17

4 0 0
                                    

لقد طالما ابتغت مالينكا أن تعرف سبب غياب يوسف حقًّا من أوجستينوفيتش.

"لمَ تقيد يدَيها؟" كانت تسأله، قاصدةً لولا.

فكان يصدُقُها أنه لم يرد أن يغلَّ يدَيها، ثم يصمت بعدها أو يكذب.

وعلى الجانب الآخر كان يُقنع يوسف أنما قد علمت الكنتيسة بكل شيء، فكان يقول:
"لقد أنبأتها بكل شيء."

"ولكنها..؟ لا تُخفِ علي!"

"يوسف؟"

"ماذا؟"

"ما شأنك في هذا؟"

فيَصكُّ يوسف على أسنانه ثم يصمت مخزيًّا.

ولقد اعترف إلى نفسه أنما لم تكن تلك الأسئلة إلا استغراقًا في الضعف وذكرى الشعور.
وبضيقةٍ رأى أن مر الزمان عليه لم يهب له من الراحة شيئًا، وأنه كانت له أوقاتٌ رجا فيهن أن يصرف عنه هيلينا ويدعَ الواجب الذي عليه والضمير الذي فيه ويمضي ليشريَ كل شيءٍ حتى الشرف، بل حتى بقايا تقدير النفس، ابتغاءَ لحظةٍ واحدةٍ يستطيع أن يركن فيها إلى الكنتيسة ويريح رأسه على كتفها.
غير أنه لم يستطع إلا أن يذكرها ويفكرَ فيها.

لقد كان فيما مضى فتيًّا مقدامًا، ولكن لم يكن منه الآن إلا أن يذكر ماضيه واختلافه فيه عما صار إليه.
كان له فيما مضى الغَور الهادئ الذي يُخفي كل شيء، أما اليوم فهو مكمودٌ يغلي.
ومن المشاعر الملتهبة صار أمره إلى الكآبة والحنين، وتذكر كيف اعتاد يومًا أن يسخر من هذا في الناس، وكيف كان يستهزئ بهم ولا يرحمهم، وكيف كان يزدري العاطفة.
كان أوجستينوفيتش أعلم الناس بهذا.

وذات مرةٍ (بعد نحو شهرٍ من قطعه لولا) تعارَّ أوجستينوفيتش من نومه في ثلث الليل الأوسط، فإذا بيوسف لابسًا ثوب خروجه لم يزل، وجالسًا إلى كتاب.
وكانت الساعة في الليلة الساكنة تحكي اللحظات المقضية، ولا تكل عن ذلك ولا تمل.

وكان ثم مصباحٌ يبصُّ باللهب اللامع الجليِّ، وبرز من نوره لحية يوسف الحمراء ووجهه الشاحب على ظهر المقعد الأسود.
كان قاعدًا مهطعًا رأسه مغمضًا عينيه، بيد أنه لم يكن نائمًا، وقد عُرِفَ ذلك في لون وجهه وارتفاع حاجبَيه.

لقد كان في محيَّاه آثار سعادةٍ لم ينطق بها، كانت كأنها ضربٌ من الحلم، كفراشةٍ ذهبيَّةٍ جاثمةٍ في عقله تُذيب حدَّة ملامحه فتجعلها إلى وداعةٍ ضبابيَّة.

نظر إليه أوجستينوفيتش حريصًا، ثم جلس في فراشه صامتًا ووجهه ملآنُ بالسخط والغضب.
"تُرى ماذا يفعل؟" قال في نفسه. "إنك لتغوي نفسك! ألا عُلِّقتُ من عنقي إن لم أرمِ رأسك بهذه الوسادة، أيها التائك! هاكها وإن كسرت المصباح!"

وما كاد ينتهي من هذه الأفكار الغشيمة ويستعد للضربة العظيمة حتى دسَّ نفسه تحت الدثار سريعًا، إذ فتح يوسف عينيه.
"تُرى ماذا يفعل الآن.." همهم أوجستينوفيتش، وهو يتعمّل النوم كالأموات.
وزاد ذهوله حينئذٍ حتى بلغ الحماسة.

نظر إليه يوسف مرتابًا، ثم دار بعينيه حوالَيه كالمجرمين، حتى إذا استيقن من خلوته فتح دُرجًا من مكتبه وفتَّش فيه يبغي شيئًا.

"وي! لا يكن يريد أن يطخَّ رأسه أو يسمَّ نفسه!" فكَّر أوجستينوفيتش مرتعبًا.

غير أنه لم يكن في يوسف حاجةٌ بسمِّ نفسه ولا بقتلها، وإنما كان ما أخرجه قفازًا صغيرًا متقبّضًا أصفر، ويا لها تذكرةً لمسكينٍ وهديَّةً تقول له بها: اذكرني، وتقول له معها: "Addio! addio! caro mio!" (وداعًا وداعًا يا حبيبي)

أما يوسف فكان ليذهب من أجل القفاز كإمرودَ 'بين فهدَين ونمر..' ولكن كان السؤال هل ينجو ويرجع كما رجع أم لا يعود أبدًا؟ (1)

وتمثلت الحماقة كعادتها؛ أن تغلب العقل أحيانًا.
ومن هذا رفع يوسف القفاز إلى شفتيه وأدناه منهما.

"ألا تستحي من نفسك يا رجل!" صرخ أوجستينوفيتش.

َوالحق أنه كان في هذا شيءٌ من الذل، فمن بعده خزي يوسف من فعلته جدًّا.
وبكرةً خرج قبل انتشار النور ليجتنب أوجستينوفيتش الذي كان غاضبًا ضائقَ الذرع، فقد بدا له أنه خُدِع في يوسف.

"ذلك البليد.." قال في نفسه. "إنه كالآخرين." وأهبَّت هذه الخاطرة فيه من تلك الكراهة التي نشعر بها عادةً حين يصغر في أنظارنا أحدٌ أنزلناه من أنفسنا عاليَ المنازل.
على أن أوجستينوفيتش زاد يقينًا بعد ذلك من رجعة يوسف إلى لولا.

"فلتمُت الأخرى أو تُجنّ.." قال قاصدًا الأرملة. "فهو راجعٌ إلى هذه وتاركُها.. فلتمُت.. فلتمُت." (دائمًا ما كان أوجستينوفيتش يحاول أن يقنع نفسه بكرهه للنساء) "فإما هذه وإما هذه، ويختار يوسف لولا ولا ريب."

ثم جعل يفكر هل يخبر لولا أنما يوشك يوسف أن يتزوج أم لا، وفي النهاية قطع أن يتوقف.

"ولكن لمَ أُعنى بهيلينا؟ إنه راجعٌ إلى لولا، فإن أنا قصصتُ عليها كل شيءٍ كان الأوان قد فات، قد فات! آهٍ وآهٍ وآه! ولكن هيلينا كذلك تحزن، فإن الأوان معها قد فات أيضًا. أجل أجل، إنه لا ينبغي لي أن أصلحَ واحدةً وأفسدَ الأخرى، ويجدر بي ألا أفوهَ بشيء، إنني صامت.. إنني صامت."

لقد استحبَّ هيلينا على لولا مئةَ مرة، ومن روحه ودَّ ليوسف أن ينكح هيلينا، ولكنه مع هذا كان يعنيه أمر يوسف دون المرأتين، فمن هذا أراد للولا أن تكون حرَّةً في اختيارها.
وكذلك ظنَّ أنه أيًّا ما يكن من الأمر تأخذ لولا بيلسكي.

"فإذن.." قال في نفسه. "أقول لشيخي: 'ره.' وأقول: 'إنني لم أخبرها بشيءٍ عن هيلينا، ولم أزعم لها أنك لا تحبها، ومع هذا فقد اختارت بيلسكي.'"

وكتم بحرصه نبأ زواج يوسف، في حالة أن لولا وهي تضحك مستبشرةً بعودته تهب نفسها لبيلسكي.

"سيرجو يوسف السعادةَ لهذه السيدة، وأقول لها وزوجها: 'بالرفاء والبنين!' وأقول وأعني يوسف: 'وبخطبته زمنًا من الدهر عشق وعُشِق..'"
________________________________

(1): مقتبسة من قصيدة القفاز للشاعر الألماني فريدريخ شيلر عن فارسٍ ترمي له حبيبته قفازها في حلَبةٍ فيها من الأسود والنمور والفهود ليثبت لها حبه، فينزلها ويستطيع أن يخلص القفاز من بين أسنانهم وينجو، بيد أنه حين يرجع إليها يقذفه في وجهها ويهجرها.

سدىWhere stories live. Discover now