_8_

23 3 11
                                    

قادت ليلى سيارتها في الصباح الباكر تشقُ طريقها وسط العاصمة الدمشقية.
من أسباب الراحة النفسية التي قرأت عنها في وقت ما أن الخروج في الصباح الباكر مريح للأعصاب، وهي في حاجة إلى ذلك.
عند جسر فيكتوريا لاحظت ازدحاماً خانقاً لم تعرف سببه، اقتربت بسيارتها نحو الجلبة وأسندت رأسها على النافذة في شرود واضح.
شاب ومخطوبته يفتعلان مشكلة كبيرة
_لو سمحتِ توقفي عن الصراخ
_لا، لن اتوقف تريد أن تظهر بقناع البراءة ايها الخائن
_صبا، لا تفقدي عقلك
_أنت خائن، خائن، خائن.
كررتْ العبارةَ في سخطٍ طفولي.
لطمها بكفه اليمنى
_اصمتي.
جاهدت ليلى في كتم قهقهة ساخرة تسببت لها في اختناقٍ عابر
هل هذا مشهد تمثيلي ساخر؟ أم لعبُ مراهقين مجانين.
فمن يرى هذا المشهد من بعيد، يظن أن أحدهم يقوم بإخراج مسلسل، يجمع فيه الممثلين الذي يقفون تحت شعار
(( فاشل، عاطل عن العمل))
_بسيطة، سأجعلك تدفعُ ثمن خيانتك غالياً.
_أفعلي ما يحلو لك.
ابتعدت صبا عن الرجل، حتى وصلت عند الجسر
_مجنونة، توقفي. صرخ ربيع في انفعال
_اخبرتك ستندم، ستندم. أطلقت صرخة مدوّية مختنقة بالدمع
ألقت بنفسها من الحافة، وتهاوى جسدها حتى لامس الأرض وتضرّج بالدماء
تعالت أصوات الصراخ من كل مكان، شهقت ليلى في صدمة ثم اطلقت ضحكة ساخرة
شابة تنتحر بسبب الخيانة، وحبيبها يبكي كطفل صغير بعد أن فُجِع بخسارته الكبيرة.
قامت بتشغيل سيارتها وتابعت طريقها نحو المطعم.
يومها بيدأ بحادثة انتحار والكثير من غباء مراهقين مجانين..
لقد أصبح الحب مبتذلاً في هذه الأيام، مقزز ومثير للإشمئزاز بسبب غباء البنات الزائد عن حده، ورجولة الشباب المزيفة الممزوجة بِطيشٍ صبيانيٍ سخيف.
ركلت باب المطعم، ثم مشت حتى المنتصف وهي تقول:
_لقد أصبح مجتمعنا يعاني من فشلٍ عاطفيٍ كبير
استدارت رشا في فزع، كانت تقف على السلم تنظف الرفوف، فسقطت نحو الأسفل.
_متى تنوينَ  تغييّرَ طبعكِ الوقِح هذا،أن أصبتُ بكسر في قدمي لن اسامحك. قالت رشا في غيظ
_هدوء عزيزتي ، لا تخافي مجرد تمزق أربطة عابر.
_آه منك آه.
ساعدتها على الوقوف ثم سحبت كل منهما كرسي وجلستا على الطاولة القريبة.
_خيراً انشالله، وما سبب الفشل العاطفي استاذة ارسطو؟
_صباح الخير
أطلت جوري من وراء الباب فشعرت ليلى برغبة في الضحك لكنها فضلت الصمت .
_إذن، الوقت مناسب جداً لنبدأ حديثنا الشيق.
_تفضلي، ما عنوان حديثك اليوم. قالت جوري
نهضت رشا وهي تعرج على قدمها ثم اتجهت نحو الغاز لتحضير القهوة، وبدأت ليلى في الثرثرة
_من أسباب الفشل في العلاقات العاطفية في هذه الأيام، أولاً الخيانة، فملح الرجال الكذاب والخداع ثم تدريجياً يتحول الأمر إلى خيانة، غباء النساء اللامتناهي ،تلك التي تمنح مفاتيح قلبها لأول رجل يدخل حياتها وتعطيه الثقة الكاملة لتجد نفسها ضحية مثيرة للأسى ، ثانيا عدم الاهتمام يا عزيزتي نحن النساء في حاجة الاهتمام والرعاية الدائمة كطفل صغير،ثالثاً الرومانسية المفرطة كفيلة لإفساد أي علاقة ناجحة.
زفرت رشا في إعياء، يبدو أنها لن تتعب من الثرثرة وتنتهي منها قبل أربع ساعات على الأقل استمرت تشرح وتعدد، مرت ساعة..
وضعت رشا فناجين القهوة وهي تصيح
_القهوة يا سيدة إفلاطون
_قبل أن أنسى، جوري هل استفدتِ من معرف أسباب الفشل العاطفي لعلك تتعلمين الدرس ولا تتسرعي في ارتكاب الحماقات.
أمسكت جوري بالفنجان و أفرغتْ القهوة الساخنة  على ساقِ ليلى التي صاحت من الألم.
_سخريتك المتواصلة لن تتوقف إلا بهذه الطريقة.
تبادلت ثلاثتهن نظراتٍ مطوّلة ثم استغرقن في ضحك متواصل.
قالت رشا في جدية:
_حنين لم تتواصل معي منذ فترة، هل انقطعت عنكن أيضاً.
_كالعادة مشاكلها لا تنتهي مع عائلة خالد، آه منها لطالما نصحتها بأن تجبره على أن تسكن في بيت مستقل. قالت ليلى في استياء
تنهدن معاً في الوقت ذاته ثم اردفت جوري:
_كل منا لديها همومها، أعاننا الله على كل صعب.
                               ***
كانت حنين تشعر بالاختناقِ في بيتها.
تذكرُ جيداً حين خطبها خالد كان قد وعدها بمنزل مستقل خلال وقت قريب.
لكنها تقطن منذ بداية زواجها في بيت العائلة، كانت لديها غرفة بحمام خاص بُنيت كملحق للمنزل الأصلي ولم تكن تقدر على مغادرة هذه الغرفة ليس لأنها محبوسة أو ممنوعة من الخروج، ولكن لأن الخروج له ثمن!
كلما دخلت المطبخ ولو بالخطأ، وجدت الجميع ينسحبون على الفور، وحماتها تقول:
_الغداء  من يدي حنين، عسى أن يكون طبخها اليوم أفضل من قبل.
لم تكن تجيد الطبخ سوى بعض الأكلات الخفيفة والكل يعلم هذا، لكنها تتعمد إحراجها أمام البقية.
وإذا كانوا جلوساً في غرفة المعيشة، تقول:
_هيا، الحمام يحتاج إلى تنظيف وغرفة الضيوف تحتاج إلى الترتيب وظهري يؤلمني.
وشقيقته هالة، تنظر إليها بتعالٍ طوال الوقت وتحتد معها في الكلام، تصرخ في وجهها بسبب وبدون سبب.
كان مشاجراتهما لا تنتهي ابداً و على أسخف الأشياء هالة تفتعل المشاكل، ويقع اللوم على حنين.
دائماً في كل مرة..
كلما فتحت فاها لتنطُق شيئاً، أنقلب إلى نكتة! تجد بسهولة الخطأ في كل ما تقوله وتجعلها تبدو ساذجة:
_ابنة عائلة الصفدي المدللة لا تفقه شيئاً عن الحياة.
حين تغلق على نفسها الباب وتلبث في الغرفة وحيدة تحبس ألمها في داخلها، يصلها حديثهم بصوت عالٍ:
_هل هي مريضة، عسى ألا يكون أصابها مكروه!
_ربما مكتئبة. تقول هالة وهي تضحك ساخرة
لعنتها في سرها، .. هاتان الاثنتان تجعلان البقاء في ذلك البيت عقاباً لا يمكن احتماله.
لم يكن الوضع بذلك السوء في السنوات الثلاث الأولى.
لم تحمل ابداً، لقد اكتشفت بعد مدة من الزمن حين زارت الطبيبة وأجرتْ العديد من الفحوصات والتحاليل أن قدرتها على الإنجاب ضعيفة.
تقبل خالد ذلك برحابة صدر وبثبات واضح، لا يستطيع التخلي عنها فقد كان يحبها كثيراً، وهي كذلك.. كانت تتحمل الألم وتصبر على المشاكل بسبب حبها الكبير له.
لكن هذا الأمر زاد العداء بينها وبين حماتها وهالة، أصبح تعاملهما معها اكثر سوءاً من قبل.
_لقد جاءت العاقر، مسكينة ستنتهين وحيدة في كبرك.
تقول هالة في شماتة واضحة
_لندع لها يا ابنتي، لعل هذه المنحوسة ترزق بطفل في وقت ما.
تضحكان في سخرية واستهزاء،لقد أصبحت تسمع الأهانة وتسكت وتدهس على كرامتها.
ولكن..بعد الشجار الأخير، قررت أن تجد حلاً.
لم يعد هذا الوضع محتملاً ابداً.
                                    ***
بعد يومين..
جاءت في الصباح الباكر إلى مطعم رشا، عليها أن تتناقش مع البنات لايجاد حل مناسب
حدجتها رشا بنظرة قلقة:
_أنتِ لست على ما يرام، هل هي المشاكل نفسها مرة أخرى.
تنهدت في حرقة
_لقد تعبت يا بنات واحتاج نصيحة منكن، ماذا أفعل؟ أني اختنق في اليوم ألف مرة.
_بماذا تفكرين؟
_لن أمضي وقتا اكثر هناك
_إذن.. هل تتركين بيتك؟
_لم أقصد هذا. ببساطة ما دام خالد في العمل، أرغب أن أكون هنا واستقل في الركن الداخلي وأقوم بإعطاء دروس خصوصية في الرياضيات إذا..كنت لا تمانعين. قالت حنين وهي تتوسل.
ابتسمت رشا في صمت، و رمقتها في تعاطف.
من واجبها مساعدة صديقتها المقربة مهما كلف الثمن.
_لا مانع لدي.
صاحت في فرح حقيقي، كطفلة في الخامسة
_شكرااً.
ابتسمت رشا في جذل
_على الرحب والسعة.
بعد برهة من الزمن..
_اطلبي الطلاق. قالت جوري وهي تعض على شفتيها في امتعاض.
_اطلبي الطلاق ها، الآن علمت لماذا لا تستمرين في أي ارتباط  أكثر من ثلاثة أشهر، لأنكِ تعتقدين أنكِ سيدة في مجتمع غربي تتمتعين بحقوق المرأة الطبيعية. قالت ليلى في استهزاء ثم اردفت:
_نحن في مجتمع شرقي بحت، العاداتُ والتقاليد التي في بعض العائلات هذه أمور ليست قابلة للتغيير أبداً.
تابعت رشا:
_معها حق، لا تظني أن المطّلقة في مجتمعنا امرأة عظيمة وبغاية السعادة بل هي مجرد فريسة سهلة لكل عابر سبيل ينهش بلحمها ثم يرميها.
حاولي اقناعه بكل الطرق، بالتودد واللطف ، أو التحدث باستمرار عن ضرورة استقلالكما عن أهله، مما يوفر الراحة لكما ولهم من المشاكل.
_لا تعتقدي أيضاً أن العيش دون رجل أمر جيد، الكثير من العازبات في منتصف العمر يتعرضنْ للاسغلال والخداع.
_واياكِ أن تنصتي لنصيحة أحداهن. قالت ليلى وهي تحدج جوري بنظرة باردة
_توقفا عن الشجار، جئت لارتاح لا ينقصني همٌ جديد.
_آسفة
تبادلن نظرات غريبة، ثم ضحكنْ في وسط الألم والمرارة.
فردت حنين ذراعها، فامتزجن في عناق جماعي دافئ.
                              ***
تفرقت البنات عند الغروب واتفقن على لقاء قريب.
ركبت حنين الحافلة عائدة إلى البيت ، بحثت عن مقعد شاغر وجلست قرب النافذة. سرحت نظراتها عبر الزجاج وهي تستحضر ذكريات قد مضى عليه سنوات عدة.
لطالما كانت صديقاتها سنداً لها في الأوقات الصعبة، يتشاركن الفرح والحزن. معاً في المُرّ قبل الحلو.
بعض الأصدقاء ليسوا مجرد أصدقاء فقط.
بل إخوة اختلفت نهايات اسمائهم.
تبتسم، وخالد أيضاً.
تجمعها معه ذكريات لا تنسى..
تعود في أفكارها إلى سنين خلت، حيث كانت شرارة الحب بينهما مشتعلة في أوجها..
                                ***
دمشق ،سبتمبر 2002.
مع تساقط أوراق الخريف، وهبوب رياحه الناعمة والمنعشة للفؤاد.
قُرعت أجراس بداية العام الدراسي الجديد.
اليوم هو بداية سنة دراسية جديدة لطلبة كلية الهندسة،
و التي تعتبر السنة الأخيرة لطلاب الماجستير.
تشهد دمشق هذا الصباح ازدحاماً خانقاً لا يطاق، وقفت حنين وهي تقبض على العامود المعدني في وسط الحافلة بكف مرتجفة بسبب التوتر الشديد.
فجأة تأرجحت الحافلة بشدة مع فرملة السائق. كادت تفقد توازنها، لم تستطع أنها تتشبث في الوقت المناسب فاصطدمت بالراكب الذي يقف محاذاتها، لامست يدها كف ما.
رفعت رأسها لتلمح شاباً في مقتبل العمر ذا ملامح رقيقة تأسر القلب،شعره الأسود يلمع تحت الضوء وعيناه سوداون صافيتان كالليل تماماً.
_أنتِ على ما يرام.
هزت رأسها في صمت، رفعت رأسها مجدداً لتلتقي نظراتهما لثوانٍ معدودة. أطرقت بعدها في حياء
_أنا بخير.
_انتبهي في المرة الثانية، نهاراً سعيد.
_وأنت أيضاً
ساد الصمت بعدها، انتهت المحادثة عند ذلك الحد.
استمرت حادثة الحافلة الصباحية تداعب خيالها بشكل متفرق وهي تمشي في الممر الكبير المؤدي إلى القاعة الثانية.
كان في طبعها شيء من بطء رد الفعل، وغالباً ما تنقضي الفرصة بينما هي تفكر في الرد المناسب. ربما هو الخجل يعقد لسانها، أو أهتزاز في ثقتها بنفسها، حاولت أن تطرد عنها تلك الوساوس المزعجة وهي تجتاز باب القاعة.
جلست في الصف الثالث من المدرج أخرجت دفاترها وكتبها من الحقيبة ثم أخذت تتصفح كتاب التصميم في تململ واضح إلى أن وصل الدكتور حمزة العطار.
لسوء الحظ..
كان هذا الدكتور يعطي معظم المواد لطلاب الماجستير وهي وقعت في كرهه منذ اللحظة الأولى.
بدأ في مقدمته السخيفة كالعادة يتحدث عن أهمية النشاط والجد والاجتهاد لكي ينال الطلاب الماجستير عن جدارة.
سكت قليلاً ثم استأنف
_مادة التخطيط والإنشاء لن أعطيها لكم هذه السنة، سيحل مكاني معيدٌ شاب انضم إلينا حديثاً.
_تفضل أستاذ خالد.
تقدم خالد البرقاوي شاب في الثلاثين من العمر، ووقف أمام الطلبة.
لوهلة، ظنت أنها تهلوس..
لم يتوقف ذهنها عن التفكير في حادثة الصباح ابداً
فرؤيتها له بعد ساعات فقط، كانت صدمة كبيرة.
راقبته في اهتمام واضح وهو يتنقل بين ارجاء القاعة في رشاقة بالغة يشرح أدق التفاصيل وأصغرها.
حين انتهى الدوام في الظهيرة تجمع الطلبة حوله في البهو، يتعرفون عليه عن قرب أكثر، ويسألونه عن بعض الأمور الهامة.
خلال الأيام التالية، بدأت علاقتهما تطور بالتدريج
ظهر أمامها بعد أسبوع من اللقاء الأول
_يسرني ان اراك هنا، يبدو أنكِ من المميزين في دفعتك.
ابتسمت وقد تضرجت وجنتيها بحمرة خجل.
_شكراً للمجاملة دكتور خالد
أنا حنين الصفدي
_ أهلاً بك، وبالمناسبة يا حنين هذه ليست مجاملة بل حقيقة.
حثت الخطى مبتعدة عنه بسبب ارتباكها وشدة خجلها.
حين رفع خالد عينيه، رآها تبتعد وتختفي وسط الزحام لم تلتفت أبداً، أعجبه ذلك. سرح بنظراته بعيداً نحو السماء، وبشكل غير إرادي أخذ يسترجع مناقشاتهما حول مواضيع الدراسة وقد كان مندهشاً من نفسه.
لم يكن من عادته التبسط في الحديث مع الفتيات، بل أن محاولات ريتا وجلنار والكثير من بنات دفعته لاسترعاء انتباهه حين كان طالباً جامعياً كانت تثير غضبه واحتقاره.
لكن حنين، كان فتاة مميزة ، في مشيتها وحديثها وشجاعتها في طرح الآراء والمناقشات.
لم تكن كبنات جيلها ابداً، خجلها عند الكلام معه، وعدم الاحتكاك الزائد بشباب الجامعة.
يدرك في سره أنه معجب بها منذ أول لحظة جمعتهما في تلك الحافلة، قرر أنه سيترك الأمور تمضي لوحدها.
                            ***
مرت السنة بسرعة خاطفة، تكررت لقاءاتهما خلال الأشهر والإعجاب في أعماق كل منهما قد تخطى حدوده ويمكن القول أن الحب قرع باب كل منهما ولكنهما يرفضان الاعتراف.
وقفت حنين على المنصة. ارتجفت اوصالها وهي تجيل بصرها بين الوجوه المألوفة التي اخذت تحدق بها. أخذت نفساً عميقاً وأغمضت عينيها لبرهة وهي تتظاهر بالتقليب بين أوراقها، تتمالك نفسها قبل اللحظة الحاسمة.
قريباً ينتهي كل شيء.
قريباً ستصبح سنوات الدراسة المضنية وراء ظهرها.
قريباً ستكون شهادة الماجستير بين يديها.
قريباً جداً.
رسمت الابتسامة بحرفية وأحاطت لجنة التقييم بنظرة شاملة فيها الكثير من الثقة، حطت عينيها على وجه خالد الذي بادلها ابتسامة مشجعة فاستمدت شجاعتها وقوتها منه ثم سيطرت على توترها وتنحنحت ليجلو صوتها، رفعته في ثبات حتى يصل إلى المستمعين في آخر المدرجات.
_مساء الخير، وشكراً لحضوركم.
بعد ذلك، استرسلت في تقديم مضمون رسالتها عن فن العمارة الحديثة، وفي بضع ثوان كانت قد حلقت بعيداً عن القاعة وغاصت في أعماق عالمها الخاص، ترى الحاضرين ولا تراهم. تلمح خالد وهو يدعمها بابتسامة مشجعة بين الحين والآخر، تفاجأ بضحك لبعض الزملاء في الصفوف الأخيرة وتبعد تركيزها عنهم.
تحط عيناها على ليلى و رشا وجوري رفيقات الصبا، وصديقات الدرب فتغمرها الطمأنينة.
تذكر جيداً ذلك اليوم حين تعاهدن على البقاء سوياً مهما فرقتهن المسافات. ما يربطهن شيء اكثر من الصداقة بل هنْ عائلة واحدة رغم الاختلاف بينهن في الكثير من الأشياء مما يجعل علاقتهن مميزة جداً و مثيرة للحسد.
مر بذاكرتها شريط سريع للسنوات الأخيرة، بلحظاتها الحلوة والمرة، بأزماتها وإخفاقاتها وتحدياتها.. وأحلامها وإنجازاتها وانتصاراتها.
تنهدت. لقد انتهى الأمر
تعالى التصفيق في أرجاء القاعة في حين تجمعت عبرات الارتياح في عينيها، لقد انتهى التعب أخيراً.
_كنت رائعة.
_تهانينا.
وزعت الابتسامات في جذل وهي تتلقى عبارات التهنئة. تحس بخدر في حواسها وخمول في أطرافها بعد انتهاء جلسة الاستماع التي دامت ساعتين من الزمن، يليها نصف ساعة في انتظار قرار لجنة التحكيم، انتهى الأمر بحصولها على درجة الشرف.
_مبارك يا أعظم مهندسة في التاريخ.
صاحت ليلى وهي تهرول تجاهها تتبعانها جوري ورشا.
تقدمت أفواج المهنئين من زملاء وأساتذة وأصدقاء وافراد العائلة إلى قاعة الاحتفال وهي تتوسطهم مثل فراشة منطلقة لا يسع العالم سعادتها.
_من هنا أرجوكم
وقفت ليلى برفقة رشا على رأس المائدة تقدمان خدمة البوفيه بينما انهمكت جوري في تناول قطع الكعك المحشو بالشوكولا.
حفل مميز بكل تفاصيله  بدءاً من المأكولات التي نسقت على طاولة البوفيه بشكل جذاب يلفت الأنظار . كل الفضل يعود إلى رشا والجهود التي بذلتها في صنع المعجنات بكافة أنواعها.
لمساتها على المائدة كان لها سحر من نوع خاص.
لقد انزاحت العقبة التي كانت تثقل قلب حنين أخيراً.
                               ***
بعد مرور أسبوعين..
اجتمعت العائلة في منزل عبد الحكيم ذلك المساء، كان سعيداً بوجود أفراد أسرته بجواره، وفخوراً بابنته حنين بعد انجازها العظيم.
_هناك خاطب لحنين
قال والدها بعد أن تنحنح، نظرت نحوه في دهشة بالغة
_من عائلته، وماذا يعمل؟؟ سألت ثريا
_لا أعلم الكثير من التفاصيل، كل ما أعرفه أنه يعمل مُعيداً في الجامعة.
تأففت ثريا، انها تهتم بكل صغيرة وكبيرة تخص الخاطب الذي سيتقدم لابنتها الصغرى.
تناولت طعامها في صمت، ثم صعدت إلى غرفتها وانزوت بنفسها هناك حتى منتصف الليل.ثم أخرجت هاتفها وكونت بسرعة رقم لجين صديقتها المقربة في الجامعة. بعد رنةٍ واحدة جاءها صوتها ناعساً
_أنتِ بخير، ما بالك تتصلين في هذا الوقت؟؟
_أنا أحب خالد ولن يكون قلبي ملكاً لغيره.
_تتصلين الساعة الواحدة ليلاً لتخبريني أنك عثرتِ على الرجل الذي يستحق أن يكون شريك حياتك.
_لقد جائني خاطب ولن أوافق ابداً
_من هو، ما اسمه.. هل تعرفينه؟؟
_لا أعرفه ولا أريد
_أنتِ ذكية ها. كيف ترفضين رجلاً لا تعرفينه، امنحيه فرصة على الأقل.
_لا أعرف، لكني لست مرتاحة.
انهت الاتصال دون أي جدوى، أحاسيسها متضاربة منذ أشهر فكلما ترى خالد يزداد خجلها وارتباكها دون أي سبب.
في الصباح، كانت تمشي شاردة في الزقاق العتيق تفكر، ماذا لو كان خالد لا يبادلها نفس المشاعر، لو أنه يحب امرأة آخرى، ماذا لو كانت تبني أحلاماً وهمية لن تتحقق أبداً.
رن هاتفها، طالعت الرقم الظاهر على الشاشة في شك، من يكون..
_ألو
_هناك خبر سار لك، انتظري الساعة الخامسة.
_ألو، من المتحدث
انقطع الخط.
أنها مجرد مزحة سخيفة ومزعجة،من يمكن أن يكون ورائها..
حاولت أن تفكر في الأمر مراراً ولكن دون جدوى، فهي لا تستطيع اتهام أحد فلا يوجد دليل ملموس بين يديها سوى هذا الاتصال العابر.
عادت إلى البيت مساءاً.و حين دخلت سمعت صوت جلبة وضجيج من صالة الضيوف، الخاطب وعائلته..
ابتسمت في ألم، هكذا إذن وضِعت تحت الأمر الواقع.
صعدت إلى غرفتها وارتمت على السرير في إعياء. أغمضت عينيها واستسلمت لغفوة قصيرة، استيقظت بعد ثوانٍ على رنين الهاتف. الرقم ذاته
_ألو
_أحبك جداً
_من أنت؟؟
_حبيب الحافلة
امتقع وجهها، هذا الصوت مألوف جداً محبب لقلبها كثيراً
_خالد
ضحك في استمتاع
_هل أنتِ بخيلة مع ضيوفك، لا تريدين أن تقدمي لعريسك وعائلته القهوة.
شلتها الصدمة واخرستها، تلعثمت الحروف على لسانها
_لماذا هربتِ
_أنت.. العريس
_هيا انزلي لنراكِ.
أغلقت الهاتف في دهشة متزايدة، ارتدت فستان أسود مغطى بطبقة من الدانتيل، مشطت شعرها وتركته ينساب على اكتافها بحرية.
وهي تنزل الدرج، سمعته يطلبُ يدها فاصطبغ وجهها بحمرة خجل واضحة.
_جئت خاطباً لكريمتكم حنين يا عمي
_أهلا بك يا بني، لكن ابنتي..
_عمتم مساءً
التفت الجميع إلى الوراء في دهشة، وقفت حنين وابتسامة ساحرة تزين محياها
_هي أمامكم.
استدارت لتغادر بعد أن نال منها الإرتباك و..
_حنين، تتزوجيني.
تقابلت نظراتهما في مزيج من الحب، الإعجاب والخجل خليط مشاعر متضاربة.
_لعلها تحتاج وقتاً للتفكير. قال عبد الحكيم
_موافقة.
صدمت الجميع بموافقتها الفورية، بهذه السرعة..
لقد أحبته منذ اللحظة الأولى، لقد أسر قلبها بشدة و لم يغادر ذهنها لحظة واحدة وقد كانت تنتظر هذه اللحظة الساحرة منذ أشهر طويلة.
أخرج علبة مخملية من جيبه وادخل الخاتم في بنصرها، تعالت الزغاريد من كل الجوانب. لقد حصلت حنين على حبها العظيم.
لكنها لم تكن تعرف ما تخفيه لها السنين، حسبت أن السعادة سترافقها لسنوات طويلة، لم تكن تعلم أن حياتها ستنقلب بين ليلة وضحاها.
                                   

دوائر النارWhere stories live. Discover now