3

21 3 22
                                    

لقد مضى شهر.

كانت تلك الأمسية معتدلةَ الجو خريفية، وكانت المهاة فيها تميل منطفئةً على أبراج كييف وعلى آكام القبور البعيدة في السهب.
كان نورها لم يزل مرئيًّا على السطح عاليَ يوسف وجوستاف، فكانا منكبَّين على عملهما، جالسَين في صمت، مستخدمَين أشعات المساء الأخيرة في اجتهاد.

لم يكن جوستاف قد رجع من المدينة من زمانٍ حينئذ، وقد كان شاحبًا خائرَ القوى، وكان يلهث أكثرَ من عادته.
وعلى وجهه كانت قترةٌ ظاهرة، وهمٌّ بادٍ، وألمٌ واضح، قد حاول أن يخفيهن جميعًا ففضحته الحمى في عينيه.

كان كلا الرجلين صامتًا، ولكن كان جليًّا أن جوستاف أراد أن يبدأ الحديث غيرَ مرة، إذ كان يلتفت إلى يوسف بين الفينة والفينة، ولكن كان يعود عن ذلك لما كان من صعوبة الكلمة الأولى في بدء الحديث، فخاض في كتابه أخرى.
وبعد هنيهةٍ نفد صبره، فقبض على قبعته من المنضدة ونهض.

"ما الساعة الآن؟" سأل هو.

"السادسة."

"لمَ لا تذهب إلى كِنِّ الأرملة؟ فأنت تزورها كل يوم."

التفت يوسف إلى جوستاف وقال:
"كان هذا سؤلَها، أن أذهب معك إلى مسكنها أولَ مرة، ودعنا لا نذكر الأمر. أنا لا آبه أن أذكر ما هو مكروهٌ لكلينا، إذ إن أحدنا يفهم الآخر حقَّ الفهم في هذا الأمر. إنني لن أرى الأرملة الليلة ولا غدًا ولا في أي يومٍ آخر، وهذه كلمتي لك، وهذه يدي إليك."

ثم مكثا في صمت بعدئذ، يوسف مادًّا يده، وجوستاف مضطربًا مترددًا من الحرَج بينهما، ولكنه صافح صاحبه في النهاية.
كانت الكلمات تتلجلج في لسانيهما كليهما، فأحدهما لم يرد أن يبديَ وجهُه مشاعر قلبه، والآخر امتنانَ قلبه، وبعد هنيَّةٍ افترقا.
إن مشاعر الرجال لغريبةٌ أحيانًا.

وعد يوسف جوستاف أن لا يرى السيدة هيلينا، وسواءٌ عليه أكان أحبها أم لا، كانت تلك تضحيةً منه، إذ لم يكن في سمائه الليلاء سواها من نجمةٍ لامعةٍ أحبَّت أفكاره أن تدور في فلكها.
ومع أن التفكير فيها لم يكن إلا في اللحظات المنتزَعة من الكدح الجادّ والمسخَّرة للراحة والحرية العقلية، كان إعلان مثل تلك اللحظات يعني أن يَحرم الراحةَ سحرَها، وأن يزيل الدافع من الحياة في مكانٍ قد يُزهر فيه الشعور ويتفتح.

على أن يوسف بعد التفكير في هذا قليلًا بتَّ أمره دون تردد: أن يضحي بها.

ولكن، بعد أن غادر جوستاف الغرفة طُبِع على وجه يوسف من تعابير الكره والغضب.
أكان هذا ندمًا على ما مضى، أو على الفعل الذي فعله لتوِّه؟
لا.

إنه حين مدَّ يده إلى جوستاف تردد هذا في أخذها، وإن المرء حين لا يقبل تضحيةً موهوبةً له من روحٍ فتيَّة فإنه يغلِّفُ فَعلةَ التضحية نفسها بغشاءٍ من السخرية، ولا يكون هذا في عقل المضحِّي إلا جحودًا وكفرانًا، وزرعًا لبَذرة البغض العميق في أرض الغرور الخصبة.

سدىWo Geschichten leben. Entdecke jetzt