عائد من الموت |الجزء الثالث

92 5 0
                                    

إستنفذَ عوض طاقته ليصنعَ لي ما ينجيني، لا تجمعني به سوا أيام الضياع في هذه الجزيرة، لم يكن حتى من أهل قريتي. شعرت بإختلاجٍ في قلبي كلما كان يردد قوله بأن لا أبرحَ حتى ادفنه، وددت لو كان بمقدوره الصمود اكثر.
بعد ان بدا على محياه الضعف والهوان، واشتدت عليه علامات الإعياء، وبدأت سكراتُ الموت تُطل من بين جُنبات وجهه المُسفر، حملته ووضعته في الحفرةِ الأخيرة وجلست على مقربةٍ منه، حاولت اقناعه لنغادر الجزيرةَ معاً لكنه رفض رفضاً قاطعاً، واردفَ قائلاً: من المحال ان يحملَ هذا اللوح شخصين، انا صنعته لك، ثم إني اذا توفيت الأن ستقدم انتَ على دفني، أما انت فلن تجد من يدفنك، فاذا نزلت الى البحر ربما ستجد من ينقذك، اما اذا فارقتكَ المنية، فستأكلك الأسماك عوضاً عن الدود، اذا عدت سالماً اتمنى منكَ أن توصلَ سلامي لأهلي وزوجتي وأطفالي.
تمزقَ فؤادي وانا أطالعه وهو يُصارع الموت، بدأت أمسح على رأسه محاولاً بذلك تخفيف الألم الذي يضرب به من كل صوب. سويعات قليلة حتى فارقت عوض المنية، دفنته ثمَ ركبت اللوح الخشبي، وبدأت امشي به في البحر.
ألقيت بجسدي المتهالك ورفعت وجهي محدقاً بالسماء، استنفذت كل طاقتي، ناجيت الله كثيراً عله يُحدثُ بعدَ ذلكَ أمراً، حاولت جاهداً بالتماسك إلى أن خارت قواي نهائياً. تضارب الأمواج وارتفاع درجات الحرارة، إختفت صفحية السماء شيئاً فشيئاً، إلى ان غبت نهائياً عن العالم.

قطراتُ ماءٍ تسقط على شفاهي، وقماشة يبدو انها قطنية كانت تمسح على جبيني، بدأت افتح جفوني على هوان، وجوههم غير مألوفة، لكنهم كانوا يقطرون الماء في فمي ويطعمونني بعضَ قطعِ الخبز، خشيةً علي من  إنفجار الرئتين والكلى، تمعنت في وجوههم بعض الوقت، لتذبل جفوني مرةً أخرى وادخل في غيبوبة ٍ كانت لثلاث أيام.
استيقظت في اليوم الرابع فقد بدأتُ أسترد عافيتي بعضَ الشيء ، لكني كنت لا أقوى على الكلام فلساني كانَ أشبهَ بالأخشاب لشدة جفافه، بعدَ مُضي عشرةِ أيامٍ على مكوثي معهم وإعتنائهم بي، فيسقونني الأعشاب تارة، والشاي تارةً أخرى هكذا دواليك الى ان اصبحت في صحةٍ جيدة نوعاً ما.
بدأتُ اطرح عليهم الأسئلة التي تدور في خاطري، فقلت: من انتم؟
_نحن مجموعة من صائدي الأسماك، كنا نلقي بشباكنا إلى أن طلَ علينا لوح خشبي من بعيد، كنت في حالةٍ يرثى لها، ظنناك من الجن في البداية لشدة ضعفك ومنظرك المرعب، حتى اقتربنا منكَ أكثر فأكثر، حملناك على متن قاربنا واحضرناكَ إلى هنا لنرعاك.
_أينَ أنا الآن؟
_انت على أطراف جدة. كيف وصلت إلى قلب البحر؟
بدأتُ بسرد قصتي لهم من البداية، قالوا لي : انت هنا بأمانٍ معنا، لكنكَ ما زلت بحاجة لعلاجٍ مكثف، واذا دخلت إلى المشفى ستدري السلطات الأمنية بوجودك، فإذا كنت تريد البقاء هنا للعمل سنحضر لك طبيب مختص إلى المنزل، عدا عن ذلك سنذهب بك إلى المشفى فأنت تحتاج إلى عناية حثيثة تحت الأجهزة الطبية.
_رأيت الموتَ بأمِ عيني، دفنت أقارب لي ورجالاً أشاوس جمعني بهم القدر في ظروفٍ سيئة، ولا طاقةَ لي للعمل بتاتاً، ارجوكم اخبروا السلطات علها تعيد تسليمي إلى السودان.
فهم أحدهم وناولني كيساً، فطنت بأنه الكيس الذي يحوي إثباتات الرجال الذين توفوا على الجزيرة، كان عوض يضعها فوق قبر كل واحد إثباتاته لنتعرف عليه في حال وصول المساعدة، وعندما يأس، وضها في كيس ووضعها في اللوح الخشي، ووضع فوقها ملابس كل شخصٍ قد توفى ليجعله أكثرَ راحة.
اخذوني إلى المشفى، وبلغوا السلطات الأمنية وبعد التحقيق معي، وتأكدوا بأني من السودان، وتواصلوا مع الجهات المختصة السودانية، أخبروهم بأنهم كانوا يبحثونَ عنا وتم تسليمي الى دولتي. لأعيشَ بعدها بينَ عائلتي.

ذهبت لقرية عوض واخبرتهم عن تضحيته من اجلي، وتزوجت وانجبتُ خمسةَ اطفال، لتُخلّدَ بذلكَ قصةَ تضحية وبسالة من رجلٌ، صارعَ الموتَ لينقذَ غيره.

..تمت..
تنويه :
القصة بأحداثها وشخصياتها وتواريخها حقيقية، سردتها لكم أعزائي بأسلوبي الروائي.
#بِــقَلَمـــي 🖤🐼
#حنان_جناجرة

الجانب المظلم Where stories live. Discover now