4

13 2 0
                                    

لقد كان الخريف يدنو بصقيعه، وكان البرد أشدَّ ما يكون في غرف الأفقر من الطلاب.
كانوا يُزَمّلون أنفسهم في دُثُرهم ورءوسَهم في قلانسهم ويصطلون بالمذاكرة.
وأما الغرف التي كان لأصحابها شيءٌ يسيرٌ يشعلون به المواقد فكانت تعج بالطلبة.

وإنه لم يعد أحدٌ يزور الندي، فبديئةً التمسوا مكانًا آخرَ يكون لهم نديًّا، ولكن لم يصِر الأمر إلى شيء، لأن جوستاف ويوسف -الذي كان قد كسب شهرةً وتأثيرًا فيمن حوله- قد عارضا الأمر، وخاصَّةً يوسف الذي ارتأى أن الأندية مُضَيِّعةٌ للوقت قليلة الفائدة.
على أنه أراد أن يصلح لهم أمورهم، وقد استطاع في النهاية أن يفلح، وعلى الرغم من الآراء المضادة له ناصرَ تلك الفكرة في الجامعة، وفي غرفة فاسيلكيفيتش خاصَّة، حيث كان الطلبة يلتقون وفيهم الحماسة التي لا تكون لهم إلا فيها.

لقد قاسم كارفوفسكي فاسيلكيفيتش الغرفة، بل قل قاسمها الثاني الأولَ، إذ إن كارفوفسكي مع غناه العظيم (كان هذا هو الفتى الشاحب الذي عزف على البيانة لأصحابه في الندي) ومع أنه هو الذي كان يدفع النصيب الأكبر من إيجار المسكن، تُرِكَت إدارته وقوامته للّتواني.

كانت صداقة هذين الاثنين موقَّرةً مغبوطة، فكان أحدهما رقيقًا جميلًا مدلّلًا، له رأسٌ ملآنُ بالسامي من الأحلام، وديعَ الأخلاق محبوبًا، قد تلقَّته الحياة برفاهيَّتها وترفها.
وأما الآخر فلتوانيًّا قُحًّا، قبيحَ المنظر مُنكرِشَ (1) الوجه، له شعرٌ قصيرٌ وعينان نافذتان، فتيًّا كادحًا خبيرًا مجرِّبًا، فكان للأول حارسًا رفيقًا وأخًا كبيرًا.

كان لفاسيلكيفيتش قلبٌ طيبٌ دافئ.
ذات مرةٍ مرضَ كارفوفسكي فمكث يطبُّه ليلَه ونهارَه ولم يكترث لنفسه، وحينما برأَ بكى اللتواني وعاتبه مبهتجًا.
"أوَّه أيها الدُّعبب!" قال حينها. "يا لها دعابةً أن تمرض، ولكن ويلك إن فعلتها ثانيًا!"

كان الطلبة يدعونهما الاثنين المصطَفَيَيْن، وسمَّاهما شيخٌ عجوزٌ كفيفٌ من أكرانيةَ يشحذ غيرَ بعيدٍ من مسكنهما وقد اعتادا أن يصَّدَّقا عليه 'السيدَين الطيًّبَي القلب'.

لقد وحَّدتهما المقادير، وخاصَّةً بما نحن ذاكروه الآن.
لقد قضيا معًا إجازةً صيفيةً في الريف عند كارفوفسكي، وكان هذا الأخير له أختٌ واهيةٌ غير جلابة، ولكن كان لها طيبةٌ عجيبةٌ في قلبها أغنتها عن الجمال.
كانت هادئةً ساكنة، كأنها ملاكٌ حقًّا، وكان لها وجهٌ صغيرٌ أحرقته الشمس، وهيئةٌ رقيقةٌ كالقوارير.

وحينما رآها فاسيلكيفيتش أحبها حبًّا جمًّا بطريقته في الحب، مؤمنًا بها وبحبّه، وقد أحبته هي الأخرى.
لم يعلم أبواها بالأمر وإنما كانا يظنان، أو ربما علما ولم يريدا أن ينغصا عليهما.
كانت الفتاة غير باهرة الجمال، وكان هو ثقةً صادقًا، فساوى هذا بين اختلاف مكانتيهما الاجتماعية.
وكذلك لم يريدا أن يحرما ابنهما من مجتمعٍ نافعٍ له في كل حال.

سدىWhere stories live. Discover now