الفصل الرابع عشر

258 49 112
                                    


حاولت خالتي رؤى اطعامي من الحساء الذي صنعته وأتت به.. لكنني لم أستجب لها وبقيتُ أناظر السقف بشرود.. إنه اليوم الثاني.. انتهز نوح وجود خالتي معي وغادر المشفى ليجلب ما قد أحتاجه من ثياب وأطعمة خفيفة.. لكن كل ما أحتاجه هو عائلتي.. أبي.. أمي.. ندى ومصطفى.. آتوني بهم وسأكون بأحسن حال.. تنهدت خالتي وتركت الإناء على الطاولة باستسلام ثم قالت بخفوت:

ـ أعلم أنكِ في صدمة، وأنكِ لن تتخطيها بسهولة، لكن من الضروري أن تستجيبي لأوامر الطبيب لتتحسن صحتك، إن لم يكن من أجل نفسكِ فمن أجل نوح، لا تجازي وفاءه لكِ هكذا.

كيف لخالتي أن تكون على طبيعتها؟.. وكأنها لم تفقد أختها وعائلتها.. هل كانت الأشهر القليلة كافية لأن تعود إلى حياتها الروتينية؟.. كيف أستجيب وأنا ما زلتُ على أمل العودة إلى العالم الآخر.. لأمنع عائلتي من الذهاب إلى النزهة وأمزق عجلات السيارة لكيلا يقودها والدي مجدداً؟.. وضعت خالتي كفها على ظهر يدي وقالت:

ـ براءة، لا تقسي على نفسكِ، إن ما حصل كان مقدّر، ولن نعترض على إرادة الله.

أغمضتُ عينَيّ التي بدأت تحرقني وقلتُ بصوتٍ مبحوح:

ـ أشعر بالتعب، سأنام.

ـ الهروب ليس حلاً..

لم أجبها، بل انتظرتها لتستسلم وتغادر.. لكنها لم تستسلم.. بل قالت بعد لحظات:

ـ لا أعرف إن كان نوح قد أخبركِ، لكنه بدأ يعمل في عيادة وأصبح طبيباً رسمياً.. باشر بالعمل بعد الحادث بأسابيع.. أتدرين لماذا؟.. لأنه قام بوضعكِ في أفضل مشفى خاص وكان لا بد من تسديد تكاليفها.. لم يعمل من أجل نفسه.. بل من أجلك.. ألا يستحق منكِ أن تستجيبي للعلاج من أجله؟

ازدردتُ ريقي بصعوبة وأنا أحاول ابتلاع غصتي.. أرجوكِ يا خالة.. لا تزيدي من عذابي..

ـ قضى هذه الأشهر في العمل لساعات طويلة كل يوم.. وكان يزوركِ بعد عمله ولا يغادركِ حتى وقت متأخر ليستجمع طاقته بساعات قليلة من النوم.. شكت والدته حاله إليّ بضع مرّات، حتى أنها طلبت مني أن أزوركِ بدلاً عنه ليرتاح قليلاً.. لكنه كان يبقى إلى جانبك غير مكترثاً بوجودي.. صحيحٌ أن فقدكِ عظيم يا براءة.. لكن تعويض الله لكِ عظيمٌ أيضاً، قدّري نعمته عليكِ ولا تُفرطي بها.

*****

نظر إلى الحساء الذي لم أذق منه شيئاً.. ثم نظر إليّ بحسرة وهو يضع الحقيبة الرياضية على الأرض.. جذب الكرسي الخشبي يقربه مني وقبل أن يجلس عليه أخذ إناء الحساء.. حرك الملعقة فيه بشكلٍ دائري ثم اغترف قليلاً وظننته ينوي إطعامي.. لكنه تناولها بدلاً مني.. حرك عينيه جانباً وهو يقول متذوقاً طعمها:

ـ إنها باردة، لكنها ما تزال لذيذة.

اغترف كمية جديدة وقرّب الملعقة من فمي.. فهززتُ رأسي بالرفض.. لكنه لم يحرك الملعقة من مكانها وقال:

ـ تذوقيها على الأقل.

عادت كلمات خالتي رؤى تتردد في ذهني لتشعرني بالذنب وتجبرني على الاستجابة.. فغرتُ فاهي على مضض فابتهج وجه نوح بشكل زاد من شعوري بالذنب.. ابتلعتُ الحساء الذي لم أشعر بمذاقه وتوسلتُ إليه بعينَيّ ألاّ يرغمني على المزيد.. لكنه فعل.. رفع الملعقة بالمزيد واستطعتُ تحمّل خمسة ملاعق قبل أن أصاب بالغثيان فسارع نوح بسحب الكيس المخصص لهذه الحالات من أعلى ظهر سريري الحديدي ووضعه عند فمي.. استفرغتُ كل ما أجبرتُ نفسي على تناوله من أجل نوح.. وذهبت محاولاتي في اسعاده سدى.. مسح فمي بمنديل ورقي ونهض ليرمي الكيس والمنديل في القمامة.. ثم عاد إليّ بتعابير يعتريها الأسف.. أمسك بيدي حين جلس على الكرسي وقال:

ـ لن أرغمكِ على شيء مجدداً، سامحيني.

أخفيتُ عينَيّ بيدي الأخرى قبل أن تنزل دموعي الحارقة وهمستُ بكلماتٍ قطعها بكائي وصوتي المبحوح:

ـ لم يكن يجدر بك إخراجي من عالمي.. كان عليك تركي فيه حين طلبتُ منك ذلك.

مسح على رأسي وهو يسأل بحيرة:

ـ عمّا تتحدثين حبيبتي، أي عالم؟

لكني دخلتُ في نوبة بكاء حادة أفقدتني القدرة على الحديث.. وما كان لنوح سوى ضمّ رأسي إليه وتهدئتي حتى استسلمتُ للتعب وانتقلتُ إلى عالم المنام.. لا يشبه العالم الذي اعتدتُ عليه.. فالأحلام هنا بلا معنى وغير مفهومة.. ترى هل من طريقة لأعود إلى عالمي؟.. 

لا تعبث بعالميWhere stories live. Discover now