_15_

12 3 0
                                    

دفعت رشا الباب بِرفق و خطت نحو الداخل،صوت حفيفِ أوراق الشجر التي في الحديقة يبثُ الهلع في قلبها.
عبرت الممرِ الذي يغمرهُ الظلام الحالك ثم توقفت أمام الغرفة الكبيرة، بدايةً لم تستطع أن ترى بوضوح فالضباب كان يَلفُ المكان.. بعد برهة وجدت طبقاً مملوءاً بالعدس. اقتربت نحوه لا إرادياً ثم بدأت تُصفيه من الأوساخ.
_سبحانك يا الله، كل نبتةٍ قذرة تحنُ إلى أصلها عندما تشتدُ الكُرَب.
انتفضت من مكانها حين سمعت ذلك الصوت ورائها، فاضت الدموع من عينيها وهي تطالعُ المرأة التي تقف قبالتها مُباشرةً.
_أُمي..
_لسوء الحظ، لا أدري لماذا كتب لنا القدر أن نجتمع هذه الليلة.. هنا في هذا البيت الذي دنستهِ بقذارتك..
قالت بصوت متحشرج من شدةِ البكاء:
_لكن.. أنتِ تعلمينَ أنَ ما حصل قبل عشرين سنة كان خارجاً عن إرادتي.
صرخت وعَبراتُ الغضب تخنقها:
_اصمتي.
_لا لن أصمت، أنا لم أعش حياةً طبيعيةً مثل الفتيات العاديات، جئتُ إلى هذه الدنيا وأنا لا أعرفُ أبي.. وأمي تخلت عني وأنا شابة يافعة في الخامسة عشر بسبب جريمة بَشِعة كنتُ أنا ضحيتها..
و صديقاتي اللواتي أراهن بمثابةِ شقيقاتي.
كلٌ منهن استمرت حياتها بهدوء، وكأن شيئاً لم يحدث..
فجأة..
نظرتُ حولي، وجدتُ نفسي أغرقُ في الوحدة.
صِرتُ أشبهَ بِ تعليقةِ ثياب ليس لها حاجة..
_اصمتي، هذا الكلام لا يَشغَلُني..
_إذاً، ما الذي جاء بك؟!
_شيءٌ واحد فقط، سبب الورطةُ التي انتِ فيها الآن.... ابنُ حليمة السماوي.
_عماد! طليقي؟؟
_ما يثبتُ ذلك:دمٌ على الذهب، وشعرةٌ سوداء في جَوفِ الموت..
_ما الذي تقصدينه..
_هذا، دليل برائتك!
ثم اختفت.. رفعت رشا تلابيبَ ثوبها وهرولت في الرِواق وهي تصيح..
_ أمي...سُميّة، أين أنتِ؟؟
وجدتها تجلسُ القرفصاء في الفناءِ الخلفي تَعبثُ بالأوراق المتساقطة.
قالت بصوت مخنوق:
_سمية، انا اشتقتُ لك كثيراً.لا تذهبي وتترُكيني وحدي...
نظرت نحوها للمرةِ الأخيرة، ثم قالت لها:
_اذا اشتقتِ لي، تَذكري أني موجوعةٌ بسببك.
هبت عاصفةٌ مُرعبة صَنعت دوامة من أوراق الخريف الذابلة، اختفت سمية ولم يعد لها أثر!
_سمية....
صوت صرخات الوجع التي اطلقتها تصدح في أرجاء المكان.. ثم لا شيء بعد ذلك..
***
نهضت رشا مفزوعة وقد شعرت بالوهن، لقد كان كابوساً مرعباً بحق.
تلفتت حولها، لا تزال في الزنزانة العفِنة.انتبهت من أفكارها على صوت الشرطي:
_رشا اسبر، المحقق أسامة يريدك.
هبت واقفة، عدلت هندامها ثم سارت برفقته إلى مكتب التحقيق. بعد لحظات وقفت ماثلة بين يدي ضابط التحقيق الشاب، وعلى الجهة الأخرى صديقات دربها تطغى على ملامحهن السعادة.
_أيها الشرطي، احضر الرجل الذي تم القبض عليه عند المطعم مساء البارحة.
فُتِح الباب ودفع أحدهم رَجُلاً في منتصف الأربعينات فسقط على وجهه. رفعت رأسها ودققت في ملامحه.. شلتها الصدمة وأخرست لسانها!
_عماد!
_هذا طليقك، صحيح؟
هزت رأسها بالأيجاب.
_نحن نراقب مطعمكِ منذ يومين، هذا الرجل كان يحومُ حوله بطريقة تثيرُ الشبهات، لاحقته..
قمت بمطابقة الشعرة التي وجدناها في أحد الأكياس التي كانت في مطعمكِ مع شعرةٍ منه سحبها منه أحد رجالنا بشكل خاطف دون أن يشعر به.
هو ورائها، دس لكِ الممنوعات. لكي يورطك.
صرخَ عماد وقد احتقنَ وجههُ:
_ رجل مُتذاكي، ما هذه السخافة
أكمل أسامة دون أن يكترث لما قاله:
_قلادة الذهب التي اخذتها منك.. على جانبها الخلفي بقعة دم صغيرة سنقوم بأجراء مطابقة لعينة دم من عماد مع العينة الموجودة لدينا، في غضون ساعات قليلة سيثبتُ كل شيء.
تنهدت ليلى بهدوء، كل شيء سيمضي على ما يُرام.تعب الأيام الماضية لم يذهب أدراجَ الرياح.
مضى الوقتُ ببطء شديد، التوتر ينهش الجميع من أعماقهم.
رن الهاتف الداخلي، رفع أسامة السماعة:
_نعم، أنا اسمعك
_سيدي، وصلت النتيجة.
_أحضرها فوراً
دقائق معدودة، وكان الظرف بين يديه دقق النظر في كل حرف مكتوب تحتضنه الورقة. ثم عرضها أمام الجميع.
_النتيجة إيجابية. هذا الرجل وراء تلك اللعبة الدنيئة.
خذوه!
بعد أن اقتاده رجال الشرطة، وقف أسامة أمام رشا والبنات وهو يقول:
_لو ثبتت عليكِ التُهمة.كنتِ ستنالين حكماً قاسياً بالسجن لمدة لا تقل عن خمسة عشر عاماً
لكنني وجدتُ فيكِ خصال طيبة، يستحيل أن تُدنث بشيء قبيح كهذا.لهذا سعيتُ إلى برائتك، وقد تم الأمرُ الحمد لله بأقصى سرعة.
توردت وجنتاها خجلاً وهي تهمس:
_شُكراً لك سيدي، هذا من حُسن خلقك.
***
خرجت برفقة الفتيات على أصوات زغاريد الفرح وضحكات تشويها السعادة.
صاحت جوري في مرحٍ طفولي:
_حمداً لله، ظهرَ الحقُ وزهق الباطل.
على بعد امتار، فُتِحَ باب سيارة سوداء. ترجل منها رجلٌ في بداية الأربعينات من العمر.
_حمداً لله على السلامة.
غطتْ الصدمةُ وجوههن، سُرعان ما تحولت النظرات إلى ليلى.
_شكراً استاذ فارس. ردت رشا بلهجةٍ مؤدبة.
تمتمت ليلى :
_سأسبقكنْ.
قبض على يدها وهو يقول:
_دعينا نتحدث..
_لا يوجد ما نتحدث به.
رمقتهُ بنظرات احتقار باردة، وفي داخلها تتراكم أوجاع الماضي مثلَ ثِقلِ الصخور.
تدخلت حنين:
_أستاذ فارس، ما رأيك في أن ندعوكَ إلى كوبٍ من القهوة في مطعم رشا.
أومئت الفتيات بالإيجاب، أما ليلى كنت في حالة اضطراب حادة.

دوائر النارWhere stories live. Discover now