيّ لا إرادياً.. أحجب الحقائق عنه.. لامست أصابعه ظهر كفي برقّة.. ثم التفت حول يدي تحتضنها.. كم تذكّرني هذه اللمسات بتلك الأحلام.. اعتصر قلبي حين تخيلت حاله وهو ينتظر استيقاظي كل يوم.. أحياناً بصبرٍ مع الاكتفاء بإمساك يدي وأحياناً بجزع مع هلّ الدموع الصامتة.. ضغطتُ بيدي على يده.. الشيء الذي لم أكن أستطيع فعله في أحلامي.. لكن هنا أستطيع.. أستطيع مواساته على الأذية التي يتحملها بسببي.. همستُ دون أن أفتح عينَيّ:

ـ كنتُ أشعر بزياراتك لي أثناء غيبوبتي.

قال بلهفة:

ـ حقاً؟

ـ بل كنتُ أشعر بلمساتك وأسمع حديثك أيضاً.

مسح بظهر كفه على وجنتي وهو يهمس ببحة خفيفة:

ـ هل.. استيقظتِ من أجلي؟

ابتلعتُ ريقي وقلت:

ـ أيقظتني رغماً عني.

كانت الخيبة واضحة على نبرته:

ـ إذاً تفضلين عالمٌ وهمي على عالمنا الحقيقي؟

ضغطتُ على شفتَيّ دون أن أجيب.. فرفع يده عن وجنتي لينقلها إلى رأسي.. تتخلل أصابعه خصلات شعري بحنان زاد من رغبتي بالبكاء.. إني أتألم لألمه.. لكني لن أستطيع المُضي في حياة تخلو من عائلتي..  


لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن