٤) غَــرق.

3.1K 317 45
                                    

..
...
بعد مضي عامين على حادثة الكفالة، أصيب ولدٌ في السادسة من عمره بحمى شديدة، لم يقم المسؤولون باتخاذ إجراءات لازمة لعلاجه،  فانتقلت العدوى إلى بعض الأطفال الآخرين، كانت تصيب الأطفال صغار السن، و لم تقدم لهم الرعاية اللازمة رغم حاجتهم الماسة لها، فأدى إهمالهم وتملصهم من المسؤولية إلى وفاة أحد الأولاد جرّاء المرض.

أصيب الجميع بالهلع إثر ذلك، جُن البعض منهم.
تتعالى الصرخات في آخر المساء...

لا نريد أن نموت في هذا المكان....

عمّت الفوضى، .وحاول البعض الهرب، و قد باءت جل محاولاتهم بالفشل، عوقب من أراد منهم الهرب أن حُرموا من الطعام، و سيعاقب كل من يساندهم.

كانت تلك العقوبة كفيلة بتهدئة الجميع، ولكن، ازدادت الحمى تفشياً وأصيب بها المزيد من الأطفال، و كان من بينهم أمجد، هلِعت، و لم أعرف كيف أصنع، رجوت المدير أن يحضر طبيبًا، فوبخني بصفتي مبذرًا و طردني من مكتبه،  لم تقدم أي رعاية لأمجد ولا لغيره، و لأنني أنا سنده الوحيد فقد صرتُ أعتني به في مرضه، لا تبرح عيناي عنه، ينام لساعاتٍ طويلةٍ على فراشه، بينما لم أذق أنا طعمًا للنوم، خشيتُ إن أنا نمت، أن لا أجده حينما أستيقظ، أن أفقده قبل أن أدرك، كنتُ أخشى فقده أكثر من أي شيء آخر، فهو كل من كان لي، وهو لا يملك أحدًا سِواي.

كنتُ أغير كماداته في حين كانت وجنتاه تتوهجان و جبينه يقطب و كان يهمهم بكلمات مُبهمة، لم أكن أرَ إلا جزءًا من وجهه الذي انعكس عليه ضوء المصباح المُصفر بجانبه، شد جفنيه و بعد حين فتح عينيه،  حرك شفتيه بوهن، فقربت أذني إلى فمه كي أسمع ما يقول... جائع....

لم يتسنّ لي يومها أن أخبئ له حصة من الطعام في وقت تناول الوجبات كما كنتُ أفعل عادةً،  لذلك فقد اضطررتُ للتسلل إلى مخزن الأطعمة المحظور علينا دخوله بعد أن أخذت مفتاحه خِفية من مكتب المدير، نبشتُ في الأرفف وأخذتُ أول ما صادفته يدي.
استدرتُ عائدًا، ممسكًا برغيفي الخبز قبل أن تسقط من يدي حينما رأيت نائب المدير يقف عند عتبة الباب متكتفاً، يحدق بي بنظرات مخيفة.

ضرب المدير بقبضته على مكتبه و هو يزمجر في وجهي..

"أوتجرؤ على السرقة".

"رفضتم مسبقاً إحضار الطبيب،  و ترفضون الآن أن أعتني به".

قاطعني وقد علا صوته:

"صمتاً!، أيها الطفل المشاغب،  كان يجدر بكَ أن تكـون أكثر مسؤوليةً إن كنتَ تخاف على أخيك".

أشار إلى نائبه ضخم الجثة، فسحبني من كتفي كي يخرجني، فأبعدت يده بحركة من كتفي،

"هيا،  اِمش".

"إلى أين ستأخذني".

"سوف تُحتجز لثلاثة أيام في غرفة الحجز".
قالها المدير و أردف ساخرًا:

"ولنرى حينها من سيعتني بشقيقك العزيز".

سحبني نائبه بقوة أكبر فتشبثت بطاولة المكتب..

"كلا،  أرجوك،  لن يعيش يومًا ما لم أعتنِ به".

هز كتفيه دون مبالاة وأشار بيده لنائبه فسحبني بقوة من كتفي، و أنا أصرخ وأقاوم دونما فائدة تذكر، حملني على كتفه وسار بي على الرواق.

لكمت.. رفست...  و صرخت بكل ما أوتيت من قوة، حتى بُحَّ صوتي، و تلاشت صرخاتي المبحوحة بين شقوق الحوائط..

"أعيدوني إليه أيها الأوغاد،  سيموت لو بقي تحت رحمتكم".

خرج الأولاد من غرفهم ليستطلعوا الجلبة التي حصلت، ينظرون إلي بفضول مشوب بالشفقة.. لم أرفع رأسي إليهم، أطرقتُ بصمت كئيب،  و أحسستُ بنظرات غريبة تحدق بي، مختلفة عما عداها، لكني لم أقوَ على رفع رأسي، نال اليأس مني.

...
..
.

أشِقّاءWhere stories live. Discover now