الفصل الخامس عشر

289 50 70
                                    


إنه يختلف عن الطبيب الذي فحص قدراتي الجسدية وصنع مخططاً لجلسات العلاج الفيزيائي من أجل تنشيط عضلاتي.. فهذا الطبيب يتحلى بشخصية هادئة.. بنظرة حليمة وبأسلوب محترم.. لا أقول إن الآخر ليس محترماً.. لكن هذا يختلف.. ربما نظرته العميقة التي تخبرني أنه يقرأ كل ما يجول في رأسي ما تجعله مميزاً.. طلب من نوح أن يتركنا على انفراد فتردد الآخر وسألني بعينيه إن كنتُ موافقة.. أومأتُ برأسي بالإيجاب وراقبته أثناء مغادرته الغرفة.. ثم عدتُ بنظري إلى الطبيب النفسي.. لطالما تخيلت هذا النوع من الأطباء بصلعة ونظارات طبية وغياب اللحى والشارب عن وجوههم.. لكن هذا الرجل كسر كل قاعدة في تخيلاتي.. فشعره الممزوج ببعض الشيب يزين رأسه بوقار.. ولحيته الخفيفة تمتد من الأذن إلى الأخرى بشكل دقيق ومرتب وتتصل مع شاربه بسلاسة.. ثم إن عينيه التي تتفحصني بعمق وكأنها تحلل حالتي النفسية لا تختبئ خلف زجاج النظارات.. بل تظهر بوضوح وتشع بلونها البني الدافئ.. أطرق بنظره ليراجع الملف الذي كان بين يديه ثم أشّر بالقلم الأحمر على معلومةٍ ما.. لقد أصبحتُ أبغض هذا اللون بعدما كان من ألواني المفضلة.. حين أتمّ مراجعة الملف وضعه على فخذيه وعليه القلم ثم أشبك يديه عليهما..

ـ لقد تحدثتُ مع نوح هذا الصباح.

ثم صمت وكأنه يراقب ردة فعلي لكل كلمةٍ ينطقها، لكن لا ردة فعل لي..

ـ هل يمكنكِ إخباري عن العالم الذي ذكرته أمامه؟ أين هو هذا العالم وكيف هو؟

هنا نجح في إحداث ردة فعل.. اختلجت أهدابي وشعرتُ برغبة لابتلاع ريقي.. لكن حلقي كان جافاً.. إنه لا يستهزئ.. يسأل بنبرة جادة وكأن الأمر يهمه بالفعل.. ربما هذا ما جعلني أستجيب لدعوته للحديث.. أخفضتُ عينَيّ وداعبتُ الملاءة بسبابتي حين أجبت بصوتي الذي لم يعد إلى طبيعته بعد:

ـ كان موجوداً حين كنتُ في الغيبوبة.. إنه.. جميل. ففيه كل عائلتي، ونوح. أما هنا فليس لي غير نوح.

ـ ماذا كان يحصل في ذلك العالم؟

استغرقتُ دقائق أحاول استرجاع ما عشته هناك.. وكان الطبيب علي ينتظر بهدوء دون أن يستعجلني في الإجابة..

ـ الكثير.. بعضه ذكريات، وبعضه أحداث لم أعشها لكنها كانت تمتزج مع ذكرياتي، و..

صمتُّ من جديد.. أحاول إيجاد طريقة لشرح ما رأيته من أحلام أثناء غيبوبتي.. لكني لم أعد أعرف ما الذي كان حلماً وما الذي كان حقيقة..

ـ عقلي مشوّش، لا أعرف إن كان ما عشته حقيقة أم مجرد أحلام.

ـ إن كنتِ تسمحين فسوف أساعدكِ على تمييز الحلم من الحقيقة، لكن يتطلب الأمر أن تخبريني بكل ما تذكرينه من ذلك العالم.

ـ سوف يستغرق ذلك أياماً..

ـ وليكن أشهر، الوقت غير مهم.

ـ هل جلساتي مع طبيب نفسي يجعل مني مجنونة؟

قال بجدية مع التزام أسلوبه الهادئ:

ـ بل يجعلكِ إنسانة واعية تفهم أنها بحاجة إلى المساعدة لتخطّي بعض الصعوبات، لن يخطو هذه الخطوة إلا الشجعان الذين لا يهمهم سوى الاستقرار النفسي.

رفعتُ عينَيّ لأنظر إليه متسائلة:

ـ هل تستطيع إدخالي في غيبوبة دائميه؟ 


لا تعبث بعالميWhere stories live. Discover now