الفصل السادس

298 59 52
                                    

لم أستمع لأيّ كلمة من محاضرة الأستاذ ظهر ذلك اليوم.. ولا لنصف الكلام الذي وجهَّتْه صديقتاي إليّ.. وكأنني بدأتُ أفقد حاسة السمع.. كانتا تستدعيان انتباهي بين حين وآخر.. إلى أن استسلمتا ولم تخاطباني في ما تبقى من اليوم.. إنني حتى لم أنتبه إلى نوح حين قصدنا "السنتر" لشراء العصائر.. فلكزتني سما بخاصرتي تنبهني.. وتمنيتُ لو لم تفعل.. لأنه ابتسم حال التقاء نظراتنا وشعرتُ بالضيق يطبق على صدري.. لستُ من هذا النوع.. لا تتعامل معي وكأنّني أعطيتُكَ الإشارة الخضراء.. أشحتُ بوجهي وتركتُ تعابير وجهي المنزعجة تبيّن له رفضي لما يحصل.. أعلم أن تصرفي كان صائباً.. لكنّ شيئاً بداخلي وخزَني.. هل يكون الإحساس بالذنب؟..

لازمَني المزاج السيئ طوال اليوم.. حتى أنّني لم أستطع مراجعة دروسي.. قبل الغروب بلحظات دخلت ندى إلى الغرفة وجلست على سريري لتطلب مني صنع ضفيرة فرنسية بشعرها.. فصديقاتها ستأتين ليدرسن معها.. أخذتُ المشط من يدها وبدأتُ أسحبه بين خصلات شعرها الناعمة رغم أنّ لا طاقة لي على فعل شيء.. المتعِب في شعر ندى أنّه طويل للغاية.. ليس كشعري متوسط الطول.. لكنّ ذلك ليس الاختلاف الوحيد بيننا.. فمن يرانا لا يصدق أننا أخوات.. بينما تشبهُ ندى والدي لحدٍّ كبير بِسَمارها وعينيها الواسعتين وطولها الفارع الذي يجعلها تبدو الأخت الكبرى بيننا.. فإني أكاد أكون نسخةً من والدتي ببياض بشرتي وعينَيَّ الناعستين وقامتي المتوسطة.. أما مصطفى فهو مزيج من والدي ووالدتي.. أخذ الطول والسمار من والدي والعيون الناعسة من والدتي..

ـ هل حصل شيءٌ معك؟

قاطع سؤالها شرودي..

ـ مثلُ ماذا؟

ـ لا أعرف، لا تبدين بحال جيدة.

ـ مجرد تعب.

ـ حسناً، سأصنع كعكةً بدل الضفيرة، يمكنكِ التوقف.

كانت ستبعد رأسها عني فأمسكتُ به وقلت:

ـ لا تتحركي، إنني على وشك الانتهاء.

ثبتت مكانها فتابعتُ عملي بطاقة أكبر.. صحيحٌ أن أسلوبها المتعالي يستفزُّني في غالب الأحيان.. إلا أنها في الحقيقة تهتم كثيراً بمن تحبُّهم.. لطالما كانت سنداً متيناً لهم.. لا تترددُ في الوقوف بجانبهم ومواجهة ما يؤذيهم.. لو كنتُ أعلم ما يؤذيني لاعتمدتُ عليها في مساعدتي.. لكني ما زلتُ مشوشة الفكر..

ـ إذاً؟ ألن تخبريني عمّا يحصل معك؟

ـ أخبرُكِ حين أفهم ما يحصل معي.

ـ وكيف نحسّن من مزاجك إلى ذلك الوقت؟

ـ مثلاً بالابتعاد عن ذكر الناس بالسوء حين تجتمعين بصديقاتك بعد قليل؟

قالت بانزعاج:

ـ تشعرينني وكأن كل ما نفعله هو ذكر الناس بالسوء.

ـ لا يهم إن كنتُنَّ تفعلنه قليلاً أو بكثرة، يبقى ذنباً من الصعب التكفير عنه. الأمر لا يستحق، يمكنكنَّ الاستمتاع بأمور أخرى لا تضر الناس ولا تضرُّكُن.

ـ هل انتهيت؟

تركتُ ضفيرتها وقلت:

ـ أجل.

فنهضت من على السرير وغادرت الغرفة.. تنهدتُ وعاودتُ النظر إلى ظهر يدي للمرة الألف هذا اليوم.. ثم عادت كلماته تتردد في رأسي.. "عالمي حقيقي".. أمسكتُ برأسي بقوة.. وكأنّني قد أستطيع ترتيب أفكاري بالضغط عليه.. لكنّها بقيت مشتتة.. غير مترابطة.. ولا منطق لها.. لم أتصور أن يحصل شيء قد يحسن مزاجي تلك الليلة.. لكنه حصل.. أختي لم تذكر أحداً بالسوء.. وقاطعت صديقاتها كلما همّت إحداهُنَّ بذكر سلبيات أحدهم.. قد لا يسمح لها كبريائها أن توافق على طلبي.. لكنّها طبّقته دون أن تؤثر على كبريائها.. نمتُ تلك الليلة وأنا سعيدةٌ بالتطور الصغير.. هناك أمل..

*****

إننا نجلس على الأرض.. حمدتُ الله في نفسي على ذلك.. فهذا يعني أنني أستطيع الحديث معه.. لم أنتظر طويلاً بل قطعتُ الصمت سريعاً بسؤالي:

ـ لمَ كنت تبكي في المرة السابقة؟

قال بصوتٍ منخفضٍ مثقلٍ بالحزن:

ـ فراقكِ يرهقني.

عضضتُ على جانب شفتي.. نبرتُهُ صادقةٌ للحد الذي يجعلني أوشك على تصديق ادعاءاته عن هذا العالم.. لن أخبره عن أثر الدمعة التي تبعتني إلى عالمي الحقيقي لأنّه سوف يستخدم ذلك كدليلٍ على صدق كلامه.. قلتُ بهدوء:

ـ ألا يكفيك رؤيتي كل ليلة؟

ـ لا يكفي يا براءة، إنّكِ بعيدةٌ للغاية.

تنهدتُ وضممتُ ساقَيّ إلى صدري.. لن أفهم هذا العالم.. ولا هذا الرجل.. سألني عن آخر التطورات مع نوح.. فأخبرتُه أنّني وافقتُ وندمتُ على موافقتي.. فكان جوابه الصمت.. وطال الصمت إلى أن قطعتُه مجدداً ببعض الانزعاج:

ـ قل شيئاً.

ـ عودي إليّ.

ـ شيء غير هذا.

ـ هذا كل ما أريد.

تنهدتُ وقلت:

ـ لا يمكن، لن أترك عائلتي وعالمي.

ثم استوعبتُ أنني لم أُنكر حقيقة وجود عالمه.. هل بدأتُ أصدقه؟.. أم بدأتُ أجنّ وحسب؟.. الاحتمال الآخر يبدو أكثر منطقاً.. 


يمعودة عوديله خل نشوف شنو سالفته☻️
نلتقي باجر بفصل جديد إن شاء الله ❤️




لا تعبث بعالميWhere stories live. Discover now