_14_

10 3 0
                                    

توقفت سيارة ((كيا_ريو)) البيضاء عند المواقف القريبة من المجمع التجاري القديم، ترجّلت أمل من موقعها ثم  تقدمت بخطوات ثابتة نحو الساحة الداخلية، على الرغم من الخوف الكبير الذي يدبُ في قلبها.
نظرت إلى ساعتها وازدردت ريقها في توتر. لا يزال هناك ربع ساعة على الموعد.
انتفضتْ حين وصلها صوت انثوي من أحدى الزوايا
_آه يا أختاه، لقد مر وقت طويل..
تلفتت حولها في توهان، أجالت بصرها في المكان جيداً بحثاً عن مصدر الصوت
_أنا ورائك..
شعرت بانفاسها، ثم التفتت و... رأتها.
_جئت إلى هنا، كي أنهي كل شيء ليس لدي وقتٌ أقضيه مع مجرمين أمثالك.
أطلقت ضحكة ساخرة في تلك اللحظة.
_نزيهة، ماشاء الله عنك.
رفعت مسدسها ووجهته نحو رأس أمل.
_يا موظفة السياحة الحسناء، ما هي امنيتك الأخيرة قبل أن تموتي
_وانتِ ما هي امنيتك الأخيرة قبل أن تُمضي بقية حياتك وراء القبضان.
لم تكن أمل من نطقت بهذه الجملة، كان صوتاً رجالياً غير متوقعاً، مألوفاً لدى كل منهما.
_تمارا رشدان، لقد سقط قناعك وكُشفت حقيقتك. لم يعد هناك مجال للإنكار، أو المراوغة.
_داوود..
خرجت منهما الكلمة في الوقت نفسه، مواجهةٌ مُربكة بين داوود والتوأم، زوجته الخائنة وطليقته المظلومة.
_اسمعني، أنت لا تعرف شيئاً...
_لقد عرفت كل شيء، كل الجرائم التي ارتُكبت خلال الشهور الستة الماضية، انتِ ورائها.. لقد دمرتِ حياتي وجعلتيها جحيماً. جعلتني أنفصل عن أمل واخرجها من حياتي من وراء افتراءات كاذبة. لن أسامحك.
_لقد فات الأوان يا عزيزي.
جذبت أمل من مؤخرة عنقها وسلطت نصل سكين حاد عليها، حاولت أن تصرخ. لكنها وجدت نفسها عاجزة عن ذلك.
_اذا اقتربت خطوة واحدة أيها الرجل الشجاع، سأقطع رأسها.
قهقه بصوت عالٍ جداً، كان يتعمد استفزازها. صرخت بصوتٍ مشبعٍ بالحنق:
_سأقتلها...
_انزلي سلاحك.
خلال ثوانٍ معدودة، طوّقَ رجال الشرطة المكان. أفواه مسدساتهم كانت موجهةً نحو تمارا، لم يعد هناك مجال للهرب.
_تمارا رشدان، انتِ رهن الإعتقال. انزلي سلاحك وأرفعي يديك. المكان محاصر.
خضعت لأوامرهم صاغرة، لقد انتهت الجولة الأخيرة من المعركة التي امتدت لسنوات طويلة بهزيمة ساحقة تستحقها بجدارة.قيد الشرطي يديها بالأصفاد ثم سحبها بقية العناصر نحو عربة الترحيل المركونةِ في الخارج.
_لحظة سيدي.
تقدمت أمل نحوها بخطوات ثابتة، عيناها تشتعلان بِنار الغضب والوجع. صفعت تمارا بكل ما أوتيت من قوة.
_انتِ في المكان الذي تستحقينه، امرأة خائنة وغدارة.
انطلقت السيارة مبتعدة بعد دقائق، تكوّرت أمل حول نفسها مختنقةً بالدموع  فسحبها داوود نحوه وضمها بقوة .ازداد نحيبها لبرهة من الوقت. ثم همس لها بنبرة حانية:
_لقد انتهى هذا الكابوس الآن، كلُ شيءٍ سيكون بخير. ثقي بذلك حبيبتي.
رفعت رأسها لتواجهه بعينين محتقنتين بالعُبرات، حبيبتي؟! لم تسمع هذه الكلمة منذ زمن طويل، كان يبتسم. بذاتِ القوة..
وبذاتِ الحنان..
وبذاتِ دهشة اللقاء الأول.
_ليس لي سواكِ في هذه الحياة،
لقد أصبحَ مسائي بدونكِ ليلٌ بالٍ لن ترى سمائه، وسواده سيفوقُ أبعد مدى.
ثم قال ضاحكاً:
_وانتِ ليس لك أحد غيري.
ابتسمت. رغم ألمها من كل ما يحصل معهم في الآونة الأخيرة، إلا أنها على يقين أن مشاعرها تجاهه لم تنطفئ أبداً من وقت بعيد وإلى اليوم...
لا تزال تحبه.
أخرج من جيبهِ خاتماً ذهبياً بحجم حبة البازلاء، تتوسطه زهرة الأقحوان
_إنه!..
قالت وعلى وجهها علامات استغراب واضحة.
_نعم هو نفسه، ما زلتُ محتفظاً به إلى الآن.
وضع الخاتم في بنصرها اليسرى،ثم قفزت نحوه وضمته بكل قوتها.
                               
                                  ***
استلقت حنين على سرير المعاينة، وقد سُحبت منها عينة دم من أجل اجراء التحليل الذي تخوفت منه كثيراً قبل أن تُقدِم عليه.
_يمكنكِ أن تستريحي في قاعة الانتظار، خلال نصف ساعة تصدر النتيجة.
جلست وهي تقبض على حقيبتها الجلدية بتوتر كبير، انتبهت من شرودها على رنين الهاتف، اتصال من ليلى..
_ألو
_أين أنتِ، أتصل بك منذ مدة.
_أنا في المخبر، جئت لإجراء بعض التحاليل.
_أنتِ بخير، هل تخفين شيئاً عنا؟
_لا، ليس هناك ما يدعو للقلق. لماذا أتصلتِ؟.
_أحاول الوصول إلى رشا، لكنها لا تجيب على اتصالاتي ورسائلي. مررت على المطعم فلم أجدها.
_حسناً، سأستطلع الأمر ثم أخبرك.
أغلقت الخط، بعد برهة نادت الممرضة الشابة
_حنين الصفدي، صدرت نتيجتك.
أصبيت بذعرٍ كاد أن يشلَ حركتها، غلفت وجهها بقناع الثبات ثم اخذت الظرفَ المغلق وغادرت المكان مسرعة.
يرن هاتفها للمرة الثانية على التوالي، هذه المرة يظهر رقم مجهول
_ألو
_سيدة حنين كيف حالك، أنا مرام ابنة رشا
_أهلا حبيبتي، انا بخير، كيف حالكم.
ما هي إلا لحظات حتى انفجرت الفتاة بالبكاء
_ماما.. في قسم الشرطة منذ ليلة البارحة.
_ماذا؟ ما الذي حصل؟
_لقد عثروا على مُخدِرات في مراحيض المطعم.
_هل تعرفين عنوان المخفر الذي اقتيدت إليه.
_لم أسمع سوى أنه يقع في جادة الرحبي، قرب محطة القطار القديمة.
_عرفته، لا تخافي كل شيء سيكون بخير. ثقي بالله.
انهت الاتصال وقد تكدّر خاطرها، من وراء هذا الموضوع يا ترى؟؟ يسعى إلى تلفيق تهمة كبيرة ل رشا
من أجل غاية ما.
تتصارع الشكوك في رأسها عبثاً، بعثت رسالة مسجلة إلى ليلى وجوري تطلب منهما التواجد عند قسم الشرطة بعد نصف ساعة، عسى أن تكون قادرة على إنهاء هذه المسألة بأسرع وقتٍ يمكن.
                               ***    
_شرفتمونا أستاذة ليلى أنت و من معك، تفضلوا بالجلوس.
رحب بهنْ ضابط التحقيق بعد أن قدمت ليلى بطاقتها المهنية له.
_سيدي، هلا يمكن أن تشرح لنا ما حصل بالضبط؟ قالت جوري.
حكى الرجل باختصار الأحداث التي وقعت خلال الساعات الماضية، وردَ اتصال قرابة التاسعة من مساء الأمس مفادهُ وجود كمية كبيرة من الممنوعات في مطعم (Roof) الآثري الواقع في منطقة القشلة. ثم انقطع الخط.
توجسَ المحقق الشاب من لهجة الرجل، الأمرُ الذي جعله يرسل دورية شرطة إلى العنوان الذي وصله، وباقي ما حدث يعرفه الجميع.
_سيدي، هل نستطيع رؤية رشا ولو لبضع دقائق.
_لا بأس بذلك، يسمح لكم بربعِ ساعة فقط.
غادر الضابط مكتبه، بعد برهة من الزمن ظهرت رشا يتجلى على ملامحها التعب، وتحت عينيها قد ارتسمت هالاتٌ سوداء من شدة الشحوب وقلة النوم.
تداولت الفتيات على عناقها، حين وقفت أمام جوري، قالت لها بابتسامة متشنجة:
_كيف حالك.
صفعتها بملأ كفها مباشرةً، شهقت ليلى وحنين من هول الصدمة..
_رشا!!
_لماذا ضربتها؟؟
سحبتها من مؤخرة عنقها والشرر يتطايرُ من عينيها
_كنتِ تعلمين أن رزان حامل.
دوت الكلمة في الجو مثل القنبلة،المصائب أصبحت أشبه بالوحل الذي يغمر الجميع بالتدريج حتى يُغرقهم.
_اسمعيني، دعيني اشرح لك.
صاحت رشا بصوتٍ مشبعٍ بالحنق:
_ماذا تريدين أن تشرحي، ما هو التبرير الغبي الذي سوف تضعينهُ لتغطي على تسترك على هذه الجريمة القذرة.
_ولكن...
_أغربي عن وجهي.
أشارت لها ليلى بالخروج، ضربت الأرض بقدميها تذمراً مثل طفلة في العاشرة تسأم من العقاب الذي نالته جزاءَ ما اقترفته يداها. ثم دلفت خارج المكتب.
أمسكت حنين بيد رشا برفق ثم قالت بهدوء:
_أجلسي، بالتفاهم كل شيء سيُحل.
مسحت عبرةً هربت من مقلتيها، طاوعت حنين وجلست مرغمة.
سألت ليلى:
_كيف علمتِ بموضوع الحمل؟
_قبل وصول الشرطة بثلاث ساعات تقريباً، وصل إلى المطعم ظرف مغلق كُتِب عليه اسمي. بدايةً شعرت بدفقة من الأمل تسري في عروقي، ظننت أنها رسالة من أمي تُعبر فيها عن ندمها الشديد بسبب تخليها عني في الوقت الذي كنتُ فيه بأمس الحاجة إليها.
عند هذا الحد، بكت رشا بحُرقة.. نظرت حنين إليها بعينين دامعتين. رغم وصولها إلى هذا العمر إلا أنها تفتقد أمها بشدة، اكثر من أي وقت مضى.
_ماذا حصل بعد ذلك؟
أكملت وهي تحاول السيطرة على شهقاتها:
_فتحت الظرف، لم أفهم شيئاً في بادئ الأمر. اسم رزان موضوع على تقرير طبي مرفق برسالة صغيرة تحتضن بضعَ كلمات.
قرأت الورقة أولاً
(( ابنة أمها فعلاً، الخطيئة تمشي في دمها بالوراثة. لعنةُ الله عليكما))
لم استوعب! من هذا الذي يجرأُ على مخاطبتي بتلك الطريقة الوقحة. ولكن حين قرأت محتوى التقرير. ثبتت صحةُ كلامه.
مفاد التقرير أن رزان كانت حامل في الأسابيع الأولى،  هذا أول ما سبب لي الصدمة. ثم جاءت الصدمة الثانية أنه ما يسمى ب(( الحمل الهاجر)) وقد وقع الإجهاض قبل شهر من الآن.
أطلقت ضحكة هستيرية ساخرة وهي تقول:
_وبعد ساعات وجدتُ نفسي هنا، بين هذه الجدران الجميلة.
قالت حنين في جديةٍ بالغة:
_لن يطول مكوثكِ كثيراً، ستخرجين من هنا بأسرع وقت بإذن الله، أعدك بذلك.
بعد برهة، رجع المحقق إليهنْ فقالت ليلى بإندفاع:
_سيدي، هل يمكننا الحصول على كشف يُظهر مصدر المكالمة بشكل دقيق.
ضيق حاجبيهِ، ثم هتف بنبرة هادئة:
_حسناً. لك ذلك
رفع السماعة وكون رقماً داخلياً
_أريد تقريراً يخص المكالمة التي جاءت الليلة الماضية بخصوص شكوى عن شحنة المخدرات.
_أمرك سيدي.
أغلق الخط، ثم قال
_أيتها السيدات، في غضون ساعات قليلة يكونُ التقرير جاهز.
لكنَ السيدة رشا ستبقى محتجزة على ذمة التحقيق لمدة ثلاثة أيام.
تنهدنْ معاً في الوقت نفسه.
كل شيء سيكون بخير..
بإذن الله.

دوائر النارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن