... الوعيدّ ...

4.7K 312 14
                                    

.
.
.
.
وحيده...
هكذا وجدت تشاستين نفسها، بعمر الخامسة عشر...
لقد كانت وحيده...لم يخصص اي احد وقت كاف لها...لم تتحدث اختها معها بل فضلت اتباع والدتها في كل مكان تذهب اليه وفي كل صباح، الى الكنائس والاسواق والمناسبات...
ووالدتها اكتفت بتجاهلها وتركت زوجها يتعامل مع هذه ( المشكله ).
- هل ارتديتي ثوبكِ انستي؟
جاء صوت الخادمه الجديده من ورائها...
- كلا...
اجابت تشاستين وهي تجلس امام المرأة في غرفتها، ثم طالعت الثوب الاسود الذي قبع على السرير ككومة من القماش...
- ستبدأ الجنازة عما قريب...
قالت الخادمه فأجابت الفتاة:
- لن اذهب...
- انستي رجاءاً... ستتسببين لي بالمشاكل.
- قلت لن اذهب...لذا رجاءاً...اتركيني وشأني.
تنهدت الخادمه باستسلام ثم خرجت من الغرفه...
كان هذا اليوم، هو يوم جنازة لوسيان...لقد توفى عن عمر يناهز ال٣٢ عاماً تاركاً ورائه تشاستين في سن حرج، واخاه المضطرب الذي رفضت بقية عائلته الاعتناء به بعد موته...
لوسيان كان مريضاً ومتألماً منذ مده، حاول اقناع نفسه ومن حوله ان العلاجات البسيطه سوف تفي بالغرض بالرغم من معرفته بعدم صحة ذلك...
بالطبع لم تكن تشاستين لتتقبل الوضع ، فلوسيان كان جزء من حياتها منذ بدايتها، كان الوحيد الذي يجلس ليتحدث معها بينما تجاهلها الاخرون، واعتنى بها حين مرضت، ففي منزل بدا الجميع به منشغلون بأشياء لا قيمة لها، كان وقت الخادم الشاب للفتاة الصغيره وحدها.
رأى فيها الاختلاف، والتواضع، ونقاء القلب، تماماً عكس بقية افراد عائلتها، ولم يرغب ان يلوثوها بأفكارهم المتطرفه وبتصرفاتهم القاسيه...
طرق الباب بعد فترة قصيره من رحيل الخادمه ليدخل والدها ولاول مره لم يكن غاضباً او متجهماً عليها...
- حان وقت الرحيل يا تشاستين.
- لست ذاهبه معكم...
اجابته وهي لا تنظر اليه، لقد احمرت عيناها الكبيره من البكاء وانتفخت اجفانها الورديه من الارهاق وقلة النوم...
- الا ترغبين بقول الوداع؟
سألها والدها وهو يقترب منها ليضع يده على كتفها بلطف...:
- اذا قلت الوداع له فسيكون الامر حقيقياً...انا لا ارغب بذلك...
- ان الامر حقيقي ...سواء تقبلتي ذلك او لا...ان لم تذهبي اليوم لقول الوداع، فستندمين لاحقاً حين يفوت الاوان...
ابعدت تشاستين يد والدها عنها ونهضت لتتجه وتقف بالقرب من النافذه وتنظر الى الحديقه...لقد زرعتها برفقة لوسيان بعد ان اتمت عامها العاشر وسمح لها والدها بالقيام بذلك شرط ان تنجز الكثير من الواجبات...
لم تتمالك الفتاة دموعها التي انهمرت كالشلال ولا انتحابها وشهقاتها المتواصله، لقد خافت الوحده كثيراً خاصة وانها احتاجت الى صديق في فترة مراهقتها ...
- سأعقد معكِ صفقه...
قال والدها لها وهو يقترب مجدداً...
- سأحضر اخاه للعيش معنا وليحل محله...ستكسبين صديقاً جديداً وستضمنين راحة لوسيان في قبره...شرط ان تتوقفي عن البكاء وتأتي معي الى الجنازه.
لوهله ارادت ان تقول له بأن عرضه هذا كان اغبى ما سمعت لكنها تمالكت نفسها حين ذكر راحة لوسيان في قبره...
كان يجب على تشاستين ان تفكر بعقلانيه وتختار بحذر وحكمه وبالطبع وافقت...لقد مضت مدة طويله منذ ان رأت مارسيل، لكن ذلك لا بأس به... فهي بالتأكيد ستراه حين تذهب الى الجنازه...
- موافقه...
قالت الفتاة بعد ثوان طويله من الصمت...
- سإرتدي ثيابي وانزل بعد قليل...
- حسناً.
ارتاح والدها لقرارها، فكم سيكون مظهره سيء امام الناس حين يكون احد افراد عائلته غائباً في مناسبة كهذه.
ارتدت تشاستين ثوبها الاسود وفتحت شعرها الفضي ليتساقط على كتفيها بأهمال ثم نزلت لتلحق اهلها، لم توافيهم في غرفة الجلوس بل خرجت الى الحديقة لتقطف احد الازهار للوسيان...لقد احب الورد الأحمر فقام بغرس العديد منها برفقتها في الحديقه خلف المنزل...
في مناسبة كهذه كان الورد الابيض هو ما يقدم للمتوفى الا ان تشاستين رفضت هذه الفكره...
قامت بقطف وردة حمراء داكنه كبيرة بدت كحبّةِ رُمان مرتويه وقررت تقديمها الى صديقها كهدية وداع...
لقد قال لها بأنها مختلفه عن الكل...وربما كان محقاً...خاصةً بعد ان وصلت الى الجنازة ووضعت الوردة الحمراء الى جانبه وفوق بقية الورود البيضاء...
احتاجت الى قوة عظيمه حتى لا تبكي حين رأته لانها علمت ان والدها يراقبها من اجل الحفاظ على الاتفاق الذي دار بينهما...
- وداعاً لوسيان...سأعتني به جيداً...
اخبرته وهي تقبل جبهته وتسير بعيداً عن الحشد، ارادت ان تجد مارسيل، لقد كان هنا في مكان ما، لم تعلم ما اذا كانت ستعرفه، لكنها كان يجب ان تجده لتتحدث معه، لتقدم له التعازي ولتقنعه بالمجيء معها...
مضى بعض الوقت وهي تبحث هنا وهناك حتى تعبت من السؤال وجلست عند احد الاشجار لتحتمي بظلها...
- اين يمكن ان يكون...
قالت في نفسها وهي تنظر في انحاء المكان...
لم يره احد في الجوار ولم تكن لديها اي فكرة عن اين ستجده...
مر بعض الوقت وهي جالسة هناك...لم يأت احد من افراد اهلها لإيجادها وكان لا مانع لديها بذلك، ربما رحلوا دونها...
وحين كادت ان تيأس، لمحت شاباً واقفاً بالقرب من القبر المطمور حديثاً، لقد مر وقت طويل منذ ان رأته اخر مره لكنها علمت تماماً من يكون...لا تزال عيناه الزرقاء لم تتغير ولا هالته التي تحيط به...
نهضت تشاستين عن الارض ودون ان تقوم بنفض التراب عن فستانها الاسود ، اسرعت نحوه ولم تتوقف الا ان اصبحت خلفه...:
- مارسيل؟
نادته وهي تلمس كتفه برفق...
مسح مارسيل دموعه ولملم شتات نفسه ثم استدار وقال:
- نعم؟
- ا...انا تشاستين...من عائلة كينغ...
قطب مارسيل حاجبيه بأرتباك ولم يلبث ان ارخاهما...:
- تشاستين؟
قال وهو يرسم الابتسامة الدافئه على وجهه:
- اجل...
- يا الهي لم تكبري على الاطلاق...
قال لها بهدوء وهو لا يقصد السوء بكلماته...بل اراد ان يقول لها، انها لم تتغير ولا تزال تشاستين ذات الملامح الطفوليه...
- لا يمكنني قول الشيء ذاته عنك...لقد كبرت...
اجابته والحمرة تعتري خديها...كان مارسيل يكبرها بأربع سنين ولم تتوقع ان يكون قد اصبح شاباً بالكاد تستطيع ملامسة كتفه.
- انا اسفه لخسارتك...
قالت له وهي تتجنب النظر في عينيه الجميلتين...:
- بأمكاني قول نفس نفس الشيء لكِ...
اجابها بصوت حزين ثم اكمل:
- لقد كان فرداً من عائلتك ، اكثر مما كان لي...حتى حين كان يعود الى المنزل، كان يتحدث عنك دائماً...
لمحت تشاستين شبح ابتسامة على شفتيه...
- وتحدث عنك كثيراً حين كان في القصر...
اجابته الفتاة، وكانت صادقه، لطالما تحدث لوسيان عنه ، حتى انها عرفت تفاصيل حالته وكيفية التعامل معه بسبب اخاه الراحل...
- هل لديك مكان لتعود اليه؟
سألته دون تردد، فطأطأ برأسه الى احد الجوانب وقال وهو ينظر الى القبر:
- لليوم...لكني انوي المغادره في اقرب وقت...
- الى اين؟!
قالت الفتاة بعجل فتعجب واجاب بأبتسامة ليرضي فضولها:
- ليس الى مكان محدد...
- اذن تعال معي!
طلبت منه تشاستين دون ان تعطيه فرصة للاجابه:
- تعال معي مارسيل...ابق معي، بأمكانك ان تعمل وتأخذ محل لوسيان، لن تبقى وحيداً ولن ادعك تشعر بالوحده، سنمضي الوقت معاً، سندرس معاً ، وسأدعمك في كل شيء تفعله، انا اعلم تماماً كم انت تحارب من اجل مقاومة مرضك، لقد اخبرني لوسيان كل شيء، بأمكاننا ان نفعل ذلك سوياً بعد رحيله، ليس عليك ان تبقى لوحدك...

مشعوذة الجنرال ( مارسيل )Opowieści tętniące życiem. Odkryj je teraz