13

5 0 0
                                    

لم تكن هيلينا في البيت حينئذ، فانتظرها يوسف بضعَ ساعاتٍ وهو يسير في حجرتها جيئةً وذهابًا.

وكان قد عزم أن يخرج نفسه من سبيل الخطأ الذي سلكته فيه وصايتُه على الأرملة والكنتيسة وإن كلفه الأمر كل غالٍ ونفيس، ولكنه اعترف لنفسه مع هذا أنما جاءه هذا العزم بالألم، وقد كان ألمًا شديدًا حتى ليكاد يبلغ ألم البدن.

لقد أتى يوسف ليسأل هيلينا نفسَها، ولكن قد بدا له في تلك الأثناء أنه لم يستطع أن يطيقها، بل كان قلبه وعقله مع الأخرى، حتى لقد كان يدعو في قلبه ويرجو أن يكون معها ولو لحظة.
لقد أحبَّ لولا كما تحب الطبائع الفتيَّة من يبدي لها الجفاء.

وجعل يهيئ نفسه للقاء هيلينا، وارتأى أنما لن يكلفه هذا يسيرًا، فإنه ليس أشد تنفيرًا من قولك لامرأةٍ لا تحبها إنك تحبها، وتلك واحدةٌ من أقل طرائق النفاق التي تسلكها طبيعة الرجال حق الرجال.

لقد أحب يوسف هيلينا زمنًا، ولكنه لم يعد يحبها، حتى قبل أن يعلم بلوعة عشقه لولا، وبعد أن رأى ذلك أخذه الضعف هنيهة، فشعر بهذا الحب الجديد وخاف أن يفكر فيه ويقرَّ به، حتى إذا علا صوت قلبه قال له: "اصمت!" وأصمَّ أذنيه عنه خشيةَ أفعاله وما يبتّه فيما يستقبل، بيد أن ذلك لم يكن دأبه من قبل فلم يطُل بقاؤه فيه.

لقد شبَّ أوجستينوفيتش بشخصه الغريب هذا الحبَّ في عينيه، وأكرهه على أن يلقاه وجهه لوجهه، فلم يكن مناصٌ من بعد، فنشط يوسف في المعركة ومضى منها إلى هيلينا.

على أنه لم يذهب إلا وعلامات العناء في وجهه وجسمه، فسرت الحمى في دمه وتشتتت أفكاره، وعجَّ عقله بمختلف الصور من الذكريات الصغيرة العزيزة التي ظنَّ بها ظنًّا لم يظنه من قبل أن لولا تحبه.

"فهل ليَ الحق أن أوهن سعادتها؟"
صاتت فيه هذه الفكرة الحمقاء صوتَ السهم الأخير المارق من محاربينَ غُزُوا، بيد أنه كسر هذا السهم بذكره أنما كان بينه وبين هيلينا لزام، أما بينه وبين لولا فلا.

ونتج عن قرار يوسف الذي أقره مشاقَّ أخر، فقد كان صادقًا في عقله، ولكن لا يتم له أن يجعله حقيقةً إلا أن يكذب، أن يكذب حياتَه بطولها بزعمه الحب، فبدا الشر نتيجةً عن الخير.

"ويحي، ألا أجن؟" قال في نفسه. "ستُفتَل هذه الحياة كالخيط، فإن كل امرئٍ فيها يدور وراء السعادة كما يدور الكلب وراء ذيله ليأرمه، ولا خلاف في هذا بين الناس."

يا عجبًا! فلقد أخذ يوسفَ الذي لم يكن يحب الخطب الجدالُ في التعاسة.
على أن لمثل هذه الفلسفة سحرَها: أن الرجل ليحب شقاءه كأنه سعادة!

وفي تلك الأثناء وقبت الشمس، ولكنما لم تأتِ هيلينا، فظن يوسف أنها زارت المقبرة ولا ريب، وهو نفسه لم يدرِ لمَ أغضبه هذا الظن عندئذ.
ثم إنه أشعل شمعةً وجعل يمشي في الغرفة، ومن غير عمدٍ وقع نظره على بوتكانسكي.
إنه لم يعرفه قط، ولكنه لم يقبله، ولم يكن له سببٌ في هذا إلا أنه "ابنُ نعمة."

سدىWhere stories live. Discover now