الفصل الثامن

312 63 92
                                    

كل شيءٍ حصل بشكلٍ سريع.. لم يترك مجالاً لاستيعابه.. لقد كُتب كتابي على نوح.. في حفلٍ عائليٍّ بسيط بعد أن أقنع العائلتين بالاستعجال في تلك الخطوة.. مرّت تلك الفترة بسرعة البرق.. تداخلت فيها الأيام حتى فقدتُ القدرة على تمييز بداية الأسبوع من نهايته.. إلى أن انتهت ضجةُ العقد وهدأت الأمور قليلاً.. وبدأ عقلي يستوعب أنني أصبحتُ على ذمة رجل.. وليس أي رجل.. بل نوح الذي ظننتُ به سوءاً.. تحولتُ بعد خطوبتنا إلى شخص آخر.. فبعد أن كنتُ جافةَ الأسلوب وأنكر انجذابي إليه تخلَيتُ عن تصرفاتي الدفاعية وتقبّلتُ حقيقة أنني كنتُ أبادله الإعجاب.. ثم أظنُّ أنّ الإعجاب قد تحوّلَ إلى حب.. هناك شيءٌ حصل بعد أن نطقتُ بموافقتي في العقد.. وكأن رابطاً خفياً جمعنا في تلك اللحظة ليخلق حباً نقياً بيننا.. حضرت في ذهني حينها الآيةُ الكريمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَّرَحْمَةً...} وكأنّ الله سبحانه حوّل الإعجاب بيننا إلى مودّة ـ أو حبٍّ كما أحبُّ أن أصفه ـ في تلك اللحظة لتتعمق مشاعري تجاهه ولتبدأ تجارب الحب التي لطالما قرأتُ عنها ورأيتُها في المسلسلات الكورية.. نظراتُه وابتساماتُه لم تعد تضايقني.. بل تجعل قلبي يرفرف كعصفورٍ يتعلم الطيران لتوِّه.. وصرتُ أتوق لمحاضراتي الصباحية لأقضي أولى دقائق ذلك اليوم معه في الممر.. أشبع نظري بوجهه الباسم.. وسمعي بصوته العميق الهادئ.. ونفَسي بعطره الرجوليِّ الذي بدأتُ أدمنه.. قال بابتسامته العذبة:

ـ إنّكِ تتأخرين عن المحاضرة.

انتبهتُ من شرودي في عينيه وقلتُ بتلبّك:

ـ حسناً، لأذهب إذاً.

أمسكَ بيدي حين هممتُ بالمغادرة وقال:

ـ سأشتاقُ إليك.

ابتسمتُ بشيء من الخجل:

ـ جيد.

ـ متى ستتعلمين الرد على الكلام الجميل؟

ضحكتُ وأنا أطرق بعينَيّ:

ـ سأتعلم على يدك، لنرى مدى مهارتك أيها المعلم.

اقترب وهمس بابتسامة:

ـ قبلتُ التحدي.

أفلتُّ يدي من قبضته وسارعتُ بخطواتي نحو القاعة بمشاعر مضطربة.. ما بين سعادةٍ وخجلٍ وارتباك.. هل سأعتادُ على قربه؟.. على همساته وكلماته التي تفقدُني أنفاسي لتأثيرها عليّ؟..

*****

أوه لا.. إني أخاف هذا الحلم.. فلا قدرةَ لي على الحراك ولا على النطق.. وأعلمُ يقيناً أنَّ الأصوات ستكون مختلفة.. صاخبة بشكلٍ يكادُ يكون مرعباً.. راقبته وهو يتقدم نحوي.. بخطوات مثقلة.. يصلُ صوتُها إلى أعماقي وكأنّه يسير في داخلي.. اعترتني رغبةٌ بابتلاع ريقي.. لكنني لا أستطيع فعل شيءٍ في هذا الحلم.. توقف أمامي وظلَّ ساكناً للحظات.. لا يُسمع منه سوى أنفاسه المنتظمة.. هي الأخرى مثقلةٌ كخطواته.. عطرُهُ ليس واضحاً كالمرة السابقة.. لكنّه يدغدغ أنفي بعذوبة.. هناك اختلافاتٌ كثيرةٌ بين هذا النوع من الحلم والأحلام السابقة.. فليس شلل حركتي والأصوات الصاخبة وحدها ما يختلف في هذا الحلم.. بل سماع صوت أنفاسه وشمُّ عطره يختلفان أيضاً.. فليس لهما وجود في الأحلام الأخرى.. قد أستطيع إقناع نفسي بأنّ تلك الأحلام هي أحلام بحق وليس عالماً حقيقياً.. لكن هنا.. لن أحاول إقناع نفسي حتى،..لأنّ كلَّ ما أشعر به حقيقيّ.. قطعت نزاعي الداخلي لمسةُ يده لِيَدي، احتضنَ كفي بكفه لأشعر بالدفء يحيطُها ويحيط قلبي.. لا تسألوني كيف.. فأنا مثلكم لا أفهم شيئاً ممّا يجري.. جاءني همسُهُ قريباً:

ـ براءة..

نعم، أسمعك. تكلّم.

ـ براءة..

إنّي أسمعك، تحدث أرجوك.

ـ ألم تكتفي من تعذيبي بفراقك؟

كانت همساتُه مهتزّة، وكأنّ ثمة غصة تُفقدُهُ ثبات صوته.. وددتُ الضغط على يده.. شيء بداخلي يريد مواساته والتخفيف عنه.. لكني بلا حولٍ ولا قوةٍ في هذا المكان المزعج.. أحنى رأسه مقترباً من وجهي فتسارعت خفقاتُ قلبي اضطراباً وخوفاً ممّا قد ينوي فعله.. ثم شعرتُ بجبينه يطبقُ على جبيني.. بأنفاسه تختلط مع أنفاسي.. وبدمعةٍ تسيل من عيني.. كلا، ليست من عيني.. بل من عينه.. سقطت على عيني وسالت على صدغي وكأنّها دمعتي..

ـ ما زلتُ أنتظر، وسأبقى أنتظر، لكني متعب.. متعبٌ جداً يا براءة.. لا طاقةَ لي على الصبر أكثر.. 

عصفت بي المشاعر بشتّى أنواعها.. رغبةٌ بالبكاء.. رغبةٌ بالصراخ.. رغبةٌ باحتضان ذاك المنكسر.. ورغبةٌ بإبعاده عني خوفاً ممّا يفعله بي.. ثم بقيَ شعورٌ واحدٌ حين طبعت شفتاه قبلةً طويلةً على جبيني.. الرغبةُ بالبكاء.. وخفقانُ قلبٍ لا يشبه خفقانه مع نوح.. فإن كانت تلك الخفقات ترفرف كطير يتعلم الطيران لتوه.. فهذه ترفرف وكأنها تتقن الطيران باحتراف.. وكأنّها تعلمت الرفرفة لهذا المخلوق منذ وقت طويل.. بحق الله، من تكون؟ 



انلاصت بالزايد..🤐

لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن