تلك الشجرة

2.5K 130 23
                                    


وفي أحد الأيام أتى من يقف جواري عند هذه البوابة الخلفية ، وعرفت أنه ممن يعملون في هذا المبنى ، فقميصه كان يحمل الشعار المرسوم ذاته على واجهه البناية ..

كان رجلاً نحيلاً يرتدي نظارة ذهبية الإطار ، وكان قد أتى إلى هنا ليدخن فالتدخين ممنوع منعاً باتاً في الداخل .. عرض عليّ سيجارة فرفضت على الفور ..

أمي - التي هي في السماء الآن - أخبرتني سابقاً أن السجائر مضرّة .. أخبرتني أنها تقتل وأنني يجب ألا أدخن أبداً .. وأنا اعتدت أن أطيع أمي مهما كان مكانها ..

هكذا وقف هذا النحيل جواري وقد أسند ظهره للجدار ليدخن في هدوء ، فتحاشيت النظر إليه ، ورآني هو أتحاشاه فابتسم في هدوء ، وأنهى سيجارته ليعود من حيث أتى ..

فقط لاحظت أنه ترك عقب سيجارته على الأرض ، فحملتها باستياء لألقي بها في صندوق القمامة ، وأنا لم أكن قد فتحت صندوق القمامة الضخم هذا من قبل ، فرأيت ما فيه لأول مرة ..

كل تلك الأكياس والأدوات والأقمشة كانت ملوثة بالدماء ..

نعم .. أنا أعرف الدماء ، فأمي كانت تسعل الكثير من الدماء قبل أن تصعد إلى السماء .. كنت أقضي الليل جوارها وهي تسعل ، حتى تغيب في النوم مجدداً ، لأنظف كل شئ منتظراً أن تستيقظ لتسعل من جديد ..

أنا لا أعرف ما الذي يحدث في هذا المبنى ، لكن لا بدّ أنه ملئ بالمرضى الذين يسعلون الدماء مثل أمي ..

نعم .. إنهم يدخنون ويسعلون الدماء .. لكني لن أفعل مثلهم أبداً ..

فقط أتمنى أن يحين وقتي لأصعد إلى السماء أنا أيضاً لأرى أمي ..

متى يحين وقتي ؟
متى ؟؟

•••

أنا أعيش بمفردي منذ أن رحلت أمي ..

بعد أن أنهي عملي أعود إلى منزلي سيراً على الأقدام ، فأنا لا أحبّ العودة إلى المنزل .. لا أحبّ أن أعود إلى وحدتي فيه ..

حين أصل إليه أجده بارداً خاوياً ، وكانت أمي تنتظرني فيه سابقاً ، فأجده دافئاً وكنت أشمّ رائحة الطعام الذي أعدّته لي لأشعر بالسعادة ..

أمّا الآن فأعود إليه لأجده مظلماً ، ولأجد الطعام الذي أعدته لي جارتي بارداً على الطاولة .. جارتي كانت صديقة أمي الوحيدة ، وهي من تطهو لي الآن .. لكني لا أحب مذاق طعامها ولا آكله إلا مضطراً ..

في بعض الأحيان كنت أعود فلا أجد طعاماً لأنها نسيت أو انشغلت ، حينها كنت أنام جائعاً وأنا أحلم بطعام أمي ومذاقه الطّيب ..

وفي بعض الليالي كنت أشعر بالوحدة الشديدة فأبدأ في البكاء ..

لكني لا أخبر أحداً بهذا ، فقريبي الذي وصفني بـ ( المتخلف ) رآني أبكي ذات مرة ، فقال إنني أبدو كالفتيات الصغيرات ..

أنا أكره قريبي هذا وأعرف أنه يكرهني !

لكني كنت أنام فأستيقظ في تمام الخامسة صباحاً .. أغتسل .. أرتدي ملابسي .. أغادر منزلي البارد الوحيد ، لأنطلق إلى عملي حيث أعرف ما عليّ فعله بالتحديد ..

•••

مجموعة قصصية | حكايات الموتىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن