16

3 0 0
                                    

لم تكد هيلينا تصدق سعادتها، فقد كانت تتأهب لتزويجها.
وكان قد مضى ماضيها الغائم، وسرى ليل حياتها، وأشرقت بنور الإصباح.
ومن امرأةٍ متقلبة النجم لا تدري أين تهوي وغورَ مهواها، ومن امرأةٍ متسولةٍ لا غدَ لها، إلى امرأةٍ في زمنٍ آخرَ من الحياة، تتلقَّى من رجلٍ أحبَّت حبَّه، وتكون له زوجَه، وتبدأ حياةً هادئة، حياةً لها غد، محاطةً بالود، مليئةً بالواجب والحب..
كذلك كان مستقبلها.

ووقفت هيلينا تتأمل الرابطة العجيبةَ بين ماضيها وما تستقبل.

"من حياةٍ كحياتي لم أحبَّ لها أن تكون، أنا لستُ لهذه السعادة أهلًا.." همست بذلك ليوسف وهو يضع خاتم الخطبة حول أصبعها. "لستُ لها أهلًا."

لقد صدقت تلك المرأة نصفُ المجنونة التي شغفها الحب، فإن ناموس الحياة لا يتفق به أن يزهر مثل هذا المستقبل، بيد أن حياتها كانت قد تركت الحَراك في فلَكها.

إن من النجم ما يدور وحيدًا في أفلاكٍ مبهمة، حتى إذا كنستهن كواكبُ أقوى يمضين قدمًا، سواءٌ معهن أو حولهن.

كمثل هذا حدث لهيلينا، فقد جذبت إرادةٌ أقوى إرادةً أوهى.
ولقِيَت هيلينا يوسف في دربها، ومن حينئذٍ وهي تسافر معه في مساره، وجعلها علمها بهذا في سلامٍ مع نفسها.

"آهِ ممن إن يشأ أسعد!" قالت في نفسها، وجعلت تكررها مرارًا.

لقد كان لها إيمانٌ غيرُ محدود، وليس حسبُ بذات يوسف، وإنما بقوّته أيضًا.
فكذا أنار الظل من روحها، وزال الفرَق من نفسها، وتلاشى ذلك الرعب غيرُ مسمَّى الأجل، الذي لم تستطع أن تصرفه عنها حتى إعلان يوسف، ذلك الرعب الذي عذَّبها كوخز الضمير.

كان رأسها ملآنَ بالخيالات، وبأغنيةٍ تداعب شفتَيها كانت تتهيأ للزواج، وتسلّي نفسها تسليةَ الطفل بتفاصيل الملبس.
وعلى ما قضت من عمرها أرملةً ودَّت أن تلبس فستانًا أبيضَ تُبهج به يوسف.

وبعودة الفرح إليها رجعت إليها عافيتها، فكانت نشيطةً لا تهمد، مشغولةً لا تفرغ، وتستذكر في بالها شغل المنزل وما فيه.
وزاد جمالها ونبل منظرها بتأثيرٍ من السعادة فيها، فمن امرأةٍ كارهةٍ للناس مبغضةٍ لهم، ومن طائرٍ منتوف الريش، انقلبت امرأةً تعلم قيمتها؛ أن أحدًا أحبَّها.

وكان ميعاد العُرس يدنو، ويدنو معه الوقت الذي يصير فيه يوسف طبيبًا، فكدح كدحًا تقهقرت منه عافيته، ومرَّت به ليالٍ لم يهجع فيها، وجعل جهد العقل في وجهه سيما الشحوب، فنحل وازرقَّ ما تحت عينَيه، وعاش في عملٍ متعاقبٍ محموم.
والحق أنه كانت تخور قواه، ولكنه ظل منتصبًا على قدميه جهدَ استطاعته، ساعيًا إلى كسب المكانة والمستقبل المستقل.

ومع رغبته ودنوِّ أجل تزويجه حضَّه شيءٌ آخر على هذا الجهد: أن صبابة ماله التي جاء بها من بيته كانت تنقص، حتى لقد أُنهِكَت الآن.
وسقط عنه عبء النفقة وشغل المنزل إلى أوجستينوفيتش، وكان هذا قد عاف الخمر وجمع مالًا لم يجمعه يوسف.

سدىDonde viven las historias. Descúbrelo ahora