الفصل السابع عشر

299 49 93
                                    


أصرّ نوح على أخذ إجازة من عمله ليرافقني في جلسة العلاج الطبيعي.. مهما حاولتُ تبيين عدم رغبتي بتواجده معي في الجلسة لم يستجب إلى رغبتي.. بل حملني بنفسه ليجلسني على الكرسي المتحرك ودفعه إلى قاعة العلاج الطبيعي حيث كانت الطبيبة جمانة تنتظر ببعض الملل.. يبدو أنها بدأت تيأس من محاولاتها معي.. فالمشكلة ليست جسدية بل نفسية.. وهو اختصاص الطبيب علي.. رسمت ابتسامة مجاملة على وجهها وانتظرت حتى نقلني نوح إلى السرير الرفيع.. ثم بدأت بتحريك ساقَيّ بتمارين كالمرة السابقة لتنشط العضلات قبل أن تطلب مني أن أحاول تحريك أصابع قدمَيّ أولاً.. وقدمَيّ ثانياً.. وساقَيّ ثالثاً.. استجبتُ للطلب الأول فقط.. لأنها تعرف أنني أستطيع تحريك أصابعي.. قالت وهي تحرك قدمَيّ بيديها:

ـ أعلم أنكِ تستطيعين تحريك هاتين أيضاً، هيا حاولي.

لم أحاول.. أخذ نوح بيدي وقال بابتسامة صغيرة:

ـ تستطيعين فعلها.

لكني لا أريد.. أصرّيتُ على عدم الاستجابة ومضت الساعة بلا تقدم.. فأعادني نوح إلى غرفتي بإحباط.. كان قد حان موعدي مع الطبيب علي فغادر الغرفة حين حضر الطبيب وظلّ قلبي يؤلمني على خيبته.. سألتُ الطبيب ببعض الأمل إن كان قد حصل على المعلومات المطلوبة.. لكنه لم يحصل عليها بعد.. فقدتُ الرغبة بالتعاون بالحديث.. ولاحظ الطبيب ذلك فقال إنني لو تجاوبتُ معه فسأفهم ذلك العالم أكثر وإن حصل وعدتُ إليه ستكون تلك المعرفة من صالحي.. لذلك وبعد تشجيعه الهادئ والمقنع بدأتُ أتجاوب.. فبدأنا مرحلة تحليل ذلك العالم.. لأول مرة يطيل الجلسة لساعتين.. يبدو أنه لم يرغب بإنهائها حتى وضع النقاط الأخيرة على تحليلاتنا.. 

هذا ما توصلنا إليه: إن معظم ما عشته هناك هي ذكرياتي مع عائلتي.. والسبب قد يكون تمسكي بهم ورغبتي الباطنية باللحاق بهم.. أما وجود نوح في تلك الذكريات فقد يكون بفعل جزء من عقلي ليجعلني أتمسك بالحياة.. بخصوص أحلام الغرفة المظلمة فكان تحليلها أصعب.. لكن حاول الطبيب إيجاد الاختلافات بين الأحلام التي أكون فيها كتمثال والأخرى التي أتحرك وأتحدث فيها بطلاقة.. استنتج أن النوع الأول كان حقيقة لا حلم.. وأني رأيته أثناء زيارات نوح لي.. وذلك يفسر اختلاف الصوت ليبدو بذلك الوضوح.. وشم عطره.. والإحساس بلمساته.. أما النوع الثاني فهو من صنع عقلي الذي استعان بصورة نوح لتأثيرها الكبير عليّ ليوضح لي أهمية التخلي عن العالم الذي تشبثتُ به.. فكانت تلك الأحلام عبارة عن تعاون بين نوح وعقلي ليخرجاني من غيبوبتي.. وكنتُ أحاول التهرب من الإثنين لأبقى في عالم يجمعني بعائلتي.. لكن تأثيرهما كان واضحاً على ذكرياتي.. فلقد بدأت أمور غير منطقية تحصل ليثبت لي عقلي أن ما أعيشه ليس سوى ذكريات يمكن العبث بها بسهولة.. قال الطبيب بعد انتهائنا من التحليلات:

ـ ألا ترين بأن ذلك العالم ركيك، لا أساسيات له ويمكن هزّه بسهولة؟

ـ ممكن، لكن ذلك ليس مهم، المهم أنني مع عائلتي.

لا تعبث بعالميWhere stories live. Discover now