الفصل الثالث عشر

290 55 136
                                    

إنها الغرفة المظلمة من جديد.. أقف في مكاني المعتاد.. بلا قدرة على الحراك أو النطق.. ويقف هو على بعد أمتار.. أشعر بنظراته رغم عدم مقدرتي على رؤية وجهه.. ثم تقدم نحوي.. خطوة تلو الأخرى.. إلى أن توقف أمامي وعانقت يده يدي برفق..

ـ براءة..

صوته الهامس زعزع نبضات قلبي.. وكأنه يحكي الكثير من المعاناة والألم بمجرد نطقه لإسمي.. إني أعرف هذا الصوت.. أعرفه حقّ المعرفة.. أسند جبينه على جبيني وعاد ليهمس:

ـ براءة.. أما آن الأوان؟

يبدو أنه آن.. شعرتُ بدمعة تسيل على صدغي.. لكنها لم تكن دمعته.. إنها دمعتي..

ـ براءة؟ هل تسمعينني؟

الدهشة في صوته توحي إلى أنه انتبه إلى دموعي.. لكني لا أريد فتح عينَيّ.. لا أريد الانتقال إلى عالمه واستيعاب ما كنتُ على وشك استيعابه.. أرجوك اتركني في عالمي..

أحاطت كفيهّ وجهي وقال بلهفة:

ـ إني أرى عينيك تتحركان، أرجوكِ افتحيهما، لا تقاومي.

تحررت شهقة بكاء من فمي وانهمرت دموعي بحرقة.. أرجوك اتركني..

قبّل عينَيّ وردد كلمات الشكر لله ببحة:

ـ الحمد لله، شكراً لك يا ألله، شكراً، شكراً.

ثم رفع رأسه قليلاً لتسقط دمعة منه على عيني وتختلط بدموعي..

ـ افتحي عينيكِ حبيبتي، لقد جزعتُ الصبر ولن أطيقه دقيقة أخرى، افتحيهما أرجوك.

رفعتُ أجفاني بصعوبة وكأن لاصقاً يطبقهما.. ثم بدأ الظلام ينقشع لتكون عينيه أول ما يستقبل ناظري.. عينيه اللوزيتين الداكنتين.. تترقرق بالدموع وتشعان باللهفة.. سقطت دموعه عليّ وانحنى ليجذب رأسي إلى كتفه ويخفي وجهه في شعري مكرراً امتنانه للطف الله.. رأيتُ الغرفة التي لطالما كانت مظلمة.. إنها غرفة مشفى.. بيضاء وكئيبة.. أفضّل أن تعود مظلمة وأعود إلى عائلتي.. فتحتُ فاهي لأسأل عنهم.. لكن صوتي لم يعد رغم عودة بصري.. ما صدر من حنجرتي كانت بحة مزعجة.. رفع نوح رأسه عني وقال وهو يمسح دموعي:

ـ لا بأس عزيزتي، قد يستغرق الأمر بعض الوقت لتستعيدي صوتك، سأستدعي الطبيب وأعود.

استقام في وقوفه فوددتُ الإمساك بيده لأمنعه لكني لم أملك الطاقة لتحريك يدي.. قبل أن يغادر أحضر حجاباً من على طاولة مركونة جانباً ولفّه حول رأسي بحذر ثم قبّل جبيني وأسرع يخرج من الغرفة.. أغمضتُ عينَيّ وحررتُ شهقة أخرى وأنا أتلوى ألماً.. كان الألم في قلبي تحديداً.. أخبرني عنهم يا نوح.. هل هم بخير؟.. قل إنهم بخير أرجوك.. فتحتُ عينَيّ على صوت خطوات متعجلة.. كان نوح مع طبيب وممرضة.. بدت الدهشة والسعادة واضحة على وجوههم جميعاً.. لكن لا سعادة تُقاس بسعادة نوح في تلك اللحظة.. إنه ما يزال يردد كلمات الشكر لله بصوت منخفض.. تقدم الطبيب إليّ وباشر بفحصي ومحادثتي.. فانزعجت حين أعمى عينَيّ بالضوء أثناء فحصه لبؤبؤي عينَيّ وأشحتُ بوجهي عنه.. حركتُ شفتَيّ لأسأل نوح عن أهلي.. وحين خانني صوتي للمرة الثانية حاول قراءة شفتَيّ، ثم انقبضت معالمه وقال وهو يمسك بيدي:

ـ لا تفكري بشيء الآن، لتتحسن حالتكِ أولاً.

هززتُ برأسي رفضاً وعادت دموعي لتنهمر.. تحدث ولا تزد من عذابي.. قاطع توسلاتي الطبيب بسؤاله عمّا إذا كنتُ أستطيع تحريك يدَيّ.. أجاب نوح بأنني أضغطُ على يده فلا بد أنني أستطيع.. لكن الطبيب أراد مني تحريك كل أصابعي.. فلم أنصاع لطلبه وخاطبتُ نوح بصوت مبحوح لم تخرج معه إلا أحرف قليلة:

ـ أ.. ي.. أ.. لي؟

كانت عينيه التي تحاول التهرب مني تفضح معاناته..

ـ عزيزتي استجيبي للطبيب وأعدكِ بالإجابة على جميع أسئلتك.

قال الطبيب بتفهّم:

ـ لا بأس، قد تحتاج لبعض الوقت لاستيعاب وضعها، يمكننا الانتظار قليلاً حتى تهدأ، سنترككما على انفراد ريثما نقوم بتجهيز الفحوصات اللازمة.

غادر هو والممرضة الغرفة فضغطتُ على يد نوح أستدعي عينيه.. وحين نظر إليّ توسلتُ إليه بعينَيّ أن يجيب على سؤالي.. فأطلق زفيراً وهو يغرز أصابع يده الأخرى في شعره.. يتصارع مع نفسه وربما يحاول التهرب من الإجابة.. لا أعرف لمَ أنتظر الإجابة الشفهية.. فالإجابة واضحة من تصرفاته.. واضحة على وجهه..

قال بصوت منخفض:

ـ لم ينج أحد من الحادث غيرك.

أغمضتُ عينَيّ وشعرتُ بيد خفية تعصر قلبي بلا رئفة.. تكتم أنفاسي وتجعل طنيناً يدوي في أذنَيّ.. تابع نوح وهو يمسح بيده على رأسي:

ـ ولم يتوقع أحدهم نجاتكِ بعد كل هذه الأشهر، لكني لم أفقد الأمل أبداً.

فتحتُ عينَيّ بجفلة لأنظر إليه متسائلة:

ـ أ.. أش.. هر؟

ـ نعم، كنتِ في غيبوبة لسبعة أشهر. 


لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن