١٦) أشبـاح.

1.5K 178 72
                                    

...
..
صبيٌّ لم يتجاوز الخامسة، يسير في ممر طويل كما لو كان بلا نهاية، وأصابع يده الصغيرة مُتشابكة مع أصابع أمه، وأبوه إلى جانبه يُبعثر شعره الأسود وهو يبتسم له بحنان، كان الثلاثة سُعداء، لأن فردًا جديدًا سينضم إليهم، وسيُصبحوا أربعةً قريبًا.

لكنهم لم يَصيروا أربعة أبدًا.

مثلت أمامي تلك الذكرى المشوشة مثل شبح حين دخلتُ للمشفى.
ذكرى آخر مرةٍ زرتُ فيها مشفى، في أيامٍ لم أعرف فيها العناء ولا الكمد.

تمنيتُ لو تعود أمي لتعانق يدي يدها، وتربت يد أبي على كتفي، تمنيتُ لو ما زال أخي جنينًا في بطن أمي ولم يُكابد المرض أبدًا.

لكن الأماني المُستحيلة لا تتحقق إلا في قصص الأطفال..

لفح وجهي الهواء المحمل بروائح المعقمات، وانبهر بصري بالبياض الذي يُلون الحوائط والسقف والأرض والناس، كرهتُ ذلك البياض، مقتّه ووددتُ لو أزيله من الوجود.

أقبلت نحونا امرأةٌ بلباسٍ لا يقل بياضًا عن كل ما يقع عليه البصر في هذا المكان، عيناها باردتان وملامحها بلا تعابير واضحة، باردةٌ وخاويةٌ كأن الحياة انتُزِعت منها وسكن الأشباح جسدها.

"إنها الممرضة المسؤولة عن أمجد.. ".

قال ياسر، فازدردتُ ريقي وشعرتُ أن كل خطوةٍ تخطوها نحونا تُبطئ نبضات قلبي.

"هل أنتم أقرباء أمجد الذي وصل صباح اليوم؟.. ".

"نعم، أنا أحضرته.. ".

لو لم تأتِها الإجابة من ياسر لما حصلت مني على جواب.

"جئتم في وقتكم، لقد استيقظ للتو.. ".

أيقظتني من دهشتي يد فراس التي شدت على كتفي وهو يرسم ابتسامةً واسعة.

"لنذهب إليه.. ".

قال لي ولم ينتظر ردي، جذبني معه بعد أن سأل الممرضة عن رقم غرفته، وذهبنا تاركين ياسر خلفنا يُحدث الممرضة عن تفاصيل لا تهمني، فامتناني لاستيقاظه أنساني كل شيءٍ آخر.

"أدخل.. سأنتظرك هنا.. ".

قال لي ونحن نقف أمام غرفته وهو يضرب ظهري برفق كي لا يعاودني الألم إثر سقوطي سابقًا، شعرت أن يده الدافئة تمدني بالقوة، وتحتوي ألمي.

"لماذا تفعل كل هذا لي..! ".

كان سؤالًا غبيًا، تافهًا، بلا جدوى، إلا أنه أجاب برحابة صدر:
"لي إخوة صغار كما تعرف، ولا تدعني أذكرك كل هنيهة أنك صديــ...
اندفعتُ إليه وأنا ما أزال في حالتي اللا واعية، وعانقته، بُترت جملته واعتراه الذهول، فلا أنا ولا هو، توقعنا ذلك.

أشِقّاءWhere stories live. Discover now