٢٤) نَبـش.

1.1K 154 44
                                    


...
..

وقفنا جنبُا إلى جنب، ننظر للبناء المكتمل أمامنا، عيناه مملوءتان فخرًا بالإنجاز الذي استغرقنا نصف عام لإكماله، ثاني بناءٍ نتولى تصميمه بعد  المعهد الذي أنهيناه قبل أكثر من عام،  قص المالك الشاب الشريط وصفق المدعوون بافتتاح المقهى الذي استوحى المصمم تصميمه من الطبيعة تماشيًا مع المشروبات التي ستقدم فيه، قدم المالك شكره للعاملين عليه وعلى رأسهم المصمم الموهوب مؤيد. 
 
كان ذلك يوم عطلة، ويوم لقائي معه، لذا انسحبتُ بهدوء من ذلك التجمع، بعد أن أخبرتُ مؤيد الذي نظر إلي بتفهم ولم يُعارض ذهابي.

مرت الأيام بسرعة، لدرجة أنني انتبهت متأخرُا لفارق الطول الذي أخذ يزداد بيننا، حين وظفني كان أطول مني بعدة سنتيمترات والآن صار يرفع رأسه إلي ليُحدثني، ابتسمتُ بسخريةٍ على سرعةِ الأيام. 
 
دخلتُ من البوابة المفتوحة، بعد استغراقي نصف ساعة في السير، دخلتُ بسكون كي لا أفض سكون النائمين داخل تلك الأسوار الحجرية التي تحيط أجسادهم وتكفل لهم الهدوء في مثواهم الأخير. 
 
جلستُ على حجرٍ مسطحٍ أمامه، اعتدتُ الجلوس عليه كلما جئتُ إليه. 
 
"مرَّت سنتان، وأشعر أن غيابكَ لم يتجاوز الأيام..".
 
صمت برهة، أنتظر جوابه، رغم أنني أعلم أنه لن يُجيب، اعتدتُ أن أعطيه مجالًا ليُجيبني،  وأصوغ في ذهني جوابه.
 
"سامر ورائف يدرسان بجد، ومالك حصل على وظيفةٍ جيدة، وأمك...".
 
قلتُ بعد تنهيدةٍ قصيرة: 

"لا تقلق عليها.. ستتجاوز الأمر ذات يوم..".
 
أخذت حفنةً من التراب بيدي، وانزلقت ذراته الذهبية بين أصابعي، وقلتُ وأنا أشغل عينيّ بالنظر للذرات التي تنساب لامعةً بانعكاس أشعة الشمس عليها:.
 
"آسف لأنني لا آتيك كل يوم، سأحاول المجيء دائمًا كي لا تشعر بالوحدة.".
 
قمتُ ونفضت الغبار عن ملابسي، بعد أن أطلقت تلك الكذبة التي أقولها كل مرة، ولا أوفي بها. 
 
عدت إلى البناية وسرت مطأطئًا على ممر الطابق الثالث، أطرد من ذهني أشباح من سكنوه يومًا وغادروه بغير رجعة، مر من جانبَيَّ ظلان ضئيلان وتجاوزاني، التفت فرأيتهما تلتفان حوله، انحنى أمامهما وربت على رأسيهما بيديه وهو يبتسم لهما بلطف. 
 
"أمجد متى ستعلمني الأحرف؟ لقد كبرتُ وأصبحتُ في الروضة". 
 
"أنا جئت قبلكِ رُؤى". 
 
"أنا رأيته قبلكِ رُبى". 
 
اغتاظت التوأمان وأمسكت كل واحدة منهما إحدى ذراعيه، كانتا متشابهتين في كل شيء، الملابس، وتسريحات الشعر، والملامح، وحتى الصوت، كنتُ أخلط بينهما دائمًا، أما هو فيميزهما ربما أكثر من والديهما، سمعت صوت ضحك خلفي فرأيت والدهما يسير باتجاهنا. 
 
"إنهما متعلقتان به..". 
 
قال مُصعب، والد الفتاتين، الذي انتقل للسكن في البناية قبل عام، في الشقة الثالثة التي ظلت شاغرةً لعام. 
 
نظرتُ لذلك الفتى المُنحني أمام الفتاتين، كيف صار محط أنظار الجميع بعد أن كان متحفظًا ومُنزويًا، كبر كثيرًا خلال العامين الماضيَين، أصبح طوله يصل لكتفي بعد أن كان يصل لمنتصف صدري، ومع ازدياد طولي كان نموه يتزايد بوتيرةٍ أسرع، ربما يصبح أطول مني ذات يوم، صار يشذب شعره ويقص الخصل التي كانت تتمرد على جبينه لأنها تعيقه أثناء القراءة، فمنحه شعره المقصوص هيئة أنضج وأكبر من سنه. 
 
ودع الصغيرتين ولحق بي وأنا أدخل الشقة، أغلقت الباب بعد دخوله وغطيتُ رأسه بالقلنسوة المتصلة بسترته التي استمدت لونها من العشب الأخضر. 
 
"ماذا تفعل!..". 
 
قال بانزعاج وهو يبعدها. 
 
"أخفيكَ عن أعين الفتيات..". 
 
قلت ممازحًا فتنهد وقال: 
 
"لا فتياتَ هنا..". 
 
"متأكد؟ قد تخرج تلك المتطفلة فجأة من جحرها..". 
 
ضحك وهو يسمع نبرتي المغتاظة التي أشير بها إلى ندى، وهو يعلم أننا لسنا على وفاق، بقدر المرات التي أوقعتني في مقالبها، ونظراتنا المتبادلة التي تتطاير ألسنة اللهب منها. 
 
"هل كنتَ في المكتبة؟" 
 
طرحتُ ذلك السؤال وأنا أجلس على الأريكة، أجاب بالموافقة وهو ما يزال واقفًا هامًا بالذهاب لغرفته. 
 
"هل تحقيقاتك السرية في تقدم..؟". 
 
أومأ بابتسامة شاحبة، كان يكثر الذهاب للمكتبة في الآونة الأخيرة، إلى جانب الأسئلة التي لا يكف عن طرحها علي، أسئلة غريبة عن الماضي، عن والدينا، وأي شيء له علاقة بسنواتي الخمس الأولى، بدأ زياراته للمكتبة بعدما أخبرته بذكرى مشوشة ومريبة عن ماضيّ مع أمي. 
 
كنتُ يومها نائمُا على السرير الذي بت أتشاركه مع أمي بعد وفاة أبي، صحوتُ فجأةً وأنا أشعر بها تحتضنني بشدة وتبكي، كان قد مر على وفاة أبي أشهر عديدة، وهي حرصت طوال تلك الفترة ألا تبكي أمامي، تعلقتُ فيها بقلقٍ طفولي فزادت من احتضاني وزاد بكاؤها، وخُيِّل إلي أني سمعت صوت باب البيت يُغلق، أحدهم غادر بالتزامن مع احتضان أمي لي، ومنذ يومها، باتت تقرأ لي تلك القصة، تقربني منها وتقرأ بنبرة لم يخف علي حزنها، وترمقني بنظراتٍ أشد حزنًا، تشبه نظرات فراس الأخيرة لي،  نظراتٌ حزينة،  ومودّعة،  لم أفهم نظراتها تلك الأيام،  ولم أفهم لمَ كانت تحكي لي ذات القصة كل يوم.
 
أصبح يتقصى عن كاتب تلك القصة،  كلما سألته لمَ هذا الفضول بشأنه يقول لي لاحقًا تعرف.. لاحقًا.. لاحقًا.. لاحقًا.. 
 
فلم أعد أسأله؛ لأنه سيخبرني لاحقًا كما يقول.. 
 
..... 
 
 
رأيتُ ظرفًا ينزلق من الفتحة السفلية للباب ذلك المساء، التقطته وقلبته للجهة الأخرى لأرى المُرسل، فخُطِف من يدي، رفعت رأسي لأراه ينظر إلى الاسم ويرسم ابتسامة على شفتيه. 
 
"ممّن؟". 
 
"لا.. لا أحد". 
 
غزى التوتر ملامحه وهو يدس الظرف خلف ظهره لا إراديًا، لم أرَ ذلك التعبير يجثم على ملامحه منذ أيامنا في الميتم، عقدتُ يديّ لصدري وتقدمت نحوه خطوة فتراجع خطوتين، ويده الحاملة للظرف ما تزال خلف ظهره. 
 
"هل لهذا علاقة بتحقيقاتك؟" 
 
سألت بنفاد صبر فهز رأسه مؤكدًا، تنهدت وذهبت لغرفتي محاولًا تجاهل فضولي، لم أكن فضوليًا في البداية، لكن تزايد ألغازه بات يُربكني في الآونة الأخيرة، خاصة وأن ذكرياتي السحيقة غدت مثل كتاب مفتوح نتدارسه صباح مساء، بأسئلته التي ينبش بها أعماق ذاكرتي، حتى الذكريات التي اعتقدتُ أنني نسيتُها، بت أذكرها بوضوح،  إحداها كانت لرجلٍ من أقرباء أبي، كنا نزوره أنا ووالديّ، كان بيته كبيرًا جدًا على عكس بيتنا،  ما جعل ذكراه متشبثة في ذاكرتي هو مدى لطف ذلك الرجل، كان يُجلسني على فخذه ويتحدث معي بإسهاب، لا أذكر شيئًا من أحاديثه تلك، لكني أذكره، وأذكر يومًا مظلمًا رأيت أبي يبكي فيه لأول مرة، أذكر أن زياراتنا لذلك الرجل انقطعت بعدها، ربما كان أبي يبكي على وفاة الرجل، فأنا لم أره بعدها أبدًا. 
 
ما شد انتباه أمجد هو حين قلت له أن أبي مات بعده بوقت قصير، مع أن وفاة أبي كانت لغزا بالنسبة لي، حتى أنني لا أذكر كيف استقبلت الخبر، ولا أذكر حتى إن كنت استقبلته أم لا. 
 
مرت تلك الأيام وتحقيقات أمجد الغامضة مستمرة، وزيارات ندى المزعجة مستمرة، وتهافت التوأمين عليه أيضًا مستمر. 
 
كانت أيامًا هادئة، وأنا أخشى الهدوء، أهابه أكثر من أي شيءٍ آخر. 

أشِقّاءTahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon