فصل إضافي ٢|ندى: لن أنساك أبدًا.

1K 117 67
                                    

..

(مرحبًا..  أيها الفتى الفريد،
تمر الأيامُ بسرعة، لم تتهوّد قليلًا لنلملم جراحنا ونمضي على إثرها، هذه السنةُ الخامسة، وذلك الثقب في قلبي لم يملأه شيء، يا لسُرعةِ الأيام! لقد غدوتُ في السابعة عشرة، صرتُ أكبر منك، كلما أرى في المرآة قامتي التي ازدادت طولًا وملامحي التي ازدادت نضوجًا أتمنى لو تراني، كي تبتسم وتقول أنني كبرت، كما قلتَها لي حين بلغتُ الثانية عشرة.

هل تذكر تلك الأيام؟  حين كنتُ أزورك كل يوم، أساعدك في أعمال البيت وطهو الطعام حين يكون أخوك في عمله، كنتَ ممتنًا لمجيئي وتبديدي وحدتك، مع أنك لم تُصَرِّح بذلك، إلا أن عينيكَ قالتا الكثير، وكلما أفسدتُ شيئًا كنتَ تبتسم لي، وتنحيني جانبًا لتُصلحه، كنتُ أتعمّد فعلها أحيانًا، لا لشيء، إلا لأرى ابتسامتك.

قابلتُ في طفولتي أولادًا كُثر، وكرِهتُهم بلا استثناء، سواءً كانوا أبناء الجيران أو الأقرباء، اِحتقرتُهم جميعًا، لم أكن أحتمل غطرستهم المقيتة، ولكن أنت، لم أرَ في حياتي ولدًا مثلك، ولا أحدًا مثلك، كنتَ هادئًا على الدوام، ذكيًا، رحيمًا، مميزًا، وفاتنًا، مثلَ أميرٍ نبيلٍ غادر إحدى كتب القصص، ومثلتَ في واقعٍ لا يستحقك، لم تحتمل الحياة وهجكَ الساطع فخبأتك داخلها، حتى لا يُغَيِّبَ ضوءكَ نورَها.

أيها المُشِع، رحيلكُ أطفأ روح تلك الصبيّةِ التي لم تشعر بقيمة الحياة إلا حين عرفتك، وبغيابك زال معنى الحياة وأسبابها، كنتَ قاسيًا حين رحلت وأخذت نفسي القديمة معك،  فلا أنا على قيد الحياة،  ولا معك.

أختي الكبرى لم تكن تهتم إلا بنفسها، وكانت أمي تأخذها معها إلى المناسبات العائلية، فتقمصَت دور الكبار وهي صغيرة، وكنتُ أنا على نقيضها في كل شيء؛ لذا لم نكن قريبتين من بعضنا، وأخي كان طفل، يقضي أكثر وقته على أجهزة اللعب، والقصص المصورة،  وأبي يستضيف أصدقاءه أو يُغادر للقائهم، وأنا، لم يكن لدي ما أفعله، ولم أعرف ما أريد، لا اهتمامات لدي ولا رغبات، كنتُ فارغةً كجرّةٍ لا يملؤها غيرَ الغبار،  ثم جئتَ أنت، وامتلأتُ بك.

لم أعرف سر انجذابي إليك، وكأن العالم خلا إلا منك، أوهمتُ نفسي أن اختلافك وتميزك وسحرك الذي يفتن أي أحدٍ بك قد سحرني وخدّر حواسي، وتلك المشاعر،  سواءً كانت سحرًا أم انجذابًا أم حبًا قد أوجدت لحياتي معنى، وقدّرتُ قيمة أن أكون على قيدها، كنتُ آتي إليك فور عودتي من المدرسة، أقضي معك ساعات الظهيرة المملة، والتي لم أعرف فيها الملل وأنا معك، كنتُ أهوى تأملك، وإصاخة سمعي لما يلفظه لسانك، أحببتُ كل ما فيك، علقتُ فيك، ولم أستطع تخليص نفسي قبل فوات الأوان.

اقترحتُ عليكَ أن أقرأ لك الكتب في أيام مرضك، فلم تُمانع، لعلك أردتَ منحي فرصةً أخيرةً للبقاء بقربك، كنتَ تعلم أنك لن تعيش، عيناك قالتها، لكني كذّبتُ ما رأيتُ فيهما.

أشِقّاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن