تلك الشجرة

2K 120 13
                                    

مرة أخرى رأيت ذلك الرجل النحيل قادماً تجاهي وسيجارته في يده ، يهمّ بإشعالها فبدا عليّ الضيق ، وشعر هو بهذا هذه المرة ، ليبتسم وليقول :
-- أتضايقك رائحة السجائر ؟

فلم أردّ عليه .. عملي واضح وصريح ..

أنا أقف هنا أحرس المكان ، ولو خرج أحدهم من البوابة الخلفية ، فعليّ أن أضغط على الزر على الجدار ..

غير مسموح لي بالتحدث مع أحد .. بمحاولة الدخول للمبنى .. بترك مكاني أثناء ساعات العمل الرسمية ..

هكذا لم أردّ عليه ، ولم يهتم هو بهذا بل وقف على مسافة مني ليشعل سيجارته ، وليبدأ في التدخين بهدوء كالمرة السابقة ..

أنا لا تضايقني رائحة السجائر كما يظن ، لكني لن أخبره بهذا ..
لن أرد حتى لو ..

-- أنا أعمل في المعمل هنا ..

قالها دون أن ينظر لي فلم أرد عليه ..

-- أقضي اليوم بطوله في المعمل كأني سجين فيه .. لهذا أخرج منه أحياناً لأدخن .. وأنت .. ألا تشعر بالملل هنا ؟!

لا .. لا أشعر بالملل .. لكني لن أرد عليه !

أما هو فواصل كأنه يحدث نفسه :
-- تحاليل .. فحوصات .. أشعات .. نتائج .. هذا هو عملي الذي أكرره كل يوم منذ أن بدأت العمل هنا .. صدقني .. أنا مثلك لا أعرف ما الذي يدور في الداخل ، لكنهم يدفعون جيداً .. لا تنكر هذا !

يدفعون ؟؟

قريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني إنه بدون مقابل !.. أخبرني أنهم سيسمحون لي بالوقوف وارتداء هذا الزي الجميل لو أديت عملي كما يجب ، لكنه لم يخبرني قط أنهم يدفعون !!

أشار النحيل للمبنى وقال :
-- أتعرف أنهم صمموا هذا المبنى بحيث تكون جدرانه عازلة للصوت .. هكذا لا يعرف أحد منّا ما يدور في الغرفة المجاورة .. لا يعرف أحد منّا من يعمل هنا وما الذي يعمله .. كل هذه التحاليل والفحوصات .. كأننا نعمل في مستشفى سري هنا !

نعم .. مستشفى !

كنت أعرف أن المبنى ملئ بالمرضى الذي يسعلون الدماء .. لهذا رأيت كل هذه الأشياء الملوثة بالدماء في سلة القمامة الضخمة قربي ..

لكن لا يهم .. فليكن سجناً حتى .. أنا هنا لأؤدي عملي فحسب ، وقريبي الذي منحني هذا العمل أخبرني أنني سأظل فيه ، طالما صمت ولم أسأل أسئلة لا داعي لها ..

-- لكنك لا تعرف شيئاً بالطبع .. لهذا اختاروك .. إنهم عباقرة .. أن يختاروا شخصاً بحالتك هذه ليعمل هنا ..

حالتي ؟.. مرة أخرى أجد من يذكر ( حالتي ) دون أن أفهم ما الذي يعنيه بالضبط ..

أمّا النحيل فسعل فجأة ليطفئ سيجارته - على الأرض - قبل أن يلوّح لي مودعاً ، ليعود إلى الداخل ..

مجموعة قصصية | حكايات الموتىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن