20

9 1 3
                                    

كانت السيدتان الشابّتان جالستَين في حجرة لولا، ويا ما كان آلمه من صمتٍ ذلك الذي ران عليهما.
إنه إن كان ثم لحظاتٌ مريرةٌ في الحياة فقد ألقَين ثقلهن على حاضر لولا وقدرها فيه، فقد وُطِئَ كل ما جعلته في صدرها مقدّسًا.

لقد بايَعَته في ذلك الحب على خير ما فيها، فمن قوة ذلك الشعور علَت من زلةٍ عاجلة، وانسلخت من عقائد أسرتها، وردَّت يدَ رجلٍ أحبَّها، وردَّت معها مستقبلًا هنيئًا، وعيشًا رغيدًا، وغناها عن الناس، فلم يكن ثمن هذا إلا أن الذي أحبّته سينكح أخرى!

بلى، ولقد زاد خسرانها؛ فنُسِفَت سمات الملائكة التي أكسبتها إياها الأيام الخوالي إلى ترابٍ من اليأس، بل لعل زهرة روحها ذبلت حتى لم تعد إلا شوكًا!
ألم تخسر مع الحب إيمانًا وأملًا، وليس الإيمان بالله، وإنما بقيمة الحياة؟

كانت الأرض تَزَلزَل من تحتها، وكانت كزورقٍ بلا مجذاف، أكرهته رياح المستقبل على أن يسير في مسارها وهو لا يرى شطآنًا.
وهي اليوم يتيمةٌ تحيط بها القلوب الصادقات، ولكن ربما لا تجد نفسها غدًا إلا وقد غشاها الجوع وأعدمها كسرةَ الخبز، وهي اليوم بيضاءُ بيضاء، حتى لتكاد الزنابق تزهر على صدرها، ولكن ربما يلُوث ما تعيشه من مرارٍ ذلك البياضَ غدًا، وهي اليوم شبه طفلٍ في صباحات الربيع من شهر مايو، ولكن ربما تنظر بعد أعوامٍ إلى خريف حياتها الذي لا ثمر فيه ولا أزهار.

ذليلةً خاشعة، جافَّة العينَين مقفعلَّة، كغصَينات الأشجار بعد إذ أصابهن وابل، تُساق بعيدًا عن هيكل أخلاقها، وتُقتل في بهجتها، ضمّت مالينكا المنتحبةَ إلى صدرها.

إن لولا لم تبكِه، فمع ما كان في عينيها من العبرات أجفَّهن الغضب، أما مالينكا فكفَتها وكفت نفسها البكاء. 

وفي اليوم التالي تلقَّت الكنتيسة رسالتَين؛ إحداهما من بيلسكي، وأخراهما من يوسف.

وهذا نص ما كتب الأول:

"سيدتي، لقد جعلني الألم الذي شعرتُ به من جوابك إياي لا أعي ما أقول، فرفضتُ صداقتكِ التي عرضتِها عليَّ، ولكن.. ما أندمني على هذا الفعل!
ومع أنني لا أجد ما أفسر به معاملتك إياي أحسبه كان صوت قلبك الذي قوّلكِ هذا، وأنا موقنٌ بأن ذلك الصوت لم يخدعك ولم يغشَّك.
وإن كان الذي فضَّلتِه عليَّ بحبكِ يحبكِ كما أحبك أنا، فهنيئًا لكِ سعادة الدهر.
إنني لا ألومنّه، فإنه لا يكون لي هذا مع رجلٍ تحبينه أنت.
أما أنا فبعد إذ أكرهتني الضرورة القصوى على أن أفارق أملي فيك، أرجوكِ يا سيدتي رجاءً لا يكل أن لا تذكري كلماتٍ قلتُهنَّ في حين الألم.
وائذني لي أن أرجع إليكِ، وأن أقبل صداقتكِ التي رفضتها عن طيش، صداقتك التي قد تكون لي سعادةَ حياتي.."

وفي أمسية ذلك اليوم جاءها أوجستينوفيتش برسالةٍ من يوسف، غير أن لولا لم تحب أن تفتحها.

"ألا لا تظلميه." قال أوجستينوفيتش متوسلًا. "فلعل صديقيَ القديم الآن.." وخنقته العبرات، وعلقت الكلمات في حلقه، ثم قال هامسًا:
"ربما تكون هذه آخر كلماته.. لقد أخذتُه أمسٍ إلى المستشفى."

وحينئذٍ شحب وجه لولا وذهب لونه، وبدا لها لحظةً أنه يُغمى عليها، وجاهدت لتبقي وجهها هادئًا باردًا، ولكن لم يكن ذلك إلا كما يكون الهباء، حتى لقد اهتز جسمها اهتزاز ورقة شجرة، فهي على ما كان من الأمر كانت تحب يوسف.

ثم إنها أخذت الرسالة من يد السيد آدم، وجعلت تقرأ ما فيها:

"سيدتي الغالية، لقد كنتُ جلدًا على خسارتك، ولم أَهِن إلا حين خسرتُ احترامك.
ألا فاقرئي واحكمي.
لقد كان لي صديقٌ جعل في حِجري امرأةً أحبَّها حبَّ قلبٍ لاقى من عشقها ما لاقى، وكان ذلك قبل أن يشقَّ بصرُه.
لقد حرمتُه حبَّ هذه المرأة في حياته دون أن أعمد، فبعد موته عرفتها معرفةً حميمة، وخُيِّل إليَّ أنني أحببتها.
وكان من سوء سعدي أنني أظهرتُها على ذلك، وما كان بعدئذٍ، أيتها السيدة الحبيبة، تعلمينه جميعًا؛ أنني كتمتُ نفْسي حبَّكِ المقدور عليّ، ويا لله كم عُذّبت!
ألا فاعذريني، فإنني إنسان! وأنا كذلك أحب حبًّا عظيمًا، ولكن من أسفي أنكِ لم تعلمي هذا الحب من لساني أنا.
ثم إنني مثُلتُ أمام ضميري، وحانت لحظة الذكرى، فاحكمي بنفسك كيف كان لي أن أتصرف، وأين كان لي أن أذهب، وماذا كان عليّ أن أفعل؟
لقد أمرني يمينٌ أبرُّ به رجلًا منازعًا، وأمرتني كلمةٌ حدثتُ بها امرأةً شقيةً لم تعرف النعيم، وكل شيءٍ عدا قلبي أمرني أن أهجرك.
ومع هذا لم يكن من خطئي أنكِ لم تعلمي بهذا إلا أمس.
لقد كان ينبغي لهذا النبأ أن يبلغك ما إن ظهر الكنت بيلسكي، ولكنما حكمت التعاسة بغير ذلك. هكذا هي الأمور! ألا فاحكمي، وإن استطعتِ فاصفحي.
يقول آدم إنني مريض، وإنه لعلى حق؛ إن أفكاري لتبكي، وإن دمائي لتحترق، ولم أرَ إلا شيئًا واحدًا جليًّا من الألم واللَّجَّة.. أنني أحب! أنني أحبكِ أيتها الملاك!"

وبعد قراءتها هذه الرسالة زالت آثار الغضب والخيلاء من جبين لولا، وتجلَّى على وجهها النضِر كآبةٌ وادعةٌ عميقة.

"سيدي آدم.." قالت. "قل للرجل إنه أصاب فيما فعل."

"واعفي عني أيْ سيدتي العزيزة.." قال أوجستينوفيتش وهو يلقي بنفسه على ركبتَيه راكعًا. "لقد أخطأتُ في التقدير فظلمتكِ ظلمًا شنيعًا، ولكنني.. لم أكن أدري بأنه ثم نساءٌ في الكون مثلك."
________________________________

سدىWhere stories live. Discover now