22: الأخير

17 1 3
                                    

يقول الشاعر القديم عن عالمنا:

تلبَّسَت أسرارهُ
حتى بدا مستعجَبًا (1)

وإن هذا لحق، فكثيرًا ما تُعقد الحياة عقدًا لا حل له إلا قطعه، كما قُطِعَت فيما مضى العقدة الغُرديَّة. (2)
وكذا كان أمر يوسف، فقبل بضع سنين من نزوله كييف ملآنَ ثقةً بقوته، كان يرى أنه يحكم قدره، بل وأقدار الآخرين معه، على طريقةٍ يختارها هو.
ثم بدا له أنما تمرد على حكمه خدف قاربه هو!
وكان له أن يمضي قدمًا وينجوَ بنفسه، ولكنما اضطرته الريح أن يبحر معها في مقاصدها، ومن ذلك لم يكن له من سعادةٍ في حياته إلا قليلًا.

وكان أمره في هذا كأمر سائر الرجال، حين تفور القوة في أعصابهم وهم شباب، فلا تجد لها مصبًّا حينئذٍ إلا واحدًا ضيّقًا؛ هو حب امرأة.

ولم يكن بين الضفاف إلا فرجةٌ صغيرة، فمن ذلك تدفق السيل وانفجر، فلم يعرف يوسف من السلم إلا لحظاتٍ قلالًا.
ولربما رجع الخطر بعد آخر ما كان من شأنه مع هيلينا، فخشيَ أوجستينوفيتش أن ينتكس، ولكن من حسن حظهما أنما حبِطَت مخاوفه.

كان يوسف يطيب يومًا بعد يوم، ولكن شقَّ أن يُعرف متى يقوم من طرحته، فقد كان وهنه بعد مرضته الشديدة عظيمًا، ولكن كانت صحته تئوب إليه.

وقصَّر أوجستينوفيتش من طول ساعاته في المستشفى بجهد استطاعته، ولكن ذهب جهده سدى وهو يبتغي رجوع ما كان في ماضيه من ظرفٍ وفكه.
ولقد جعلته آخرات الحوادث رصينًا مقتصدًا في الكلم، ففقد من ذلك جل عاداته القديمة، فلم يزر السيدة فيسبرج منذ مرضة يوسف ولو مرة، وإن كانت لتجيء كثيرًا لتسأل عن يوسف.

ولكن، إذا كانت قد أثرت أحداث الأيام الماضية تأثيرها في أوجستينوفيتش، فكيف فعلت بيوسف!

لقد نهض من طرحته الطويلة رجلًا آخرَ غير الذي كانه، فخسر في نفسه نشاطه وحماسته، وثباته ورزانته، وصار في حركاته بطء، وفي نظراته خمول، كأنما كان من الكسل.

وقد أعزى أوجستينوفيتش هذا، وقد أصاب، إلى الضعف الذي لا مناص منه بعد مرضٍ كهذا، غير أنه سرعان ما بدا له منه ما لم يألفه، ولم يبدُ في كلماته اكتراثٌ بشيء.
وعاد ينظر إلى العالم، ولكن كانت تلك نظرةً غير التي كان ينظرها، حتى ليُظنُّ أنه لم يعد يشعر بشيء.

وكان كريهًا أن ينظر المرء إليه، فإن ما حدث لم يمسَّ نفسه وحسب، وإنما ظهر أثره على بدنه، فخفَّ شعره، وابيضَّ وجهه وانتحل، ونعست عيناه، وخسر وجهه نضرته.
وكان يقضي أيَّامًا بتمامهن ولا يحرك ساكنًا، ولا يفعل شيئًا إلا أن ينظر في السقف أو ينام، ولم يكن يعنيه حاضرًا كائنًا من كان.

كل ذلك أفزع أوجستينوفيتش، وخاصةً حين أدرك أنه على ما كان من سرعةٍ في عودة صحته إليه، ركزَت تلك السيما في وجهه، وإن كانت لتُزال فقد كان زولها بطيئًا جدًّا.

سدىWhere stories live. Discover now