_1_

63 5 3
                                    

العوالم النفسية عوالمٌ خطيرةٌ جداً، اخطرُ مما يتصوره العقل.
ومن يقتحمها ويعيشُ  مغامراتها بأعمق التفاصيل  يعتبر هذا الأمر بحد ذاته مخاطرة كبيرة.
                                                                  مجهول
                                           دمشق، نوفمبر 2008
رغم انها بلغت الثانية و الثلاثين من العمر إلا انها معتادةٌ في كل صباح على ان تكتب في دفتر مذكراتها، ذلك الدفتر الصغير الذي لا يفارق حقيبتها السوداء الكبيرة.
تجلس ليلى على السرير تدونُ بعض العبارات في دفترها وتسجل الأحداث الهامة التي تعيشها.
تعود إلى الصفحة الأولى مقدمةٌ تعريفية عن المرأة الفولاذية العظيمة.
تبدأ بقراءتها:
ليلى الموازيني، محاميةٌ ناجحةٌ مهنياً،متزوجة ولديِّ صبي يدعى مجد،اثنان وثلاثون عاماً ابلغ من العمر.
لدي نظرية تقول أن الإنسان حين يصبح في الثلاثينات من العمر تتغير نظرته للكثير من الأمور، يصبح اكثر نضجاً ويصاب بجفاف عاطفي تماما كما يصيبني الآن، يفقد الشغف والاهتمام في الكثير من النواحي، أما أنا فقدت الاهتمام من كل شيء حولي.
تتنهد، تغلق دفترها وتقف أمام المرآة.
ليلى، كأي امرأةٍ من جيلها كان عندها احلامٌ وردية، ومنها أن تكون مغنية، عازفة كمان، راقصة تانغو أو راقصة شرقية.
ضحكت بسخرية حين وصلت إلى هذا الحد من التفكير ارتدت معطفاً أسود ثم انطلقت نحو سيارتها. جلست وجلس بجانبها مجد ، ثم رمقته بنظرة حانية وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة رائقة.
شقت السيارة طريقها وسط المدينة،الجو ضبابي بامتياز.
و في كل صباح تراود ليلى اسئلة لا تجد لها جواب،
لماذا نتزوج، لماذا ننجب اطفال وعلينا تأسيس عائلة، ماهو السبب ولأجل ماذا.. سنة الكون؟!
كلام ليس بقابل للاقتناع التام...
(( ضمان اجتماعي ))
هكذا يفكر الكثير من الناس بأولادهم، وهذه النقطة المحورية التي يدور حولها سؤال
_لماذا ننجب أطفال.
وتأتينا الأجوبة المختلفة التي لا تخلو من الأنانية،
لأننا نحبهم كثيراً.
لأن حياتنا ليس لها طعم من دونهم
لأنهم سند لنا عند الكِبر.
لأن هذه سنة الكون.
وهذا الجواب الذي لا نستطيع فهمه، يدخلنا في متاهات لا نستطيع الخروج منها بسهولة.
وقفت ليلى وهي تقبض على كف طفلها مجد على الرصيف، ثم انحنت وهي تنظرُ له والبسمة تزين محياها
_ماما، أنا أحبك كثيراً
_وأنا أيضاً
احتضنته بشدة ثم همست
_انتبه على نفسك.
ثم تعود إلى صراع مع أفكارها لا ينتهي.
وطبعاً، منذ الصغر يجب أن يتعرف الأطفال على أفلام
الخطف،
والقتل
والضرب والتعنيف
ونمطرهم بتنبيهات
لا تمشي وحدك في الشارع تتعرض للخطر، لا تكثر من الحلوى تصاب بالسمنة وإلخ...
وهكذا حتى يصل الولد إلى الثامنة عشر من عمره تكون العقد النفسية لديه مكتملةٌ تماماً، يا ترى من السبب؟! لا أحد سوى شجرة المعرفة.
                                 ***
صباحٌ جديد:
صباح ومسا، شي ما بينتسى 💔 تركت الحب وأخذت الأسى.
يصدح صوت فيروز بأجمل أغانيها المحببة ل رشا في ارجاء المطعم، تقف خلف المنضدة تقطع الجزر والخيار لصنع سلطةِ خُضارٍ لذيذة من أجل عشاء الليلة.
فمن جمال الحظ الذي يحالفها كل عشر سنوات مرة واحدة، اته تم اختيار مطعمها ليقام فيه حفل توقيع كتاب ( رماد) مؤلفه فارس الشامي، من اشهر الكتّاب في الوسط الأدبي.
لذلك انشغلت منذ الصباح في ترتيب المطعم، وتنظيفه وتغير ديكور الطاولات لصُنعِ اختلافٍ مميز.
_رشا اسبر، كيف حالك.
رفعت رأسها لتلتقي عيناها بنظارة ليلى المستديرة. غريبة هي هذه المرأة في شخصيتها اختلاطٌ لشخصياتٍ متعددة مما جعلها جذابة لكل من يعرفها، ابتسمت وهذا بالتأكيد ما جذب غسان لها و جعله يتزوجها خلال شهر فقط من تعارفهم الأول الذي شهده هذا المطعم قبل سنوات.
بسبب غرقها في المحاماة لمدة تتجاوز العشر ساعات في اليوم الواحد ترى أن الناس جميعهم كمتهمين خلف القضبان في المحكمة
_اهلا ليلى.
_في الحقيقة، لم يكن لدي رغبة في القدوم، التكرارية أمر سخيفٌ تماماً، ( رماد)كتاب مستنسخ عن رواية ذات آخرى لكاتب ايطالي، إلا أن الكاتب المتحذلق هذا يريد كسب جمهور بأي طريقة.
_هل انتهيت. السيد فارس لبق ومحترم جداً، انا أراه( جنتل مان)
_اذا، اخطبيه
_جننتي حتماً، وابنتي الكبرى اصبحت تماثلني في الطول، نسيتي اني مطّلقة.
_كنت أمازحك،أنتِ في كل مرة يحادثك أحد في هذا الأمر تسردين شريط حياتك على مدى اكثر من عشرين عاماً، آسفة على كل الأحوال.
_لا بأس، اين جوري؟ ليس من المفترض ان تأتي معك.
ضحكت ليلى إلى حد الهلوسة.
_الهانم في علاقة حب جديدة.
_تمزحين، حقاً ما تقولين؟
_نعم، مع مهندس معماري.
_غريبٌ أمرها، الم تشعر بالملل من كثرة الارتباطات والانفصالات المتكررة.
_تظن انها بطلة مسلسل مكسيكي.
ضحكتا سوياً
_هل تحتاجين مساعدة؟
_أمسحي الأرضية.
_أمرك معلمتي.
تبادلتا ابتسامة تفاؤل ثم انغمست كل منهما في عملها.
مر الوقت سريعا... وحل المساء
بدأ المدعوون بالقدوم واحداً خلف الآخر ، تقف كل من رشا وليلى قرب البوفيه المفتوح، بينما تجلس كل من حنين وجوري على طاولة من الجهة اليمنى من المطعم. تتحدثان عن كل شيء وعن لا شيء
_كيف حال حبُكِ الجديد
باندفاع وشغف كبير أجابت جوري
_رائع، عظيمٌ وساحر، أشعر أنّي أطير من السعادة.
_أرجو أن تكتمل معك على خير هذه المرة.
_لو تعلمين كم أحبك يا حنين، تفهميني كثيراً لست مثل ريا وسكينة. قالت جوري وهي ترمي كلٌ منهما بنظرةِ احتقارٍ باردة.
نظرت نحو ليلى و رشا ثم اطلقت ضحكةً قصيرة.
_تشاجرتِ معهن؟
_حين أخبرتها بالموضوع سخرت مني.
_هوني عليك، سأقوم بجولة بين المدعووين ثم أعود إليك.
_حسناً.
اتجهت حنين نحو التؤام الشرير عند البوفيه،
_مرحبا
_أهلا حنين، كيف حالك.
_بخير، وانتما؟
_كيف حال العاشقة الولهانة.
_تعيش اندفاع المراهقات بالتأكيد.
_الا تلاحظين أن صراحتك وقحة بعض الشيء
_ليلى محقة فيما تقول، في كل مرة تخوض في علاقة ينتهي بها الأمر بالخذلان، تمام كرواية كاتبنا العظيم فارس( غرام وانتقام)
_فارس، فارس، من هذا؟ اشعر انه يملأ رأسي من جميع الاتجاهات.
_اسكتنْ لقد وصل
دخل فارس الشامي، كان يرتدي بدلة رسمية سوداء بربطة عنق سوداء أيضاً
_عمتم مساءاً جميع الحضور، اشكر تواجدكم اليوم قربي في توقيع روايتي الجديدة.
_ إنه فارس الحمصي، هذا مستحيل!
تمتمتْ بصوتٍ مخنوق.
التبس عليها الأمر بدايةً، كيف أخطأته حين تحدثت عنه رشا في المرة الأولى.
شردت في صدمة، كيف هذا!!
لم تفكر بالكنية،لقد غيّرها إذن.كيف هذا!؟
ثم..
بعد  أكثر من عشر سنوات تلتقي بحبها الأول في نفس تاريخ اليوم  الذي افترقا فيه، ذلك اليوم الاسود الذي لا تنساه أبداً.
و في نفس المكان الذي جمعها بغسان..
استغرق في القاء كلمة الافتتاح ما يقارب العشرين دقيقة تحدث بها عن روايته، وبعض إنجازاته الأدبية السابقة.
_ألا تلاحظين أنه كثيرُ الكلام.
_مستحيل.. شهقت رشا وقد استعادت اطراف القصة القديمة المبتورة.
_معقول؟؟ قالت حنين.
_عهدتهُ طالب دراسات عليا في كليّة الحقوق، لا أدري متى تحول إلى كاتب.
_ما بالك ليلى، الرجل لم يفعل لك شيئاً.
_أكره هؤلاء المتحذلقين
_ومن هم؟
_لا شأن لك، على كل الأحوال يجب أن اغادر. كان في صوتها رجفةٌ متألمة واضحة للغاية..
نظرت رشا نحو الساعة.
_لكن العشاء لا يزال في بدايته
_لا.. اشكرك، ليس لدي رغبة في البقاء.
نهضت ليلى ارتدت معطفها وسحبت حقيبتها، حين استدارت لتمضي في طريقها اصطدمت به وكادت أن تقع أرضا فتمكن من أمساكها.
_أنتِ بخير ليلى، كيف حالك..
_نعم، ااشكرك.
المشهد الغريب ذاته يتكرر للمرة الثانية..
في اللحظة التي التقت فيها عيناها بعينيه ازداد نبضها فجأة، هل التبست مشاعرها لوهلة؟ لقد شعرت بدفئ غريب اتجاهه..
هل يعقل أن تكون مشاعرها القديمة قد عادت...
حين لمست كفه كفها.
استعادت تركيزها، لا شيء سيكون بينهما هما مجرد معرفة قديمة ليس إلا ولكن! لا أحد يعلم ما يخفيه القدر....

دوائر النارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن