_4_

25 4 4
                                    

سرب ًمن الحمـْام على رصيف قديم
وأغنية القيصر:
(يدكِ التي حطت على كتفي..
كحمامةِ ذهبت لكي تشرب..)
يدكِ تساوي ألفَ أمنيةٍ..)
ليتها، تبقى ولا تذهب.. )
وغريبان جمعهما طريق عابر...
لم يكن يعلم أي منهما أنه سيكون قدرَ الآخر..
                                 *** 
دمشق،أبريل 1995.
في الممر الخارجي لكلية الحقوق كانت ليلى تقف وهي غارقة في الحديث مع جوري، تتحدثان عن الدراسة والحياة ومشاريع التخرج، أحاديث روتينية لا متناهية.
في ذلك الوقت من العام كان الجو في غاية الروعة، صافٍ بامتياز.
_أشعر بالملل، يكاد رأسي ينفجر من شدة ضغط الدراسة.
_أمرٌ عادي، بقي أمامنا عامان ونتخرج.
_انت لستِ إنسانة طبيعية،من أين لك برودة الأعصاب هذه!
_إن لم يكن الإنسان هكذا، هناك الكثير من الأشياء التي لن يتحملها في هذه الحياة الحُلوة يا صديقتي الحبيبة.
_ستحضرين المحاضرة التي بعد قليل؟ ، للدكتور رامز الباري
_لا  طبعاً، سأذهب إلى حديقة الكليّة لا اريد حضورها. أريدُ الحفاظ على صحة عقلي من نظرياتهِ المريضة.
ضحكتا سوياً، ثم أردفتْ جوري:
_إذن سأرافقك.
_تعالي
تأبطت جوري ذراع ليلى وذهبتا تتسكعان في الساحة الكبيرة، حتى وصلتا إلى الحديقة.
اشترت ليلى كأسين من عصير الليمون الطازج اثناء مرورهما على المقصف ، ثم جلستا على مقعدٍ خشبي واسع ترتشفان العصير على مهل.
لفتَ انتباه ليلى الازدحام الكبير عند الرصيف الشمالي من الحديقة
_ما سبب هذا الازدحام، هل لديكِ فكرة عن الموضوع؟؟
_اعتقد أنه ذلك الشاب غريبُ الأطوار، يجمع حولَهُ سربٌ كبير من الحمـْام يحنو عليهم ويطعمهم. رقةُ قلبهِ على ما يبدو مُفرطةٌ للغاية، إنه شيء مقزز.
قالت ليلى في نفسها:
أقسم أنكِ المقززة.
وقفت ليلى وبدأت تسير نحو الشمال، صاحت جوري
_إلى اين ذاهبة؟ انتظري سوف آتي معك.
مشتا جنباً إلى جنب حتى وصلتا نحو الزحام، شقت ليلى طريقها وسط تجمُعِ الطلاب الكثيف حتى وصلت إلى سرب الحمـْام.
يقف شاب في منتصف العشرينات من العمر وسط هذا السرب الكبير، كانت الحمـْامات حوله من كل حدبٍ وصوب. يبدو كأمٍ تجمع أطفالها وتضمهم إلى صدرها.
كان يرتدي قميصاً أبيض وبنطال كُحليِّ، شابٌ في غاية الوسامة، شعرٌ أسود وعينان بلون بنيٍ داكن كالعسل، ذلك العسل الذي في عينيه قيّد قلبها بشدة.
ترنحت وهي تسير نحوه، فقدت توازنها وكادت أن تسقط فأمسكها.
حلقت الحمـْامات حولهما، كان مشهداً ساحراً ، و حالماً للغاية.
تقاطعت نظراتهما فشعرت بنبض قلبها يتسارع بشدّة.
_أنتِ بخيرٍ يا أنسة
تراجعت خطوتين للوراء مرتبكة
_نعم أناا بخير، أاشكرك وأنا اسفة.
_لا بأس
هرولت مبتعدة عنه، كان قلبها يخفق بشدة حتى كاد أن يخرج من صدرها، بينما هو كان يبتسم، لم يكن يعرفُ أيِّ منهما أنه قدَرُ الآخر، همست ليلى لنفسها:
_انتبه يا قلبي،يبدو أننا على وشكِ الغرق.
و مضى الوقت كالحلمِ مسرعاً..
                                   ***
بعد مرور عامين:
دمشق، 1997.
أُقيمَ حفل التخرج في بهو الكليّة الكبير، تم تكريم الأوائل على دفعة عام 1997 بعد الانتهاء من تكريم طلاب الكليّة، تم تكريم طلاب الدراسات العليا، ثم نادى عميد الكليّة بإسمه:
_فارس الحمصي، فليتفضل مشكوراً.
ظهر أمامها كأنهُ خُلِقَ من عدم.
صُدِمت برؤيته، لم تكن تعلم أنها ستراه بعد هذا الوقت الطويل، كُرِمَ ثم عاد إلى مكانه.
بعد انتهاء الحفل، استدارت لتغادر.
_ليلى، مر وقت طويل، هذا هو اسمكِ إذاً إنه جميل كصاحبته.
التفتت للوراء، كان هو
_سمعت اسمك عند التكريم، مبارك التخرج
_وأنتَ أيضاً، مبارك انهاء الدراسات العليا، فارس
_يا الله كم تخرج عذبة منك، ما رأيك أن نرفع الكُلفةَ بيننا؟
_من اللقاء الثاني؟؟
احمرت وجنتيها خجلاً
_إن كان ذلك لا يزعجك
_لا مانع عندي. قالت بصوت خافت.
_هل أطمعُ في لقياكِ صدفةً يوماً ما.
_بل قريباً جداً.قالتها في اندفاع وشغف كبير، فجأة خجِلت ما كان عليها أن تتسرع في الرد، بادلها ابتسامة هادئة
_أرجو ذلك.
انصرف في سبيله، ازداد توتر ليلى هل يعقل أنها وقعت في حبه دون أن تشعر، جاذبيته ساحرة وهي وقعت تحت تأثيرها دون مقاومة.
بعد اسبوع، وصلتها دعوة إلى حفل زفاف جوري
تلقت منها اتصالاً هاتفياً
_ترتبطين سراً من وراء ظهري، هذه خيانة عظمى
_كل شيء حدث بسرعة، تعارفنا منذ أسبوع واعترف بحبه لي وخطبني أمس، أنا اطير من الفرح.
_تمم الله لكما بالخير عزيزتي.
_أياكِ أن تفوّتي الحفل، بالمناسبة وائل وفارس صديقان مقرّبان،وقد دعاهُ للحفل. قالت جوري في مكر شديد.
توترت بشدةّ
_ليلى، مهما كنت لا مبالية لكن عيونك تفضحك، بينكما شيء محفور في القلبّ، لعل هذه المناسبة تظهره.
_لا أعرف، لكني اشعر بدفئ غريب اتجاهه.
_لقد دعوت رشا وحنين أيضاً.
_جميل، سيعود اجتماع زمان كسابق عهدنا.
_نلتقي غداً.
_إلى اللقاء.
اغلقت ليلى الخط ثم غرقت في التفكير،جوري محقّة فيما تقوله، في قلبها مشاعر مبعثرة تجاهه، مابين أعجاب، احترام، تقدير، إنها تشعر بالأمان بقربه.
هذه المشاعر ليست سوى مزيج لشعور واحد.. الحب..
خلال الأيام التالية، انشغلت البنات في التحضيرات لحفل الزفاف ما بين صنع ديكور مميز من حيث توزيع الطاولات،وتزيين قاعة الحفل. وتسوقٍ يستمر لساعات طويلة من أجل فستان يلائم ذوقَ السيدة جوري.
في غمرة انشغالهن، مضى الوقت مسرعاً لم يشعرن به، وجاء اليومُ الموعود..
كانت الأجواءُ في غاية الروعة، سعادة تغطي وجوه الجميع، تميزت جوري بإطلالة ساحرة بعد أن ارتدت فستان ناصع البياض مغطى بطبقة من الدانتيل المزينة بحبات لؤلؤ متباعدة، صففت شعرها الكستنائي فازدادت جمالاً وأناقة.
انغمس فارس ووائل في حديث طويل عن المشاريع القادمة لكل منهما، تململت جوري فهمست لرشا التي كانت تقفُ على مقربة منها،
_لقد تأخرت ليلى، الحفل بدأ منذ ساعة.
_ها هي ذي
نظر الجميع حين أطلت عند المدخل، لقد سحرتهم بمظهرها الأنيق،ارتدت فستاناً أزرق بِلون السماء من الساتان، نسقتْ معهما حجاباً أزرق. ، لقد فتنت فارس بجمالها الآخاذ، والرقيق في الوقت نفسه.
_تبدين رائعة اليوم. همس لها
_أشكرك وأنت ايضآ.
مضت نحو الفتيات وانضمت لحديثهن، الذي كان يصله منه بعض الكلمات.
وقفت الفتيات عند الباب للترحيب بالضيوف القادمين، تتهامس حنين و رشا ثم تضحكان بصمت، وليلى شاردة في عينيه، وهو شارد في عينيها يمضي نحو الأمام، فيقف بجوارها ويتأمل فيها، تزداد وجنتيها احمراراً ويزيد ارتباكها الممزوج بالخجل.
قلبها مرتبط بقلبه، وتأخير الأعتراف بالمكنوناتِ المدفونة في أعماق النفوس يفقدها القدرةَ على الصبر ، اقتربَت من أُذنه وهمسَت بكل جرأةٍ بالاعتراف المنتظر:
_فارس، أنا أحبك، أحبك كثيراً.
ثم تراجعتْ إلى الوراء، وعادت إلى مكانها وهي في غاية التوتر.
وقف مصدوماً، لم تستوعب أذنه ما سمعه، هل كانت يهلوس؟!
تدريجياً،ادرك الكلمات الست التي تدفقت من شفتيها خلال ثوانٍ معدودة.
اعترفَت بالحب..
غمرته سعادة لا توصف، أخيراً قالتها واعترفت بحبها الكبير له، مشى نحوها ثم وقف أمامها.
لا إرادياً سالت الدموع على خديها بصمت، فمسح دمعها بكفه.
_وأنا احبك، احبك جداً منذ لقائنا الأول.
نظرت نحوه بعينين دامعتين
_  لكن لماذا تبكين؟
_أنا لا ابكي، انها  دموعُ الفرح.
ثم سارا معاً وهما يعبرانِ الطريق الممتد نحو خارج الصالة، وقفا عند الجسر ثم قال لها:
_أريدكِ بجواري حتى الآبد، أريدك قريبة من عيني، وفؤادك قريبُ من فؤادي، هل تعاهديني.
_أعاهدك يا فارس أحلامي.
حين كادت أيديهما أن تتلامس، أبعدَ كفهُ مسرعاً وهو يقول:
_أعاهدكِ أمام الله، أني لن ألمسك قبلَ أن نرتبطَ بشكلٍ رسمي ونعقِد القِران.
ابتسم وقد راودتهُ خاطرةٌ لطيفة، ثم أكمل كلامه:
_لقد علمني والدي درساً لن أنساه طيلة حياتي.
قال لي يوماً:
الرجولةُ الحقيقية، ليست في العضلاتِ المفتولة.
وليست في الضرب، أو السبِ والشتم.
إنما تظهر حين تخاف الله في كلِ من تحب.
عائلتك، المرأة التي أحبتك فكنت صادقاً معها حتى النهاية.
فتسعى إلى حمايتهم من كل أذى مهما كان صغيراً.
أنا رجلٌ صادق مع التي أحبها، أخافُ الله فيها و أؤمن بكل حرفٍ قالهُ هذا الرجلُ الرائع.. أبي.
أصبح خدها أحمراً كالورد من شدة الخجل الممزوجِ بالسعادة.
إنه رجلٌ عظيمٌ حقاً.في كل لحظةٍ تجمعها به تكتشفه أكثر، فيزيدُ حبها له أكثر فأكثر.
استمرا في السير لمدة أربع ساعات، يمضيان في الأحياء القديمة بين زهر الياسمين الدمشقي الناعم.
إنها الثالثة صباحاً..
_هل عرفت في حياتك، فتيات من قبل؟
ابتسم بزهو
_لماذا خطر لك هذا السؤال الآن، أهي الغيرةُ التي في داخلك استيقظت ونحن لا نزال في البدايات؟
_أغار عليك من نسمة الهواء..
_لم أعرف قبلك أي فتاة، ولا بعدك أنتِ كل حياتي، رغم جنونك
_في حُبك.
ضحكا في استمتاع شديد..
تكررت لقائاتهما خلال الاسابيع المتتالية وكانت علاقتهما في أوج تطورها..  في كل مرة تتأمل في ملامح وجهه الدافئة يغمر قلبها الأمان.
دائماً حين نكون بقرب من نحبهم نشعر بانتعاش قلوبنا، وبسعادة تغمرنا،هذا هو الحب الصادق..
لا مهرب منه، يقتحم حياتنا دون استئذان ويطرق ابواب القلب في أصعب الأوقات لينتشلنا من غمرة الحزن إلى أوج السعادة، ويغير حياتنا إلى الأبد...
                                 ***
في زحمةِ الحياة نمضي كالضائعين نبحث عن ما يجلب لنا الراحة والأمان في وقت ما، ثم يقتحم حياتنا احدهم فجأةً، ليغيرها إلى الأبد. 
                                  ***    
  دمشق، اكتوبر 1997
رغم بعد المسافات بينهما في الآونة الأخيرة، إلا أن المكالمات مستمرة يومياً، في الصباح والمساء، ويا لجمال أحاديث المساء الممتدة.
رن هاتفها كانت الساعة العاشرة مساءاً..
_ألو..
_كيف حال حبي العظيم.
_أهلاً فارس، كيف حالك عزيزي.
_أخرجي إلى الشرفة.
عبرت الممر الواصل من غرفتها حتى الشرفة، رغم الأمطار الغزيرة صُدِمت به
_مجنونٌ أنت، كيف تأتي إلى هنا في ظل هذا الجو السيء.
_لن تمضي ليلتي قبل أن أكحل عيني برؤية ملاكي.
_يكفي هذا، العيون مسلّطة نحونا، قالت في خجل
_ادام الله هذه الابتسامة، لقد اشتقت لك.
_وأنا ايضاً، هناك أمر نسيت أن أخبرك به، أن يومي المفضل الثلاثاء.
_هل افهم منكِ أنك تضربين لي موعداً غير مباشر، بعد يومين من الآن
_لِمَ لا، افهم كما تشاء.
وكانت على الموعد في حديقة القشلة، التقت به بعد طول غياب، والشوقُ لرؤيتهِ يحتلُ قلبها..
يمضيان معاً بين الجدران العتيقة ويستمر الحديث
_ما لونك المفضل؟ انا افضل البنفسجي
أجاب بزهو
_الأسود
_وعصيرك المفضل؟ أنا أحب عصير الليمون
_البرتقال.ابتسم
_أي اسئلة اخرى. قال في استمتاع
_لا ابداً
استمر المسير، واكتملت الاحاديث..
حين وصلا إلى المقهى،
_ما رأيك في كأس من الشاي
_لا امانع
اختارت وإياه الجلوس على الطاولة التي بقُربِ النافذةِ الكبيرة.
تظهرُ أمامهما بوضوح الأمطار في الخارج تنهمرُ بهدوءٍ و رِقّة، الجو شتويٌ بامتياز.
هذه هي أجوائها المفضّلة.
صدح صوت القيصر بأجمل اغنياته:
(يدك التي حطت على كتفي..
كحمامة نزلتْ لكي تشرب..
يدك تساوي ألف امنيةٍ..
يا ليتها تبقى ولا تذهب..)
_أنتِ أعظم امنياتي، وأجمل انتصاراتي.
_وانتَ طمائنينة العمر التي جائتني بعد سنوات من الخوف..
فتحت ليلى حقيبتها الصغيرة وأخرجت منها ظرفاً مغلقاً وسلمته أياه..
_لا تفتحه حتى تصل إلى البيت؟ اريد منكَ وعداً.
_أعِدك.
_تخيلي، هذه المرة الأولى التي ابقى فيها خارج البيت حتى هذه الساعة المتأخرة.
أنها الثانية صباحاُ،لكن الليل معكِ لا يشعرني بمرور الوقت
_أحياناً، نصبح مجبرين على كسر عاداتنا الروتينية مع من نحب. قالت بعفوية
_وانتِ اكبر سبب لهذا التغيير في حياتي.
يرتشفان الشاي بهدوء، الدفئ في لقائهما لا يقاوم أبداً..
افترقا على أمل لقاء قريب، حين وصل إلى البيت قام بتبديل ملابسه ثم جلس على الكنبة يقرأ رسالتها..
_رغم غرابة البداية، إلا أني وقعت في شِباكِ حبك من اللحظة الأولى.
منذ صغري كان الجميع يراني لا مبالية ليس لدي اهتمام بشيء، كنت اكره الروتين وتشابه الأيام من كل النواحي.
طبعاً أنا صريحة جداً، لكن تعتبر صراحتي فظّة، وكل من حولي يعتبرني وقحة.
كل ذلك لا يهم، كان قبل اقتحامك لحياتي الرتيبة التي غيّرتها بوجودك، منذ أول نظرة جمعتْ عيوننا سرقت قلبي وفقدت السيطرة على مشاعري، اتُراك ساحر؟!
ولكن معك الآن لكل شيء حلاوته الخاصة، ولكل مكان رونقه الخاص..
أريد أن اخبرك أن قلبي معلقٌ بك..
لذا هو أمانة عندك، لا تكسرها..
وأريدُ أن أعترف:
أحبُكَ حبين، حب الهوى وحب لأنك أهل لهذا الحب الكبير الذي بيننا.
مهما بعدت المسافات فأني بقربك.
أحبك كثيراً..
يا فارسي،
سندي الصالحُ الذي يُداريني برمش عينه.
يا أحلى ما في هذا العُمر.
حتى لو احببت امرأة قبلي فأني سامحتك.
الماضي لا يهمني بل جمال الحاضر الذي سنعيشه معاً.
أحبك من أعماقي..
يبتسم في صمت، غريبة هذه المرأة. من كان يتوقع أن يعيشا علاقة حب عظيمة خلال الأشهر الثمانية الماضية هو مدركُ في يقينه و لديه أملٌ كبيرٌ بربهِ الكريم.
أن هذه المرأة من نصيبه وستكون شريكة حياته.
لذا قرر أن يخطوَ الخطوةَ المنتظرة..

    
        
         

دوائر النارWhere stories live. Discover now