14

4 0 0
                                    

بعد بضعة أيامٍ كان أوجستينوفيتش جالسًا في مسكن يوسف، وكان يعمل كادحًا لدنوِّ الامتحان.

وكان قد أظلَّ النوافذَ بالستار وأرسى في وسط الغرفة طاولة، وهي التي كان جالسًا لديها حينئذ.
وقد كان جليًّا أنه مشتغلٌ بتجرِبة، إذ بُسِطَ على الطاولة قواريرُ عتيقةٌ من زجاج، وأوانٍ ملأى بالسوائل والمساحيق، وانتصفتهن شُعلةُ الكحول التي أحاطت بلهبها الأزرق رأسَ معوجةٍ يُرجفها غليان السائل فيها.

كان العمل عنده سهلًا يسيرًا، كأنما يلين في يديه الحديد، فلم يعمل أحدٌ قطُّ من لِدَاته بسرعته وإتقانه.
ثم إنه مضى كذلك بابتسامةٍ من السعادة على شفتيه وحماسةٍ متوقّدةٍ في نفسه، يسلّي نفسَه أحيانًا بأغنيَّةٍ من الأوبرا أو بحديثٍ من الرواية، ورفع أولَ قارورةٍ وهو يذكِّر نفسه بسرعة الدنيا في طبيعتها وددَنِها.

وأحيانًا ما كان يترك عمله لحظةً يرفع فيها عينيه ويدَيه، وينشد بنبراتٍ من الأسى والشجن:

آهِ يوريديسُ إذ أقفُ
بإزا ذا الحسنِ أنحرفُ

وأرى من كل كائنةٍ
قبل أن يرتد لي طرفُ

صدقَت دِلفُويُ إذ شهِدَت
أنني في ذا الهوى خرِفُ

ثم يحبِّر صوته تحبيرًا ويمدُّ كلماته مدًّا وهو يغني:

صَهٍ صَهٍ يا بيانة! يا بيانةُ صَه! (2)

أو مما ارتجل من ساعته:

لو طُلتُ الشمسَ وقدتُ بها
غــليــونًــا دائــمــةٌ نــارُه

وحشوتُ الأرضَ بجَوبتهِ
تـبـغًـا لا تـنـضـب أنـهـارُه

"يا مُحمَّد! إن يأتِ يوسف يسهلْ ما أعمل، ولكنه مشغولٌ بهيلينا.. آه! وإذ كانت البراءة عزيزةً عليَّ فأنا مصلحها هكذا! عزيزتي هيلينا، اقبلي.. وماذا بعد؟ ما بعدُ خير.."

ثم بغتةً طُرق الجرس، فاستقبل أوجستينوفيتش الباب ومدَّ له يديه وهو يدندن:

كم كان بابي للناس من عضُدٍ
جَلدٍ إذا ما خـانـتـهـم العـضـدُ

وفتح البابَ فإذا به رجلٌ شابٌّ مهندم الملبس يدخل الغرفة دون استئذان.
على أن أوجستينوفيتش لم يعرفه من قبل ولم يره.

وكانت أظهرَ السِّيما فيه بدلةٌ من الخَمل، وسروالٌ فاتحُ اللون، وكان نظيفًا حليقًا ممشَّطًا.
أما وجهه فلم يكن إلى الغباء ولا إلى الذكاء، وكان من الطيبة بقدر ما هو من الخبث، ولم يكن قصيرًا ولا طويلًا.
وأما أنفه وذقنه وفمه فكنَّ كأنوف الناس وأذقانهم وأفواههم، فلم يكن فيه ما يميزه ألبتة.

"أيعيش السيد يوسف شفارتس هنا؟"

"يقينًا."

"فهل لي أن أراه؟"

"ليس الآن، وإنما في الليل، حين يجنُّ ولا يبقى بصيصٌ من نور، ربما تنقلب الآية."

وهنا أوشك صبر الوافد أن ينفد، ولكن لم يبدِ له وجه أوجستينوفيتش سوى الابتسام.

سدىOù les histoires vivent. Découvrez maintenant