_16_

15 3 0
                                    

جلست قبالتهُ على طاولةٍ مُنفردة، تهز ركبتها في توتر.
_كيف حالك.
_بخير، اعتقدُ ذلك. قالت ليلى بلهجةٍ تشويها السخرية.
_وبعد فراقنا.
_فارس، ما الذي تريده.
لماذا جئت؟؟..
ما الذي أعادك إلى حياتي بعد ثلاثة عشر عاماً.
_هل تُحبينه.
_لا علاقة لك. ردت بحدة.
_يحبك.
_نعم، وبشدة.
_كذابة.
طالعته بنظرات مُهتزة، والعَبرات تسكنُ أصدافَ مُقلتيها. أيعقلُ أن دواخلها مكشوفة إلى هذه الدرجة!
_علييّ الإنصراف.
أخذت حقيبتها ثم مضت نحو الباب..
_لقد اختطفني تلك الليلة، حاول قتلي وهددني بأهلي.
تسمرتْ مكانها في تلكَ اللحظة، ثم تراجعت إليه بخطوات مرتعشة.
_ما الذي تقوله؟
_أنا لم انفصل عنكِ بملأ إرادتي، تم إختطافي ليلة زفافنا من قِبل عِصابة مُسلحة.هو قائدها.
_حكايةٌ مرتبةُ باتقان، مع رشة هوليوود.
قام بحركةٍ صادمة، رفع قميصه لتنكشفَ آثارُ الجروح والكدمات الحادة التي تغطي جسده.
شهقت مفزوعة، ترقرقت دمعةٌ حارة على وجنتيها. لم تمسحها، استمرت تطالعُ ملامحه في ألم شديد.
_نعم، غسان من فعل ذلك.
ذلك الذي أوهمكِ بحبه، وجعلكِ تعيشين بالهناء لسنين طويلة. ليس سوى وحش كاسر تجردَ قلبهُ من كل معاني الرحمة.
_والآن ماذا؟
_هل نسيتِني؟
عند هذا الحد، فقدت ليلى السيطرة على أعصابها. جلست على المقعد وانخرطت في بُكاء مرير.
_كنتُ دائماً أقول لنفسي:
سيمُر، مثل كل مُرٍ مرَ في حياتي.. سيمُر.وستُنسيني الأيام كل شيء.
لكن لم امتلك القدرة على ذلك.
حاولتُ اخراجك من داخلي فعجزت.
حاولتُ خلعكَ من قلبي، فشلت في ذلك.
ما عساني أفعل.
_المشاعرُ القديمة ما زالت موجودة. قال وهو يبتسم بين الحسرةِ والمرار.
_فارس، عد من حيث جئت..
عشتُ سنوات من العذاب بسببك، واحترق فؤادي من فرطِ حبي لك. لا أريد أن اتذوق طعم الوجع ذاته من جديد. أرحل، أرجوك. همست بصوت متحشرج.
قبض على كفها بحرارة، استسلمت ليدهِ الدافئة وقد حفرت الدموع أخاديدً على وجهها.
_اذا كنت تحبني، أنساني. ليس من أجلي.. على الأقل من أجل مجد، طفليّ الصغير. ما ذنبه أن يكون ضحيةً للصراع الذي نعيشهُ نحن الثلاثة.
جمعت شتات روحها المبعثرة، سحبت حقيبتها ثم هرولت خارج المطعم وهي تنتحب .
اقتربت منه الفتيات، همست جوري بنبرةٍ هادئة:
_كل شيء سيكون بخير، فقط ثق بالله واطمئن.
_ونِعم بالله.
ثم مضى نحو الخارج مبتعداً.
***
لم تدري كيف وصلت إلى شقتها، كان طريق العودة ضبابياً بسبب دموعها.
كبرياء المرأة التي كان يراها الجميع قويةً جداً، صُلبة.
لا تهتز لنسمة هواء. دمرها حبُ تاهت ملامحهُ منذ سنين طويلة.
حين وقفت أمام الباب ووضعت المفتاح في قفله، غلفتْ وجهها بقناع الإنشراح والثبات. كي لا ينتبهَ غسان على تغير حالها.
دفعت الدفة، ثم دلفت نحو الداخل:
_أين انتم، لقد جئت.
لم تسمع سوى صدى صوتها، الشقة هادئةٌ تماماً.
صمتٌ رهيب يخيم على الأنحاء، الظلام يحيطُ بالأرجاء. تقدمت بخطى ثابتة، فتحتْ باب غرفتها محاولةً الحفاظ على ثباتها:
_غسان، أنا آسفة لتأخري حبيبي. لقد انشغلتُ قليلاً.
أضاءت الأنوار، ثم...
أثاثُ الغرفة مبعثر رأسٌ على عقب، خزانة ثيابها مرميةٌ على الأرض، المرآة محطمة. بقاياها متناثرة على الزوايا. كل ما حولها يوحي أن يداً عابثةً مرت على المكان جعلتهُ يعم بالخراب.
بعد هنيهة انتبهت على مجموعة صور مرمية على سريرها، استولت عليها رعشةٌ حادة.
تُظهر هذه الصور فارس وهي من اللقاء الذي جرى قبل ساعات قليلة، يمسك بكفيها.. يجلسان وجهاً لوجه على طاولةٍ منفردة. بالإضافة إلى صورٍ قديمةٍ لها برفقة البنات. هناك بقعُ دماء تُغطي كل صورةٍ على حِدى.
غسان كان يراقبها، يعلمُ كل شيء.
وقعت يدها على ورقة مطويّة بعناية. فتحتها.. وكانت الصدمة..
(( أنتِ طالق.. كل شيء بيننا انتهى ))
وضعت كفها على فمها تكتم شهقةً أوشكت أن تفارق حلقها، راودتها خاطرةٌ مرعبة.
مجد!
ركضت مثل المجنونة بحثاً عنه، حين وصلت إلى غرفته. وجدته يغطُ في نومٍ عميق.
جثتْ على ركبتيها، وهي تتنفس الصُعداء...
نامت بجانبه، ضمتهُ إلى صدرها بقوة. وبعد لحظات غفت بالقرب من صغيرها الحبيب.
***
انهمكتْ رشا منذ ساعات الصباح الباكر في ترتيب المطعمِ وتنظيفه. خلال الأيام الثلاثة الماضية تراكمَ الغبارُ في كل جانب، وصنعتْ العناكبُ منازلها على زوايا السقف.
انتبهت على رنين جرس الباب، ظهرتْ مرام وسوسن. ثم دخلت كلاً من جوري وحنين ورائهما
قالت رشا متضاحكة:
_لا حرمنا الله من هذا الاجتماع اللطيف.
خيمَ الوجوم عليهم للحظات ثم اردفتْ:
_ما الأمر؟ ما الذي حلَ بكم؟
سمعت صوتاً:
_هل يمكننا أن نتحدث.
تسارعتْ أنفاسها بشكل مرعب، وقفت رزان أمامها في ثبات.
قالت رشا بصوتٍ مشبع بالحنق:
_ من أين لكِ هذه الجرأة حتى تأتي إلى هنا.
_أنتِ لم تتركي مجالاً كي نتحدث.
ارتفع صوتها:
_في ماذا تريدين أن نتحدث؟ في خيانتك لثقتي بك، أم قلةِ أخلاقك التي سمحت لكِ باقترافِ هذه القذارة.
_يكفي هذا، أنتِ تطعنين في أخلاقي.
صرخت بصوتٍ مخنوق:
_ماذا فعلتُ لكِ حتى تعاقيبيني بهذه الطريقة.
ردت رزان:
_و جدتي ماذا فعلتْ لكِ حتى عاقبتيها بهذا الشكل.
وقفَ الجميع مصدومين مما قيل.
أما رشا شعرتْ أنها تختبرُ كابوساً قديماً تهبُ نفخاتهُ بقسوة.
صفعتها بملأ كفها حتى سالتْ دماء شفتيها، أمسكت بعنقها محاولةً خنقها. حاول الجميع إيقافها عن ما تفعله لكنهم فشلوا، حتى جاءها صوتُ ليلى التي ظهرتْ في المكان بشكل مفاجئ:
_لا ترتكبي الخطأ الذي ارتكبتهُ أمك قبل عشرين عاماً، وإلا ستعيشين الوجعَ نفسهُ من جديد، لكن بشكلٍ مضاعف هذه المرة.
هذه الكلماتُ البسيطة، كانتْ كافيةً لتردعها، وقعُ الكلام على مسامعها جعلها ترتجفُ بشدة، أمسكت رزان ودفعتها خارج المطعم:
_أرحلي من هنا ولا تعودي.
لا أريدُ أن أرى وجهكَ أبداً.
أصابها انهيارٌ عصبي حاد، وقعت أرضاً ثم أجهشتْ بالبكاء.
اقتربت الفتيات منها، تعانقنْ جميعاً بقوة. ثم همستْ حنين بنبرةٍ هادئة:
_لا بأس أن تبتعدا عن بعضكما هذه الفترة، حتى تهدأ القلوب. كل شيء سيحل باذن الله.
لنثق بالله تعالى ونطمئن.

دوائر النارWhere stories live. Discover now