الفصل الثاني عشر (الكامل)

301 56 137
                                    

كنتُ أثبّتُ حجابي بالدبوس وأقاوم شعور الغثيان الذي لازمني منذ الصباح.. لا أعرف هل بسبب التوتر لاقتراب موعد زفافي الذي سيتم بعد أسبوع.. أم بسبب الفوضى التي أعيشها في الفترة الأخيرة.. أم لسببٍ آخر.. وضعتُ يدي على جبيني وأغمضتُ عينَيَّ لأستجمع قواي.. فانضمّ إلى شعور الغثيان شعور الدوار.. تراجعتُ عن المرآة وجلستُ على طرف سريري فاحتلّت ندى المرآة لترتدي حجابها وهي تحادث صديقتها عبر حاكية الهاتف.. إننا نستعدُّ للذهاب في نزهة مع عائلة نوح.. أو حفل شواء كما يحب نوح أن يسميها.. سوف نجتمع في بستان خاله ونقضي النهار بين الشواء والطعام والتنزّه بين النخيل والأشجار.. رغم أنني كنتُ متحمسةً للفكرة قبل أيام إلا إنّ كل ما أرغب به الآن هو إلغاء الفكرة والبقاء في المنزل مع عائلتي.. سمعتُ نداء والدتي وهي تطلب المساعدة.. فنهضتُ من مكاني رغم احتمال اشتداد دواري وتقلّب معدتي.. سرتُ بحذر إلى المطبخ وأخذتُ أعاونها بوضع ما جهزته من مقبلات وما صنعناه من حلويات يوم أمس في عُلب وأكياس.. قلتُ بإجهادٍ وأنا أجلس على الكرسي عند طاولة الطعام التي لم نستخدمها يوماً لوجبات الطعام:

ـ هل يمكنُ إلغاءُ النزهة؟ لستُ على ما يرام.

قالت وهي تضع علبة الشاي في الكيس مع السكر والكعك:

ـ بالطبع لا يمكن، لا بد أنهم في انتظارنا في البستان الآن. ممّ تشكين؟

ـ غثيان ودوار.

ـ ربما بسبب تجهيزات الزفاف التي أرهقتكِ هذه الفترة، هل أصنع لك عصير ليمون؟

انحنيتُ إلى الأمام وأسندتُ جبيني على الطاولة فانتعشتُ لبرودتها..

ـ أفضِّلُ أن نبقى في البيت.

ـ لا يمكن، ليس من اللائق أن نتراجع في الدقيقة الأخيرة.

إنه ليس الغثيان.. وليس الدوار.. بل هناك شيء في داخلي لا يرغب بذهابنا.. شعورٌ مزعج تربع في صدري ولن ينزاح حتى تُلغى النزهة.. دخل والدي المطبخ وبدأ يحمل الأكياس إلى السيارة بمساعدة مصطفى.. ثم حملنا أنا ووالدتي آخر ما تبقى ولحقنا بهما.. كانت ندى قد سبقتنا وجلست في المقعد الخلفي.. فجلستُ بجانبها وجلس مصطفى بجانبي.. فتحتُ سحاب حقيبتي وأخرجتُ منها علكةً لأخفّفَ من حالة الغثيان.. ثم ناولتُ كلّاً من مصطفى وندى واحدةً حين مدّوا يديهما إليّ.. أرجعتُ رأسي إلى الوراء وأغمضتُ عينَيّ مستمعةً إلى النشيد الذي ابتدأ تلقائياً مع تشغيل والدي للسيارة.. سمعتُ والدتي تسألني عن حالي.. فهززتُ رأسي بالنفي دون أن أفتح عينَيّ.. ساعدني اهتزازُ السيارة الخفيف أثناء مسيرها على الاسترخاء قليلاً.. لكنّ الثقل الجاثم على صدري لا خلاص منه.. ضغطتُ على شفتَيّ وأنا ألتقط أنفاسي بجهد. لم يكن يجدر بنا المغادرة.. كان يجب عليّ إقناعهم بالبقاء..

ـ لمَ تبكين؟

فتحتُ عينَيّ ونظرتُ إلى مصطفى باستغراب.. ثم لمستُ وجنتي بأصابعي فتبللت بالدموع.. عدتُ لأنظر إلى مصطفى بحيرة من أمري.. لمَ أبكي؟..

فأبتسم بعطف ليقول:

ـ لا تبكي..

كانت ابتسامته آخر ما رأيتُه بوضوح، قبل أن تنعطف السيارة بشكل مفاجئ وعنيف لتتشوش رؤيتي ويخطف أنفاسي الفزع وصراخ عائلتي.. اصطدمت السيارةُ بشيء لم أستطع تمييزه وسط حالة الهلع التي اجتاحتني.. ثم انقلبت جانباً لتنعدم الجاذبية وترتفع أجسادنا إلى سقف السيارة، ثم جانباً.. لتعودَ إلى المقاعد كالأكوام على بعضها.. ومرةً أخيرةً لتستقرَّ أجسادُنا على سقف السيارة حين توقفت عن التقلّب.. كانت أطرافُ إخوتي تحتي، حاولتُ الابتعاد عنهما لكن حركتي شلّت.. وشعرتُ بشيءٍ دافئٍ يتدفق من رأسي بغزارة.. حركتُ عينَيّ جانباً لأطمئن على مصطفى.. فلم أرَ سوى ظهره الذي غرزته قطع الزجاج في أماكن عديدة.. ثم سمعتُ تنهيدةً عميقةً من ندى وحاولتُ تحريك عينَيّ نحوها.. لكن الدوار الشديد منعني.. ثم أحاطني الظلام من كلِّ جانب وفقدتُ الإحساس بآلام جسدي.. 

لا تعبث بعالميWhere stories live. Discover now