الفصل الحادي عشر

40 5 0
                                    

اقتربت من حمزة الذي اسند راسه بارهاق واضح على الاريكة ... نادته بصوتها الناعم الذي ذوب قلبه ... نظر اليها ... توقف قلبه عن الخفقان للحظة ... ملاكه يقف أمامه .... كم تخيلها تتقدم ناحيته و هي ترتدي الأبيض عروساً تزف له ... وقف سريعاً ... ارتد الى الخلف ليحدق بها محاولاً السيطرة على انفاسه المتسارعة ...
_ أماني
نظرت الى الارض و هي تفرك كفيها بتوتر ... حلّ الصمت عاصفاً بينهما .... جاهد حمزة للسيطرة على نفسه ... يريد أن يحتضنها بين خلجات قلبه المتسارع بجنون عشقٍ عصف في صدره منذ سنوات ... يريد ان يزرع اصابعه بشعرها البني المنسدل على كتفها العاجي ... كم يشعر بعطشٍ يريد ان يسقيه من شفتيها .... لكن هناك ما يمنعه من الاقتراب .... حاجز بغيض يفرض نفسه .... انه دورها اليوم ... هي من بيدها القدرة على هدم هذا الحاجز ...
رفعت أماني راسها و هي تعض شفتها بتوتر كاد يفقد حمزة عقله و ما بقي من صبره .... اقتربت منه ببطء ... لم يبقى بينهما سوا بضع سنتمترات قليلة .... نادته بهمسٍ خجل :
_ حمزة ... انا ... اسفة .... لا أريد أن أخسرك ...اريد أن أستمر في السكن داخل قلبك ..أرجوك لا تطردني من مكاني الدافيء و الآمن ... أنا اسفة ... انا ..أنا .... أحبك
ابتسم حمزة بخفوت و هو يقول :
_ هذا لا يكفي يا أماني
نظرت اليه و الرعب يسيطر على قلبها هل ستخسره ؟؟؟
قالت بصوت مختنق :
_ حمزه ارجوك لا تفعل ...لا تفقد الأمل بحبي
قطع المسافة المتبقية بينهما ليحتوي وجهها بين كفيه و هو يقول بحنان افتقدته :
_ يا حمقاء حبك محفور في باطن القلب ... قدر لا خيار لي فيه ... هل تفهمين ؟؟ ... لكنك زرعت الخوف في قلبي ... لقد طلبت الطلاق يا أماني ..الطلاق
قالت و هي تهز راسها بقوة :
_ و ان كنت فعلتَ وقتها ..لقتلت نفسي .... لا حياة لي من دونك
نظر حمزة لعمق عينيها ليجد جواباً يبحث عنه :
_ اريدك ان تخبريني الآن هل ستثقين بي ؟؟
_ بالطبع سأفعل
ابتعد عنها و هو يصارع نفسه و أشواقه :
_ اصبحت اخاف قربك يا أماني أخشى من أفكارك و مخاوفك ....لقد ضربتك بيدي ...كرهت الشخص الذي اصبحت عليه بسبب شكوك ...
قاومت أماني دموعها و هي تحاول استجماع شجاتها .... هي ستحارب لأجله كما فعل ... اقتربت منه و قفت امامه ...نظرت لعينيه برقة و عذوبة ....وضعت يدها على صدره حيث يخفق قلبه متسارعاً
_ هذا القلب لي ... لن اسمح لك بالإبتعاد عني ... لا أنكر أن الصفعة التي تلقيتها منك ذبحتني ....لانها من يدك أنت ... نفس اليد التي كانت الى جانبي طوال عمري تساندني و تحميني ...
_ و انا اسف يا أماني ما كان ...
قاطعته أماني و هي تنظر الى صدره الذي يهبط و يعلو سريعاً :
_ و لكن انا أخطأت ما كان علي أن أتسرع و أحكم و أنفذ .... كان علي أن أسألك و أثق بك أكثر .... انا آسفة ....حقاً اسفة حمزة
شعرت بذراعيه تحيطانها ليضمها بقوة لصدره .... عندها تحررت دموعها و هي تردد :
_ أحبك حمزة ...أحبك .... كل ما أريده من الدنيا قربك يا حلم الطفولة الجميل
ابتسم حمزة و هو يبعدها قليلاً ليمسح دموعها و هو يقول :
_ لا أريد أن أرى دموعك بعد اليوم
ابتسمت جذلة و هي ترى ذلك البريق يلمع في عينيه .... وضع يده في شعرها فك مشبك الفراشة و هو يقول :
_ لقد ظلمت هذه الفراشة ... كم تبدو قبيحة امام وجهك الذي أعشق
خفضت عينيها بخجل و هي تتمسك بقميصه ...غرز اصابعه بشعرها و هو يرفع وجهها .... التقط شفتيها ليبث اشواقاً طالت .... ذابت معه في سمفونية خاصة بهما ... مرر يده على ظهرها ببطء و من ثم رفعها بين يديه هامساً لها :
_ و الآن أميرتي هلا أرحتني من النوم على هذه الاريكة البغيضة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمسك الطفل بقميص والده و هو يطالع هذه الوجوه الغريبة التي تحيطه ... لا يفهم سر هذا التجمع المشحون .... والده كان أشد تمسكاً به محاولاً الحفاظ على هدوئه امامه حتى لا يثير ذعره رغم أن الغضب مشتعل بصدره ..قال بنفاذ صبر :
_ أنا لا أفهم سبب احتجازي هنا ... ستفوتني الطائرة
تجاهله الضابط المسؤول بصمت مما زاد من حنقه و تصلبه ... زفر بضيق و توتر و هو يقول :
_ أريد الإتصال بالمحامي خاصتي
دخل زياد الغرفة مسرعاً و من خلفه رجل يرتدي بدلة رسمية حاملاً حقيبة جلدية فاخرة ... نظر حازم لزياد بريبة ألجمت لسانه .... بدأ الرجل صاحب البدلة بإخراج عدة أوراق من حقيبته تحت ناظر حازم الذي استشعر ماهية كل هذا ... استند زياد الى الحائط و هو يشير للموجدين بالخروج ... بالنهاية فقد حازم صبره وهو يقول :
_ سوف تفوتني الطائرة و أنا أقف هنا
قال الرجل صاحب البدلة :
_ يمكنك الإنصراف بأي لحظة سيد حازم ... لكن الطفل ممنوع من السفر وقد تم إبلاغك بذلك ... و لمخالفتك الأمر القضائي ستقوم الشؤون الإجتماعية بتسليم الطفل لأمه ليبقى تحت رعايتها لحين البت بقضية الحضانة التي رفعتها باسم السيدة ياسمين
لمع الغضب ممزوجاً بالخوف و الألم في عينيه ...قال بصوتٍ أجش مختنق :
_ لم أُبلغ بأي شيء من الترهات التي تتلفظ بها ..... !!
قال المحامي بصوت رتيب لا يحمل أي مشاعر :
_ لقد تم تبليغك على عنوانك في منطقة الخالدين ... لم تكن متواجداً في المنزل .. قام المحضر المسؤول عن التبليغ بالصاق التبليغ على باب المنزل بحضور شاهدين
قال حازم بعصبية و هو يحكم قبضته على يزن :
_ انا لا اسكن ذلك المنزل ...لم أقترب منه منذ ثلاث أعوام
نظر اليه المحامي بلا مبالاة و هو يقول :
_ و لكنه منزلك و عنوانك
نظر حازم لزياد الذي التزم الصمت بغضب ينذر بانفجار قريب ... تابع المحامي كلامه :
_ ستصل مندوبة الخدمة الإجتماعية في أي لحظة أو يمكنك تسليم الطفل للسيد العقيد بصفته مفوض من السيدة ياسمين و تنطلق لرحلتك بسلام
ضحك حازم ساخراً و هو ينظر الى زياد :
_ لم أكن اعلم انك تجيد اللعب القذر سيدي العقيد
نظر اليه زياد ببرود و هو يقول :
_ لو أنك لم تنكث بوعدك يوم أزمة القنبلة و جئت للمسكينة بطفلها ... لو قمت بالتوقف عن ابتزازك لها و استخدام ابنك كثمن ..لما فعلتُ ما فعلت .... ياسمين لم تعد تحتمل الفراق .... انها تذبل كل يوم و كله بسببك انت
قال حازم و هو يشد على اسنانه بقوة :
_ انت لا تفهم شيئاً
تدخل المحامي و هو يقول :
_ قرارك سيد حازم ...
نظر اليه حازم يتوعده :
_ انا من سيقوم بإيصاله
_ و الطائرة
_ لا تتدخل ...
رفع المحامي يده كما لو كان يقول انه شأنك ... توجه الجميع الى الخارج و منهم الضابط المسؤول و مندوبة الخدمة الاجتماعية ... طلب الضابط من حازم الصعود الى سيارة الشرطة .. كاد حازم ان يفقد اعصابه .... لكن زياد تدارك الموقف مسرعاً
_ سوف يصعد السيد حازم معي في سيارتي بعد إذنك قاسم
_ بالطبع سيدي العقيد كما تشاء
طلب حازم من مربية يزن ان تحضر حقائبه و أغراضه و أن ترافقه ... صعدا مع زياد في سيارته ... كانت عيناه تنطقان بحزن عميق و ألم مع لمحة من ارتياح غريب بأن يزن سوف يعود الى احضان أمه !!!!
قال زياد مقاطعاً الصمت الذي القى بثقله عليهم :
_ ياسمين لا تعلم بأمر القضية ..... رفعتها بموجب التفويض الذي وقعته بعد حادثة القنبلة حتى انها لم تكن واعية لماهية الأوراق .... لم أخبرها خوفاً من تدخل والدها في الأمور و إفسادها... و خشيت من أن يرهقها الترقب
قال حازم ساخراً :
_ كنت اظنك شخص يحترم القانون ....سيدي العقيد
قال زياد بصوت تسلل إليه الألم :
_ هناك اشياء تتغير سيد حازم .... لم اعد أحتمل رؤية الانكسار في عينيها ..لقد عذبتها بما يكفي .... انا لم أخالف القانون ..لا أنكر أن فكرة ارسال التبليغ الى عنوان لا تتردد عليه ضايقتني في البداية ... لكن كان يجب ان يعود يزن لأمه ...
تابع حازم بهدوء غريب :
_ كان يجب ان توقع بي لحظة سفري خارج البلاد ... توقع بي و أنا غافل عن أمر القضية و الأمر القضائي بإبقاء يزن داخل البلاد ...
_ لو أنني تركت القضية تسير بشكل طبيعي لانقضى وقت طويل في المحاكم و انا واثق أنك تحمل في جعبتك الكثير سيد حازم
أسند حازم رأسه و هو يراقب يزن الذي استغرق بنوم عميق قائلاً :
_ صورتي مشوهة للغاية أمامك سيدي العقيد و لكن ..... أنا أستحق هذا
قال زياد و هو يطلق نفساً عميقاً :
_ لقد ضربتها .... هذا شئ يجعلني غير قادر على رؤية أي صفة أخرى تتعلق بك
أغمض حازم عينيه باستسلام ... تذكر كل مرة قام بها بالتعدي على من أحب و عشق ... من الأفضل لها أن يتركها و شأنها هذا أقل ما يمكن أن يقوم به حتى تستعيد نفسها التي ضاعت في الدرب الذي جمعهما لفترة قصيرة ...و عليه أن يجد درباً جديداً يجد فيه نفسه بعيداً عن ماضي يلقي بظلاله عليه ... قد يلتقيان من جديد ..... كيف أصبح الشخص الذي كرهه ..كيف يصبح كأباه الذي ضرب والدته عل مر السنوات قبل ان تنفصل عنه .... كيف يذيق من يحب قسوة ماضيه و ألمه .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفاجأت بيد تسحبها الى سيارة غريبة ..لم تجد الوقت للمقاومة و خاصة مع حركتها الصعبة .. أرادت الصراخ لكن يداً ضخمة أطبقت على فمها لتسرع السيارة بالابتعاد
حاولت المقاومة لكن الصوت الذي تسرب لأذنها جعلها تتجمد ..
_ أستاذة ريتاج اهدأي ... لن يطالك أي أذى ..
نظرت لصاحب الصوت و عيناها تتسعان على آخرهما .... تركها ببطء وهو يتأكد من هدوئها ...قالت بهمس كما لو كانت تخشى أن يسمعها أحد :
_ أنت !!!! كيف ؟؟ .... أنت معتقل في منزلك .... الجنود يحيطون بك من كل حد و صوب
ابتسم علي بزهو و هو يقول :
_ لقد كنت واثقاً بأنك سوف تتعرفين علي سريعاً ... أما عن كيف فهي لعبة أتمتع بها بمواجهة اولائك الأوغاد ... أتمنى أن أرى وجهوههم عند اكتشافهم اختفائي
قالت ريتاج بغضب :
_ تتحدث عن الأمر كما لو كان هيناً ... لو أمسكت بك السلطات هنا سوف يسلمونك مباشرة لهم و هذه المرة سوف يقومون بإعادتك للحبس
نظر اليها بخيبة وهو يقول :
_ الأسر أستاذة ريتاج .... نحن أسرى و لسنا محكومين ...لطالما كانت هذه كلماتك ...
نظرت ريتاج الى عينيه كما لو ضرب وتراً في نفسها القديمة :
_ أعتذر منك أنا آسفة لقد أخطأت
قال مسرعاً :
_لا ....إياكِ أن تعتذري ... فأنتِ من القلائل الذين يبقون النبض حياً في قضية تحتضر وسط صخب السياسة و المصالح و القوة ...
شعرت بركلة من جنينها كما لو كان يذكرها بوجوده .. .وضعت يدها على بطنها و هي تقول :
_ سيد علي ... لقد أخبرت المحامي الذي اتصل بي بأنني توقفت عن العمل مع أي منظمة حقوقية ..أنا آسفة
_لو تعلمين كم يشعرني الأمر بالخيبة و الألم ...لكن هناك أمر آخر ... أمر يتعلق بالمرحوم فراس ...
تجمدت حواس ريتاج عند ذكره اسم فراس.... عادت تلك الطلاسم في الدفتر الصغير لتشعل حيرتها .... قالت بصوت مختنق :
_ فراس!!!!
قال وهو يحسب وزن كلماته :
_ لقد تركت في عهدته أمانة ثقيلة و مهمة .... و من الضروري أن اسلمها لاصحابها
_ عن أي أمانة تتحدث ؟؟
_هي عبارة عن دفتر صغير و .....
_ مكتوب بشيفرة معقدة
نظر اليها بصدمة و خوف عليها من المعلومات التي تتواجد في هذا الدفتر :
_ أين الدفتر استاذة ؟؟
قالت ريتاج و هي تنظر إليه بتوسل :
_ أرجوك أخبرني بما ورط فراس نفسه ... أكاد أجن من التفكير بما فعله
_ عليك أن تفخري بفراس ... صدقيني ما فعله يعد شجاعة بالغة
_ أريد أن أفهم
أخذ علي يشد على كفه و يرخيه كما لو كان يخرج شحنات التوتر المسيطرة عليه ليقول بعد تفكير :
_ فراس و أنا و آخرون كثيرون منتشرون في أنحاء العالم جميعنا ننتمي لمنظمة سرية " شباب بلا حدود " مهمتها تطهير بلدنا من الفساد و الشرور بعيداً عن أي مكاسب سياسة و مالية و وظيفية ... و من ضمن أهدافها إيقاف المنظمة أكس عند حدها و هذا ما كان يعمل عليه فراس و شركائه في هذه البلاد الى جانب أمور آخرى...
صدرت صوت همهمة من السائق الذي التزم الصمت طوال الوقت .. حتى
أن ريتاج لم تنتبه لوجوده .. قال علي و هو يربت على كتفه قائلاً :
_ لا تقلق يمكن أن تثق بها ... هي الاستاذة ريتاج .... المنظمة لا تزال فتية ومواردها محدودة ... لكن نحاول على قدر الاستطاعة
كانت الدموع تسير على خديها سريعاً و هي تحاول تدارك كم المعلومات التي تلقتها بالدقائق الأخيرة .... احترم علي دموعها و صمتها أخذ يتطلع الى البحر الذي تسير السيارة بمحاذاته ... بعد دقائق قليلة أخذت ريتاج تمسح دموعها و هي تقول:
_ أعتذر عن بكائي هكذا.... لكن لقد نسجت صور و خيالات بذهني منذ اكتشافي ذلك الدفتر ... لقد اقتربت من حافة الجنون
قال بصوتٍ مهديء و مطمئن :
_ لا ..إياكِ أن تفكري فيه هكذا .... فراس كان بطلاً مقداماً حاول أن يقدم للوطن و لكِ شيئاً بعيداً عن الفرقة التي قصمتنا و قتلتنا ...
أغمضت ريتاج عينيها بقوة و هي تفرك جبينها قائلة :
_ لقد أقدمت على تصرف لا أعلم نتائجه الآن .... أقصد فيما يتعلق بتلك القائمة
تجمدت حواس علي و تشجنت ملامحه ... تابعت ريتاج و هي تقول :
_ لقد سلمت القائمة لعقيد يعمل لدى جهاز الانتربول
ضرب السائق المقود بقوة .... بينما أسند علي رأسه الى كفيه و هو يدير الأمور و يقلبها في رأسه...
سألت ريتاج بصوت منخفض كما لو كانت طفلاً ارتكب خطأً فظيعاً يحاول اصلاحه :
_ لايمكنك تذكر المعلومات الواردة في تلك القائمة ؟؟
أجاب بصوتٍ مضطرب و غاضب :
_ انا لا أعلم كل ما دون فيها ...فراس كان نقطة الربط لأكثر من عشرين مورد للمعلومات ... استغرقته القائمة شهوراً طويلة لجمعها و عندما اقترب موعد التسليم رحل و رحل مجهوده معه
قالت ريتاج بسرعة :
_ تحدث لزياد ..سوف يساعدك أنا واثقة
نظر اليها متسائلاً ...ردت بثقة و حزم :
_ العقيد زياد طارق الذي سلمته القائمة المشفرة ...إنه رجل مخلص و يعتمد عليه
_ لا خيار آخر لدي ..أتمنى أن يسلمني القائمة و إلا سيكون خروجي من موطني بلا فائدة
قال السائق غاضباً :
_ علي !!!! هل فقدت عقلك ..تقول لك العقيد ....عقيد .. رجل دولة .... هل تفهم ذلك ..سوف يسلمك للسلطات
_ اهدأ ... لقد سمعت عنه الكثير قبلاً .... أظنه سوف يتفهم الوضع ...و من ثم لا حل أراه أمامي .... هل لديك حل آخر ؟؟
التزم السائق الصمت وهو يشد على المقود حتى كاد أن يتفتت تحت قبضته ...قال علي :
_ أستاذة هلا طلبت منه ان يلاقيك بمكان نحدده نحن ... لا يمكن أن أظهر الى العلن .... أعلم ان ذلك قد يضعك بمشاكل و .....
قالت ريتاج بحزم و قوة افتقدتها منذ شهور :
_ بالطبع ..لا تقلق سنرتب الأمر ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
وقفت ياسمين بباب غرفة سعاد .. تريد ان تخبرها عن المعلومات التي توصلت إليها بخصوص سامر.... لم يعد الكتمان خيار لديها .... تجمدت يدها على المقبض و هي تستمع لكلمات أختها :
_ لا يا سامر .... حبيبي أرجوك أن تهدأ تعلم أن روحي معلقه بك و لا أقبل ان تغضب ...... اعدك بأني سوف أتحدث مع أبي قريباً ... أخبرتك عن حال ياسمين لا .... اعلم .... أعلم ..... و أنا أيضاً لا أطيق فراقك ... أحبك كثيراً ....
عادت ياسمين الى غرفتها و هي تعذب نفسها بأفكار مؤلمة :
_ الى متى سوف تكون حجر عثرة بطريق اختها الوحيدة ..ضحت سعاد بسنوات شبابها من أجلها .... و ما زالت تضحي .... و الآن تجد نفسها أمام واقع مخيف .... قد يكون سامر متورط بأمر خطير يمكن أن يتسبب بإعدامه ... هل يمكن لشخص يحمل الحب في قلبه كل هذه السنوات أن يكون خائناً لوطنه ؟؟ و إن كان بريئاً من كل هذا كيف لها ان تقنع أختها بالزواج من رفيق روحها و توأم قلبها .... هل تقبل بالزواج من حازم ؟.؟ هل تعود لتعيش تحت رحمته... هل تقبل بكونها زوجة معنفة تتعرض للضرب ؟؟ ... أم تقبل الزواج بزياد .. رجل يسهل الوقوع بحبه .... لكنه لا يسلم قلبه مرتين ....!!!! يعشق زوجته حتى النخاع .... هل تقبل بأن تكون نصف امرأة ...أن لا تكون كافية لأي رجل!!! هل هي لعنة ألقيت عليها ؟؟
طرقات الباب أخرجتها من أفكارها الطاحنة ... مسحت دموعها التي بللت و جهها ... خرجت لتجد سعاد واقفة أمام الباب جامدة لا تعابير على وجهها ... ابتعدت عن المدخل ليدخل حازم حاملاً يزن نائماً بين ذراعيه و من بعده زياد .... نظر الرجلان الى ياسمين التي حبست أنفاسها و هي تحدق بطفلها الذي ينام بسلام بين ذراعي والده غير عالم ببراكين المشاعر التي تتفجر حوله ...
عادت الدموع تغرقها ..... حاولت التقدم .... لكن قدميها أصبحت ثقيلتان ... أسرعت سعاد اليها و هي تبكي دون وعي .... ساعدتها على الجلوس .... مدت يديها باتجاه الطفل و هي تبكي بشهقات مكتومة ... اقترب حازم منها ....ليضع يزن بين يديها بهدوء .... جالساً على ركبته أمامهما .... ما إن استقر يزن بين يديها شعرت بألم انفاسها تحرق رئتيها ... شعرت بألم الولادة من جديد بعودة روحها ... أخذت تتأمل ملامحه الهادئة .... تلمس بأطراف اصابعها شعره الذهبي كوالده ... أخذت اهات متفرقة تنفلت من صدرها ... نظرت الى حازم ... الذي كان يودع قطعة من قلبه ... لقد اعتاد أن يصحى و يغفو على صورة وجهه و وقع كلماته ... كيف سوف تمضي أيامه من دونه ..هو الأن يُسقى من نفس الكأس الذي تجرعته ياسمين طوال السنة و النصف الماضية ... لقد خسر حب عمره و نبض حياته مرتين .... قالت ياسمين بصوت متقطع و هي تحرق حازم بنظرات غضب لم تعرفه :
_ لن أسامحك ..لقد حرمتني منه ... أي ذنب ارتكبته لتوقع علي هكذا عقاب ؟؟؟ ... انه روحي ...روحي هل تفهم ؟؟
قال حازم و هو يطلق تنهيدة حارة .. مبعداً خصل شعر ياسمين التي سقطت على وجه يزن و جعلته يتذمر في نومه :
_ أغراضه موجودة في هذه الحقائب ..سأحضر الباقي غداً .... و هذه مربيته ....
قاطعته ياسمين بغضب مكبوت
_ لا أحتاج لمربية ..
نظر لعمق عينيها المشتعلة و هو يقول :
_ أرجوكِ هو يحتاجها و خاصة في البداية ... لا تحرميه من العالم الذي اعتاده دفعة واحدة وجودها سوف يريحه قليلاً .. لفترة فقط حتى يعتادك
_ بسببك يجب أن يعتاد ابني على وجودي !!!
_ ياسمين أرجوكِ لا تحرميني من يزن كما فعلت كونِ أفضل مني
وقف سريعاً متجاوزاً زياد .... خرج تاركاً ابنه و روحه خلفه .... فتح يزن عينيه بتكاسل ...ليحدق بوجه أمه للحظات ... ليستوي بجلسته و هو ينظر حوله .. رأى المربيه تقف بعيداً ..نادها و هو يمد يديه الصغيرتين :
_ نانا ..نانا ..تعال ..تعال
اقتربت المربية سريعاً و هي تقول له بلغة عربية متكسرة :
_ لا تقلق حبيبي انا هنا
شعرت ياسمين بنار الحزن و الغضب تتاكلها ... كيف يمكن لابنها ان يألف المربية و لا يعرفها .... اقتربت سعاد من ياسمين و همست لها :
_ لا تحزني ... سوف يعتاد على وجودك و يحبك ...
هزت ياسمين رأسها موافقة ... سلمت يزن للمربية و هي تطلب منها الدخول مع سعاد لغرفتها حتى تتحدث لزياد الذي كان يراقب الموقف من بعيد و هو يشعر بألم لم يعرفه من قبل .... ألم الحرمان من زوجته و طفل لم يبصر النور .. من عائلة يستمد منها الدفء بدلاً من الخواء الذي يجثم على صدره ...
جلس مع ياسمين و وضح لها كل الوقائع ... و اخبرها عن القضية ..لم تغضب او تنفعل بل شكرته و قدرت صنيعه ....بعد دقائق من الصمت و بعد تردد تخطته بتشجيع من زياد قالت بصوت منخفض :
_ لقد توصلت لمصدر محاولات الاخترقات التي تعاني منها الشعبة
_ ياسمين انا لم اعد موظفاً فعالاً في الشعبة
_ اعلم ...و لكن المدير الجديد سوف يحكم على ظاهر الأمر ... أرجوك اتوسل إليك أن تتحقق من الأمر .... و ان طلبت مني التبليغ عن الأمر سأفعل .... لكن بعد ان تحقق انت بالموضوع
قال زياد و الحيرة تسيطر عليه :
_ ما بالك ؟؟ لما هذا التردد بالكشف عن المصدر ....
بدأت ياسمين تطرح عليه ما تملك من معلومات و تخبره عن علاقتها بحمزة و سامر ... أطرق زياد مفكراً بتعقيدات الأمور ....لكنه كياسمين يشعر ان هناك أمراً وراء سامر و حمزة .... وعدها ان يتقصى عن الأمر .... و خاصة انه يعرف العقيد جمال و حكمه المتسرع على الأمور وسعيه لتسجل انتصار عليه في الدرجة الأولى
في غمرة نقاشهما خرج يزن مسرعاً وهو يضحك و من خلفه سعاد :
_ اعتذر عن المقاطعة لكن هذا الطفل لا يستطيع الجلوس لدقيقة في مكان واحد
ابتسم الجميع بسعادة و هم يراقبون حركاته ... اقترب من ياسمين و وضع يديه على ركبتيها وهو يقول :
_ هاد...يامن ... صورة ...يامن
حاولت تمالك دموعها و هي ترفعه ليجلس على احضانها وقد فهمت مقصده :
_ أجل انا ياسمين الموجودة في الصورة على حائط غرفتك
ضمته بحنان لم يمانعه ....أخذ يعبث بخصل شعرها سعيداً ... عندها دخل والدها المنزل .... شعرت بقلبها يتوقف عن الخفقان ... الرعب يغزو أطرافها ...لطالما رفض فكرة وجود يزن تحت رعايتها ....
نظر الى الطفل بريبة و دون ان يلقي بالسلام لزياد قال :
_ من هذا الطفل ؟؟
وقفت ياسمين سريعاً و ناولت سعاد يزن و طلبت منها الدخول به .... وقفت بمواجهة والدها و هي تقول :
_ هذا يزن أبي .... ابني و حفيدك الوحيد
نظر اليها بغضب و قال بصوت كالفحيح :
_ لا مكان له في منزلي ... اتصلي بوالده ليأخده من هنا ... لن أربي حفيد ذلك السافل المنافق
قالت ياسمين بثبات :
_ لكنه ابني ...لم لا تفهم .... ابني انا
خرجت سعاد و هي تراقب الموقف المتوتر ...قال :
_ لن يجمعني معه سقف واحد ...هل تفهمين ؟؟
قالت ياسمين و هي تحاول السيطرة على نفسها :
_ سأخرج من هذا البيت و أعيش معه بعيداً عنك
صرخ بصوتٍ هادر :
_ على جثتي ...هل تفهمين ؟؟
أسرعت سعاد إليه و هي ترجوه ليبقى يزن لكنه تجاهلها و هو يدخل الى غرفته يهدد بالبحث عن رقم حازم بين أوراقه ...
انهارت قدما ياسمين تاركة المجال لدموعها بالجريان .... جلس زياد الى جانبها و هو يمسك كفها :
_ اهدأي ياسمين .. لا تبكي الآن ... عليك ان تبقي قوية لتواجهيه
_ يجب أن أرحل من هنا ...لن أحتمل ابتعاد يزن عن حياتي ثانية ...لا ..لا
قال زياد بصوت حازم :
_ و أنا معكِ....لا تضعفي الأن
قالت و هي تحدق بعينيه من وسط دموعها و هي تفكر بحل لمشاكلها ..سعاد ....يزن ..حازم .. والدها ... عيون زياد الحزينة بعيداً عن حب حياته .. اصبحت تجيد الإطلاع على خفايا نفسه
قالت بصوت متقطع :
_ هل لازلت تريد الزواج بي .؟؟
علم زياد ان موافقتها ما هي الا حل لمشكلتها و مشكلته ... و كل ما أراده بتلك اللحظة التمسك بأي حلَ يجده و ان كان الزواج من فتاة وقفت الى جانبه في أحلك أيام حياته .... حتى و إن لم يجمعهما الحب ... حتى الأن...
عاد والدها و هو يطلق الوعيد و سعاد خلفه ترجوه ان يهدأ وقف زياد مسرعاً و هو يقول :
_ سيدي اتمنى منك ان تحدد موعد زفافي اناو ياسمين في أقرب وقت
قال و الدها و هو يضرب كفيه ببعضهما
_ هل تجد الأمر لعبة ايها العقيد ؟؟ ... ألم تطلب الزواج من ابنتي قبل ستة شهور؟؟ لم أسمع منك شيئاً منذ ذلك الوقت
_ معك حق سيدي ..لكنك تعلم ماهية الظروف التي مررت بها في الفترة الأخيرة
_ أعلم و كل البلاد تعلم ... و أنا واثق من بياض صفحتك و لا أصدق الإشاعات التي تدور حولك ... و ثق بي ..سوف يعيدونك للعمل قريباً
_ أشكر لك ثقتك سيدي
_ إذاً تقدم لابنتي بصورة رسمية و سيكون الزفاف نهاية الاسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرجت نورا من مبنى الشركة التي تعمل فيها و كما كل يوم ... يقف هناك مبتسماً بعذوبة تضرب أوتار قلبها... أراد الرحيل بعد أن أطمئن عليها ... لكنها أسرعت بالإقتراب منه .. توقف مكانه ينتظرها ...كم زاد الحجاب من جمالها و تألقها .... في وجهها رقة لم يعرفها سابقاً ... وقفت أمامه و حمرة غزت خدها لتقول بتوتر واضح :
_ كيف حالك أمجد ؟؟
أبتسم بفرح حقيقي :
_ الان أصبحت بألف خير
ابتسمت بهدوء و هي تعبث بحزام حقيبتها الجلدية .... قال أمجد و هو يطلق تنهيدة قوية:
_ الى متى يا نورا ستعذبينني ببعدك عني ؟؟ .... متى ستوافقين على الزواج بي ؟؟
تجمدت ملامحها للحظات و لكنها استجمعت شتات نفسها لتقول :
_ يجب أن أخبرك بسبب هروبي من المنزل في البداية و بعدها إن بقيت راغباً بالزواج مني .... فصدقني سأكون سعيدة للغاية
قال وهو يضع يديه في جيبه :
_ أخبرتك ان الماضي لا يعنيني
_ و لكنه جزء مني ..... كان يمكنني أن ألتزم الصمت و لكن أخشى أن يطفو الأمر على السطح من جديد ليدمر حياتنا ...
_ نورا!!!
_ فقط اسمعني و لا تقل شيئاً ... و سأتفهم اختفاءك من حياتي بعدها .. لك كل الحق بهذا ...لنجلس في الحديقة العامه أرجوك
جلست نورا على المقعد الخشبي و هي ترتب الكلمات بذهنها ... تحاول تخفيف وقع ما ستقول .... و لكن لا بد أن يتسبب الأمر بجروح و ندوب عميقه تضرب في الصميم .... نظر أمجد لفاتنته بترقب حذر ..... أختار الوقوف خشيت أن يحرجها بجلوسه الى جانبها ..يشعر بالقلق بتصاعد داخله .... يخشى أن يدمر ما ستقوله قصوراً بناها من أمال و أمنيات
أخذت نفساً عميقاً لتشحن قوتها و إصرارها على أن تكون عادله معه .... و بدأت تلقي بكلماتها المرتجفة .... نخزات تلقاها قلبه و من ثم تحولت لطعنات .... تخيل مئات الأسباب لما حدث معها في الماضي ... و لكن لم يصل بخياله لحقيقة الأمر ... انتهت من كلامها و الدموع بللت و جهها ....لم تتمكن من رفع عينيها ناحيته .... كم تشعر بالخجل و الندم يتآكلها ... و لكنها أزاحت ثقلاً كان يكتم أنفاسها شهوراً طويلة
ما إن انتهت حتى شعر أمجد بصواعق تضربه من كل حد و صوب ... أراد أن يضربها و يوبخها .... لكنه فضل الانسحاب دون أي كلمة ... تركها خلفه تراقبه يبتعد كحلم جميل حان وقت رحيله و انتهاءه ..... ركزت نظراتها عليه حتى أختفى تودعه الوداع الأخير ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي توجه زياد الى مبنى الرئاسة متبعاً الإجراءات المتعارف عليها في أوساط عالم المخابرات و الأمن .... ركب السيارة التي كانت تنتظره في المكان المتفق عليه و بعد سلوك السائق العديد من الطرق الفرعية وصل الى مبنى الرئاسه و بعد اجتياز الإجراءات الأمنية المشددة ... مشى في ساحات الرئاسة الداخلية حيث تحولت لثكنة عسكرية ...دولة مستقلة بحد ذاتها .... يتم اخضاع المنتسبين الجدد فيها لتمارين و ظروف معيشة تفوق بقسوتها تمارين الجيش و حرس الحدود و ضباط المخابرات .... يتم تهيئة النخب هنا... قليلون من يتحملون نمط المعيشة و التدريبات التي تفرض عليهم في هذا المكان ... لقد كان هنا يوماً مبتديءً... معتقداً ان ما يمر به هنا هو الاسوء في حياته ... كم كام مخطئاً باعتقاده ....
وصل للمكتب الكبير ... و بعد دقائق انتظار قليلة ..طُلب منه الدخول ليجد رئيس الدولة و القائد الأعلى لهيئة الأركان يقفان باستقباله .... أدى زياد التحية العسكرية باحترام .... قام الرئيس و القائد برد التحية ... و بعد ان تجاوز الجميع المجاملات المعتادة .... بدأ رئيس الدولة بإدارة دفة الحديث :
_ العقيد زياد ... أريدك ان تعلم أولاً بأننا على يقين بأنك لم ترتكب أي خطأ أثناء عملك في شعبة الإنتربول .... و ان الأقوال التي يتم تناقلها محض إشاعات لا مكان لها من الصحة .. و من الواجب علينا اعلان برائتك أمام الجميع
_ أشكر لك موقفك سيدي الرئيس
_ قد تتسائل لما صمتنا عن كل هذا و لم نتحرك ... لم يعد يخفى علينا بأنك مستهدف و يتم تخريب عملك .... لا يفهم أحد سبب ذلك و اتمنى ان تقف أنت على حقيقة الأمر ... و لهذا سكتنا عن الأمر حتى يظهر لخصومك انك أصبحت ضعيفاً و أن عملك قد توقف فعلاً
التزم زياد الصمت و هو يشكل صورة عن ماهية هذا اللقاء :
_ و الآن أيها العقيد الشاب حان وقت العمل ....سوف يتم تكليفك بشكلٍ سري بمهمة الاسقاط بمنظمة أكس .... يمكنك العمل بعيداً عن شعبة الإنتربول و بعيداً عن أي قيود ,المجال مفتوح امامك لتتصرف بحرية .... يمكنك ان تشكل الفريق الذي تختاره بسرية ... ويمكن ان تطلب أي مساعدة من القائد ..سيكون الإتصال بينكما مفتوحاً .... ما رأيك ؟؟
_ أليست هذه مهمة شعبة الإنتربول سيدي الرئيس ؟؟
_ لقد لمست الفساد و الأسرار التي تجذرت فيه ومن ثم هذه المنظمة تأثر على بلدنا بطريقة لا تتصورها ... يجب أن تقف الأمور عند حدها ... لقد تعرضت لمحاولة اغتيال السنة الفائتة لرفضي دفع مبلغ افتدي به نفسي ... و من قبلها قاموا بتفجير السوق التجاري تنفيذاً لمهمة من قبل أحد الجماعات التخربية التي تستهدف أمن بلادنا وقتل الكثير
أطرق زياد رأسه مفكراً بعمق بالمعطيات الجديدة .... هذه فرصته ليعمل على اساس نظيف يشكله و ينظمه كما يشاء .... قال القائد الذي التزم الصمت طوال الجلسة
_ زياد نحن نعتمد عليك .... الوطن بأكمله يعتمد عليك
وقف زياد بطريقه عسكرية و هو يقول :
_ و أنا فداء للوطن
وضع الرئيس يده على كتف زياد و هو يقول :
_ ستنجح أيها الشاب ستنجح ....و بعد هذه المهمة أريدك ان تفكر باستلام قسم المخابرات في الدولة
_ سيدي الرئيس ...لقد رفضت العمل سابقاً في قسم المخابرات ... لأنه عالم يدور مع السياسة في فلك واحد ... و السياسة عالم لا أرغب بدخوله .... لقد خسرت صديقاً بسببها ....
قال القائد بغضب :
_ أيها العقيد عليك أن تحذر مما تقول ..انت تتجاوز الحدود
قال الرئيس مسرعاً :
_ لا ..لا توقفه جرئته بالحق هي سبب اختيارنا له .... اسمع أيها الشاب .... معك حق قد نلجأ لأمور قذرة و لكن هذا عالمنا ... و الآن ركز على مهمتك ...اتمنى لك التوفيق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
وصلت باريس بعد رحلة طويلة ... اختارت الاعتكاف داخل جدران الفندق .... تقضي يومها جالسة على شرفة مطعم الفندق في أعلى طوابقه ... لم تحفل ببرودة الطقس القارصة مرتدية ملابسها الصيفية الخفيفة ... صقيع روحها جعلها عديمة التأثر بدرجة الحرارة التي لامست الصفر ... كانت الوحيدة التي اختارت الجلوس خارجاً بينما اختبىء باقي الرواد في الصالات الداخلية الدافئة يرقصون على اصوات موسيقى الفرقه الكلاسيكية
لم تلتفت لجمال نهر السين أمامها بصفحته المتلئلة و جسوره المتألقة كعروس تنتظر فارسها ليزيد من توهجها .... و لا برج ايفل الشامخ بعبق تاريخ المدينة الضبابية .... و لا لأصوات الموسيقى و الفرح و الهرج داخل القاعات التي تبدو كقطعة سرقت من فلم مولان روج ... تحدق بالفراغ ... نبض قلبها اصبح بطيئاً ... تشعر به استحال لحجر ... عيناها جامدة ... لا تعكس الحياة في داخلها ... حتى لونها انطفأ لتقارب شحوب الموتى .... شعرها الذهبي بهت ... حتى الألم توقفت عن الشعور به منذ زمن
كانت غافلة عن تلك العينان المتموجة بين الاخضر و الأزرق .... ترصدها منذ وصولها لباريس .... لم يفارقها .... حجز في نفس الفندق .... اختار الغرفة التي تلاصق غرفتها ... يجلس في الداخل بجانب الحاجز الزجاجي ...يراقبها دون كلل أو ملل ... قد يكون ابتعد عنها بالجسد ...لكنه أحاطها بالعناية ... يتابع زياراتها لدى الطبيب النفسي ..... وضع من يوصل له اخبارها التي انحصرت بزيارتها للطبيب النفسي و العودة الى المنزل ... لم يستطع الاقتراب ... بأي حق يدخلها لحياته الموسومة بالدماء و الثأر .... هو لن يتوقف عن القتل حتى لو أراد .... التزامه مع المنظمة أبدي لن ينتهي الا بموته او تصفيته ... و جروح الماضي لا تزال تنبض بصدره تحثه على السير في طريق الإنتقام ... لن يكون أفضل من حاتم .... سوف يؤذيها .... يكفيه أن يراقبها من بعيد .... يتنفس هوائها .... يحاول أن يشبع توقه لها بالنظر إليها ... و لكن أين سلام ؟؟ .... تلك جثة غادرتها الحياة .... كم يتمنى ان ينتزع قلبه ليزرعه في صدرها ...قد تعود .... وذلك البريق يعاود الاشتعال في عيني حوريته .... قد تحيا روحها الطاهرة و البريئة من جديد .... ولكن قلبه أسود مليء بالذنوب و الخطايا .... كيف يمكن أن تنبت الحياة من حجر
قام قصي بإرسال شال من الكشمير مع أحد خادمات المطعم ... وضعته على طاولتها لكنها لم تلتفت ... لم تلمسه و لم تكترث ... أراد الصراخ ضعيه على كتفيك يا عنيدة ... ستمرضين ...لكنه عض على لسانه ليسكته و عاد لمراقبة صمتها القاتل ...
نهضت سلام من مكانها لتقترب من حافة الشرفة تتطلع للفراغ ...لا يعلم قصى لما هاجمته صورتها على الجسر البحري ... خلع القبعة التي أخفت نصف وجهه و النظارات الطبية السميكة و القاها على الطاولة ليسرع اليها ..... بضع امتار تفصله عنها ...كم يخشى الإقتراب ... أخذ نفساً عميقاً ... تقدم حتى اصبح بجانبها ...
قال بصوته الواثق العميق:
_ انتِ لا تخططين للقفز من هنا حوريتي
تجمدت حواسها للحظة على وقع هذا الصوت .. نظرت إليه للحظة و من ثم عادت لتحدق بلا شيء ... لم يكن اللقاء الذي تخيله طوال الشهور الفائتة .... استند على الحافة بذراعيه محدقاً بنهر السين و قد أعلنت الشمس وقت الرحيل ...بحث عن كلمات يكسر فيها الجمود الذي أعلن حضوره بفظاظة ..لكن الصمت وقتها أبلغ من الكلمات الجوفاء ... أغمض عينيه للحظات و قرار أن يثرثر بلا توقف حتى تستجيب له :
_ سلام ....أعلم أني اختفيت ....
_ ارحل ....
قالتها ببرود و جمود ..لكنها تكلمت
_ سلام ...
_ ارحل
_ أرجوكِ أن تسمعيني ...اعتقدت أنه من الأفضل ...
_ ارحل ...
أصبحت تردد الكلمة ارحل برتابة مخيفة ... لم تهتم به و لم تعر كلماته اهتماماً ....
تنفس قصي بعمق ..توجه الى طاولتها...أمسك شال الكشمير وضعه على كتفها و أبقى يده على كتفيها لثانية....أراد أن يبقى ... أن يضمها لصدره حتى لو ملئت الدنيا صراخاً لكنه انسحب ... أراد أن يمنحها المساحة التي تطلبها لو علم تأثير لمسته عليها ...لما أبتعد .... لقد تسارع نبضها قليلاً .... شعرت بقلبها يخفق بهمس خفيف ... و هذه نسمة باردة تلفح وجهها ... لكنها رفضت هذه الأحاسيس ... اللاشعور .... فن اتقنته و هربت اليه ... لم تعد تتحمل الألم ...
وقف قصي يطالعها من خلال الحاجز الزجاجي و الهواء يطير خصل شعرها .... رأى يديها ترتفعان لتحكم الشال على كتفيها .... ارتفع صوت الموسيقى في الصالة .... التفتت سلام تراقب بصمت الواقف هناك ...يحرسها بعينيه... لقد بحثت عنه بين نغمات كمانٍ عزف نغماً رفعها حدَ السماء ...حاولت ان تعيد قراءته بين أبيات شعرٍ جارفات .... هربت إليه بأشد لحظات حياتها سواداً حتى تنجو ... لكنه اختفى كما بخار الماء .... طلبت منه عدم الجرح و الإيذاء ..لكنه قتل الرمق الأخير من روحها بانسحابه الصامت .... لم يلقي إليها بكلمة وداع ...
مع أفكارها عادت القساوة تغزوها... تركت الشال ليسقط كما كل أمالها في الحياة .... حتى هو لم تعد تراه .... و صوت الموسيقى قد أختفى .... عادت لعالمها حبيسة .... للفراغ صرفت أنظارها
حمل الكمان بين يديه .... لقد علم أن أنغامه في تلك المرة أسرتها .... يعلم أنه سيلمس قلبها .... مهما تنكرت بزي القسوة ... سلام في داخلها تبحث عن مخرج .... بدأت المقطوعة هادئة ... لم تلتفت إليه .... و رويداً رويداً بدأت الألحان بالإرتفاع ....و مع انغامه ارتفعت دقات قلبها ... هذه المرة تشعر بنبضهِ قوياً ..وضعت يدها على صدرها تحث قلبها على التوقف ... تسارعت انفاسها .... و مع اقتراب صوت الموسيقى ... بدأت تشعر بدموعها تتجمع في عينيها ... و البرد ينخر عظامها .... التفت الى ذلك المجنون و هو يعزف لحنه محدقاً بها ... و هو يحرك جسده على ألحانه كما لو كان يشاركها رقصة ألمها .... أخذ يقترب و يقترب .... حتى أصبحت أسيرة نظراته ...حاولت الهروب و لكنه لم يسمح لها .... كيف يمكن له أن يحبسها في مداه ... كيف تمكن من إيقاظ مشاعر طمرتها ... كانت عيناه تنطق بالكثير .... أنا هنا..لا تخافي ....أنت بخير ...لن أترككِ... انت لي .. أنا لكِ .... في القلب مكانك ... سامحيني
ما أن وصل للنهاية حتى كانت الدموع قد غمرتها و الألم أطبق على صدرها .... لمست و جهها بأصابعها المرتجفة ... دموعها !!.... كم مر من وقت و لم تسمح لها بفضح مشاعرها ... نظرت الى قصي .... و أسرعت بالهروب من أمامه ... دخلت الى المصعد سريعاً تحاول دفن كل شيء .... لا تريد ان تشعر بشيء .... دخل قصي خلفها ... قالت دون أن تنظر إليه :
_ ارحل أرجوك .... ارحل
قالتها بصوت متخاذل يعاكس رغبتها الحقيقية .... ما إن توقف المصعد بطابقها أسرعت لغرفتها و هي تخرج المفتاح ... و بأصابع مرتجفة حاولت أن تدخله بثقب الباب .... لكنها عجزت عن ذلك .... وقف قصي خلفها .... يرقبها و يبكي قلبه على حالها ... التفتت إليه و قد تملكها الغضب دون أن تتمكن من إيقاف سيل الدموع الذي تفجر ... صرخت دون أن تبالي بارتفاع صوتها
_ ما الذي تريده مني ... اتركني و شأني .... لقد رحلت و تركتني .... ما الذي تريده مني ؟؟
التزم الصمت و هو ينظر إليها بإصرار استفزها ... أرادت صفعه ..رفعت يدها لكنه أمسك بيدها قبل أن تصل وجهه ..رفعت الثانية ... لكنه ثبتها بمنتصف الطريق ... و لكنه لم يقطع التواصل مع عينيها .... ارتفع صوت شهقاتها و بكائها ... بدأت الكلمات تخرج منها متقطعة و مختنقة و هي معلقة بين يديه ترتجف و تبحث في عينيه عن مخرج :
_ الألم .... يقتلني ... أنا .... الألم لا يفارقني ..... صدري ....يؤلمني .... دعه يتوقف .... لا أستطيع ... قل له أن يتوقف .... أشعر بالبرد .... البرد
انهارت قدميها بضعف .... أسرع يتلقاها بين ذراعيه ... خشي من رد فعلها و لكنها تمسكت به تفرغ ما كانت تكبته منذ شهور و هي تهمس بكلمات ضعيفة لم يلتقطها كلها و لكن ما قالته قبل أن تغيب عن الوعي من شدة التعب والانهاك جعله يقسم بأن لا يتركها حتى و لو طلبت منه الرحيل
_ لا ترحل .... لا ترحل .... أحتاجك
رفعها و أدخلها لغرفتها و ضعها بهدوء على سريرها لكنها بدون وعي منها تمسكت به أكثر ... جلس على المقعد و هو يحملها كطفلة صغيرة يراقبها و يخشى أن يطرف بعينيه للحظة منذ اليوم ...لن يتركها
عبثت أشعة الشمس بعيونها الشاحبة ... بتكاسل رفعت جفنيها... لم تشأ النهوض .... تشعر بدفء غريب افتقدته منذ زمن... صور الليلة الماضية تتراقص أمامها بعذوبتها و مرارتها ... تحاول فصل الحقيقة عن الخيال ... هل كان هنا حقاً ؟ ... هل عاد ليعزف على أوتار قلبها لحنه الذي يعلن بهِ تملكها ؟؟ يأسرها في عينيه الغريبتين ؟ أم أن كل هذه الذكريات .... ما هي إلا صور نسجها خيالها لتهرب من برود روحها و فراغ صدرها و جمود قلبها
جلست في موضعها.... ضمت قدميها لصدرها .... حدقت بضياع لصورتها المنعكسة على المرآة أمامها ... هذه الإنسانة لا تعرفها .... هذه غزت جسدها و طردت روحها ... لتبقى هائمة في الفراغ تصارع عواصف تطيرها كورقة شجر يابسة ....هل تعرف عليها حقاً ..؟؟ هي لا تعرف نفسها .... مالذي راه فيها حتى يلقي عليها بتعويذة مشاعر لا تفهمها .... ما الذي يريده منها ذلك المجنون ؟؟ لما عاد الآن ؟؟ لا يمكن أن تكون كافية له أو لغيره ..ما هي إلى بقايا انسانة محطمة استحالت لأشلاء ... ليس بمقدرتها أن تدخل أي رجل الى حياتها و إن كان هو ... عادت لتغرق نفسها بظلامها الخاص ... أسندت رأسها الى ركبتيها و أغلقت عينها ...
أجفلها صوت انفتاح الباب .... دخل حاملاً الكثير من أكياس التسوق ... ابتسم بعذوبة أربكتها ... أبقى على الباب مفتوحاً ... أخذت تطرف بجفنيها سريعاً لتستفيق مما ظنته حلماً ... قال و هو يخرج مجموعة من الثياب الشتوية الأخاذة من الاكياس :
_ أخيراً استيقظتي حوريتي .... يبدو أنك لم تنامي منذ دهور
نظرت الى الساعة لتجد أن الوقت قد تجاوز الظهيرة بكثير
_ يا الله ...لقد نمت كل هذا الوقت أنا لم ....
صمتت و هي تنظر الى أكوام الثياب التي تكدست على السرير ....قالت باستنكار واضح :
_ ما الذي تفعله ...ما كل هذا .؟؟
قال و هو يخرج معطفاً شتوياً خمري اللون .. بقصة أنيقة ....مع قبعة صوفية تطابق لون المعطف :
_ ملابسك خفيفة لا تناسب أجواء باريس الباردة .... هيا يجب أن ننطلق استعدي ... سوف نغادر ... أمامنا الكثير من الأماكن التي تنتظر قدومنا ...
هزت سلام رأسها رافضة و هي تقول :
_ اعد هذه الثياب الى مكانها ..لا أريد منك أي شيء... لن أغادر هذا الفندق إلا الى المطار
القى قصى بالثياب من يديه جالساً على أحد المقاعد و هو يقول ببرود :
_ حسناً يا سلام لنبقى حبيسين في هذه الغرفة
نظرت إليه بتوتر فهي بالكاد تستطيع التنفس و هو معها في نفس الغرفة
_ أرجوك أن تخرج من هنا .. هذه غرفتي
قال و هو يضرب يد المقعد بيده :
_ لن أتحرك من هنا حوريتي
قالت بجمود و هي تواجهه :
_ ما الذي تريده قصي ؟؟
انحنى الى الامام .... و هو يحدق بعينيها الخاوية يبحث عن تلك الصبية الجذابة بهدوئها ... صاحبة العيون البراقة ... بنظرة سحرته و جعلته صريع هواها:
_ لاشيء يا سلام ... فقط أريد أن تكوني بخير
ابتسمت بألم و هي تضحك ضحكة مكلومة طعنته في الصميم ....عادت لتنهار على حافة السرير و هي تصارع صور الماضي:
_ بخير ؟؟؟ لا مكان لهذه الكلمة في حياتي .. فقدتها منذ أن لوث ذلك الحقير حياتي .... سلبني روحي و جسدي و ...
أسرع قصي اليها يريد ان يسكتها ..جلس على ركبتيه امامها ... لن يتحمل سماعها تتحدث عن ذلك الوغد .. لقد رأى بعينه ما حصل .... صورتها و هي تشد الغطاء على جسدها ... علامات يديه موسومة على كتفيها ... اللون الأزرق يغطي رقبتها ... كلها صور لا تزال جاثمة على صدره.. قال متوسلاً :
_ سلام .... أعلم أن ألمك كبير و جرحك عميق ... لقد سقطتي بقوة ... و الكثير فيك ِقد كسر .... و لكن الآن يجب أن تنهضي .... حياة كاملة بانتظارك ... و ها أنا هنا أتوسل إليكِ أن تسمحي لي بمساعدتك على النهوض
نظرت اليه بجمود :
_ لقد رحلت ..فقط رحلت ... كان يمكنك ان تودعني بدل أن تلقيني كبضاعة تالفة لا قيمة لها ....
اشتعلت النيران بعينيه تهدد بحرق كل ما يحيطها ..قال بصوتٍ مزج الغضب و الألم:
_ القيكِ !!! بضاعة تالفة!!! هذا ما صوره لك عقلك و قلبكِ ... لقد هربتُ سلام ..هربت خوفاً عليكِ من نيران غضبي و جنوني ... لم اتحمل أن أراكِ بهذه الحال .. أحبكِ يا مجنونة ...أنا أحبكِ ....و حبك يؤلمني و يقتلني .. لهذا هربت ...لكن ..لكن .. لم اتمكن من البقاء بعيداً ... لقد ارتبط وجودي بكِ انتِ ....أصبح بعدكِ عني أمراً مستحيلاً
أمتلئت عينا سلام بالدموع حتى فاضت .... أغرقت وجهها بين كفيها تستحضر كل أحزانها و ألمها ... كم تمنى ان يضمها لصدرهِ .... أراد أن يهدهدها كما فعل البارحة بين أحضانه و لكن معها كل حركاته يجب أن تكون محسوبة ...كم يخشى أن يكون سبباً لخوفها .... ان يبعدها عنه بدل ان يقربها ....تركها تبكي حتى هدأت
رفعت وجهها و هي تمسح دموعها تنظر إليهِ .... و رغم دموع الألم التي غشت عينيها ... لكنه لمح بريق حياة خجول يخشى الظهور .... لقد بدأت طريق عودتها ... نظرت لعينيه المطمئنة و ابتسمت بتوتر و هي تبعد نظرها عنه.... كم لمست قلبه بتلك الابتسامة .... وضع يده على كفها المستكينة الى جانبها ... سرت رعشة قوية أوصالها ...شعر بها و لكنه لم يتركها بل زاد من قوة احتضانهِ لكفها ...
_ أرجوكِ سلام دعينا نخرج ... لمكان واحد فقط .... واحد فقط .... و إن كنت على ما يرام سوف نكمل جولتنا ... و إن شعرت بالإضطراب سنعود للفندق فوراً اتفقنا ....؟؟
هزت رأسها موافقة و هي تحاول جاهدة لتسيطر على تلك الرعشة التي غزتها ... وقف قصي و هو يتجه الى الباب قائلاً :
_ سأنتظرك في الخارج ....
أغلق الباب خلفه .... لتتحول ملامح وجهه الهادئة الى تقاسيم تبث الرعب في النفس ... لكم الحائط أمامه بغضب و هو يشد على أسنانِه .... هامساً بصوتٍ مخيف:
_ ما كان يجب أن أقتلك أيها الوغد .... فموتك ألف مرة لن يطفيء النار في صدري ... كان يجب أن أبقيك حياً ... لكنت أذقتك من صنوف العذاب التي يبدو الموت امامها مهرباً جميلاً ...
أغمض عينيه بقوة لترتسم عيون سلام المنكسرة الهائمة الضائعة أمامه ... كم تشبه عيني أمه الراحلة .... في كل ليلة .... عندما كانت تندس الى جانبه في الفراش تبكي حالها بعد ان سلمت نفسها لقاتل جديد يلقي لها ببضع حفنات مقابل أن تترك له حرية نهش لحمها ... نفس العيون ... نفس الألم ... نفس الإنكسار .... نفس الضياع ... محاولة سلام الانتحار تطرق رأسه بعنف يكاد يفجره .. هل يعقل ان تعاود المحاولة ؟؟؟ هل سيفقدها كما فقد أمه ؟؟ ... حاتم و طارق .... كم يتمنى أن يغرقهما في عذاب أبدي لا نهاية له .... إن كان حاتم قد مات .... فالثاني لازال حياً ...
جاء صوتها الهامس باسمه ساحباً إياه من عالمه الأسود .... عاد الى نورها .... خفق قلبه باضطراب .... كان يراها فاتنة بلباسها البسيط ... لكنها الآن و مع ذلك المعطف الخمري اللون و رغم شحوبها تبدو ساحرة .. جذاية ... قلبه يخفق لها منادياً أسمها .... لا يمكن أن بحيد بنظرهِ عنها مهما حاول....
كانت تتمسك بالقبعة الصوفية تفرغ فيها شحنات توترها و خوفها .... سحب القبعة من يدها ... وضعها على رأسها و هو يحدق بمقلتيها المرتعشة ....قال وهو يبقي يديه فوق قبعتها :
_ كم تبدين جميلة يا حوريتي .... لو تعلمين ما تفعلين بقلبي و روحي
تراجعت سلام خطوة الى الخلف و هي تضم نفسها و تنظر أرضاً .. ندم قصي على تعليقه التلقائي ... معها غير مسموح بالقفزات يجب ان يتقدم نحوها خطوة خطوة... اسرع الى المصعد يسبقها و هي تلحق به بخطوات مضطربة قائلاً :
_ المكان الذي نريده قريب لن نحتاج للسيارة
هزت رأسها موافقة ...سارت الى جانبه في شوارع باريس ....تركز نظرها على قدميها ... ترفض النظر حولها ... إن مر أحدهم الى جانبها انكمشت على نفسها باضطراب واضح .... زادت نيران قلب قصي اشتعالاً .... في كل لحظة يكتشف مقدار الضرر الذي اصابها .... أمسك كفها و رغم محاولتها سحب يدها لكنه رفض تركها ....استكانت و هي تقترب منه أكثر مع مرور فوج سياحي الى جانبها تعلو أصواتهم بضحكات و انفعالات أصبحت غريبة عنها ..... أحاط كتفها يقربها لصدره هامساً لها :
_ انا معكِ .... لا تخافي
رفعت بصرها اليه .... تركته يقودها على الطريق ... كل الضوضاء حولها اختفت ... لم يعد هناك احد في هذا العالم سواه .... الأمان يحيطها .... لا تمانع لمساته .... الدفء يتسلل لنفسها ...
وقف قصى على أحد جسور نهر السين .... يتطلع الى النهر بصفيحته الرقراقة... سلام أغمضت عينيها سامحة للهواء النقي بالدخول لرئتيها و هي تغرق بدفء قربه أكثر و أكثر ... فتحت عينيها على وقع صوته العذب :
_ أسمعت قبلاً بجسر الفنون حوريتي ؟؟
هزت رأسها نافية ... قال و هو يحررها من ذراعيه ... مخرجاً قفلاً فضياً من جيبه .... نُقش عليه اسميهما باللغة العربية .... سلام و قصي .... وقلب صغير يتوسطهما
قال مستطرداً و هو يغرق في عينيها أكثر :
_ هنا .... حيث نقف ... هذا جسر الفنون .... منذ أعوام و قد اتخذه العشاق مكاناً لهم .... حتى يأكدوا على أبدية حبهم و ارتباط مصائرهم ...
انحنى قليلاً و هو يفتح القفل و يثبته بين الأقفال المنتشرة على شرفات الجسر دون أن يقفله ... انحت سلام تنظر الى القفل .... نظر قصى إليها و هو يترك القفل مفتوحاً ...
_ كل عاشقين ينقشان اسميهما على قفل يثبت على هذا الجسر ... حتى يبقى حبهما أبدي مع انغلاق القفل
نظرت إليه سلام بحيرة .... ابتسم قصي لنظراتها التائهة .. قال بصوته الأجش الناعم و الآسر :
_ سلام ... أريد أن أرتبط بكِ حتى يوم موتي .... أريدكِ زوجتي و حبيبتي و مليكتي ... أريد أن أكون لك السند و الأمان و الحياة ...أحبكِ .... لا حياة لي من دونك
تسارعت أنفاس سلام و اضطرب قلبها ... انهارت قدميها تماماً على أرض الجسر .. هربت بنظراتها منه و هي تحدق بالقوارب التي تقطع النهر بين ضفتيه ... قال قصي و هو لا يحيد بنظره عنها جالساً الى جانبها :
_ سلام ....أرجوكِ أن تقبلي الزواج بي ... لن أحتمل البعد عنك أكثر ...لقد ارتبطت روحي بكِ أنتِ ....لا تفطري قلبي و تقتلي روحي ...أنتِ أملي الأخير في الحياة
نظرت إليه و هي تذرف دموعها سريعاً قائلة بصوت مرتجف :
_ لا .... لا أستطيع ...صدقني ....
قبض على كفها و هو يقول بصوتٍ مرتجف :
_ لماذا ؟؟
قال سلام سريعاً و هي تزداد اضطراباً :
_ لأنني لا أصلح لك أو لغيرك ... لا يمكنني السير وحيدة بالشوارع .... الكوابيس تطاردني كل ليلة ... ذكرى تلك الليلة لا تنجلي أبداً... لازلت أشعر بلمساته و أنفاسه .... أكره نفسي و جسدي ... و لا يمكن ان أعيش معك كما يجب للزوجة ان تكون ... لن أحتمل ان تقترب مني ب.... بتلك ....
غطت فمها و هي تحاول كتم شهقاتها و لوعاتها ... ضم قصى وجهها بين يديه و هو يقول بصوتٍ يحجب احتراقه و ألمه :
_ انت محقة بشيء واحد ... أنك لا تصلحين لغيري ... .أنتِ لي ... ملكي أنا فقط ... قدرنا واحد .. سأكون معكِ خطوة بخطوة .... سأرافقك الى كل مكان تريدين الذهاب إليهِ حتى تعلنين قدرتك على الخروج و حيدة ... تلك الليلة اللعينة سوف تختفي رويداً رويداً لتحل مكانها ذكريات جميلة تجمعنا .. . أعلم ان الأمر لن يكون سهلاً ... و تلك الكوابيس سأسهر الليل أحرسك منها حتى ترحل نهائياً .. أحبك سلام و لا أسمح لك بكره نفسك و جسدك ....لأنك تملكين نفساً ملائكية طاهرة و جسداً بريئاً يعكس جمال نفسك .. أما عن العلاقة الجسدية ... فأنا لن أكذب و أقول بانني لا أرغب بالاتحاد معك بكل شيء... و لكن ليس جسدك هدفي بزواجي منكِ ... سوف انتظركِ حتى و ان استغرقني الأمر سنوات طويلة ..لأنني أعلم أنك سوف تأتين إلي مستسلمة ... عاشقة ... هائمة ... و اعلمي يا سلام ... بأني أحتاجك أكثر مما تتصوري ... أنا أحتاجكِ
استمعت الى كلماته و قلبها يخفق بقوة .... ما باله يشدها إليه بسهولة ... لم تريد ان تلقي بكل همومها و أحمالها عليه ... ما ذنبه ؟؟ .... أليس من الأنانية أن توافق على هكذا وضع ؟؟ هو يستحق الأفضل ؟؟ لكن لما تبقى الطرف الذي يفكر بغيره دائماً .... لما تبتعد عن الشخص الوحيد الذي يشعرها بطعم الحياة.... منذ شهور و هي تعيش بالخواء و قد جاء هو .... يشعر بالألم و الأمل ..... بالحزن و شعاع من فرح .... انها تشعر بشيء جديد ينمو بداخلها و يزهر .... هل سيكون لقلبها أمل بحب يمحي الألم ؟؟
نظرت الى عينيه المتعلقة بها برجاء و أمل و حب... لا تريده أن يبتعد ... تريده سكنها و ملاذها .... مدت يدها المرتجفة الى القفل المفتوح .. أغلقته ..... لتعلن أبدية علاقتها مع قصى و .... أشباحه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطع زياد الشوارع بسيارته و هو يسترجع كل لحظة من ذلك اللقاء الذي ما كان له ان يتخيلهُ و لو بعد ألف عام .... طلبت منه ريتاج أن تلقاه في مكتبها بساعة متأخرةٍ جداً ... استغرب الأمر .... لكن ظنونه قادتهُ جديداً للإعتقاد بأنه أمر يتعلق بفراس ... منذ أن فك شيفرة القائمة التي استلمها منها و هو يحاول الربط بين الأسماء الموجودة في القائمة ... معلومات دقيقة عن كل اسم .... عناوين .. ارقام حسابات ... معلومات شخصية ... نقاط ضعف ... لكنه لم يتمكن من الربط بين هذه الأسماء بأي شكل ...
دخل مكتب ريتاج ليجده واقفاً امام الشباك بهالة نقية يمتاز بها أمثاله فقط ... أسرعت ريتاج لتقدمهما لبعضهما ... لكن زياد قاطعها و هو يقول مصافحاً علي بحرارة :
_ لقد أثرت جنون جنود الإحتلال عندما اكتشفوا اختفائك من منزلك دون أثر.... سعيد بلقائك وجهاً لوجه .
ابتسم علي لموقفه الغير متوقع و هو يقول ممازحاً :
_ إذاً لن تسلمني للسلطات لإعادتي الى الأسر
قال زياد بحزم :
_ أفديك بروحي يا علي أنت بطل تحارب العدو في الصفوف الأولى ... من انا لأسلمك لهم ...
ربت علي على كتف زياد و هو يقول :
_ أشعر بأني أتحدث لصديق قديم اشتقت لتواجده
_ يشرفني أن أكون صديقك يا بطل
_ و مما سمعته عنك من ريتاج فأنت بطل أيضاً ....
قاطعتهما ريتاج و هي تنظر لعلي قائلة :
_ الوقت يا سادة ... سوف أترك لكما حرية الحديث ... سأنتظر بالخارج
جلس الرجلان بمواجهة بعضهما ... بدأ علي بالشرح لزياد عن طبيعة منظمة شباب بلا حدود التي يعمل بها هو و فراس دون أي مقدمات ...
_ و كما قلت لك .... فراس كان نقطة الربط لجمع المعلومات و قد أحسن عملاً .... لكن خسارة القائمة ستكون فادحة و سوف تنسف عمل شهور طويلة لعشرات الأشخاص.... و لأصدقك القول عندما أخبرتني ريتاج بانها سلمتك القائمة ...شعرت بالرعب ... لكن و بعد مقابلتك .. عرفت انها عملت صالحاً ...
نظر إليه زياد يبحث عن جواب حاسم :
_ هل تعلم شيئاً عن هذه المعلومات التي تتواجد بالقائمة ....
_ فقط ما أوصلته له بنفسي ... لقد أوصلت له معلومات عن الجينرال صهيوني شمعون ...
قال زياد و هو يركز على كل حرف في كلماته :
_ هي عبارة عن أسماء أناس كبار ... سياسين .... اعلاميين .. اقتصاديين ...رياضين .... لكن لم أجد أي رابط يمكن أن يجمعهم
نظر إليه علي بدهشة و إعجاب :
_ لقد فككت الشيفرة !!! ... انها شفرة معقدة للغاية ظننت أننا سوف نهدر شهوراً و نحن نحاول حلها
أطرق زياد مفكراً و من ثم رفع رأسه و هو يقول :
_ اسمعني يا علي ... أنت شخص يمكن أن أضع روحي بين يديه مطمئناً و واثقاً ... و ان أردت سوف أسلمك القائمة مع حلها دون أن أسئلك عن شيء ... لكن ... أتمنى ان تخبرني بحقيقة الأمر ... أشعر بأن الأمر خطير و يمكنني المساعدة ... يمكنك أن تثق بي
قال علي لزياد مسرعاً :
_ بالطبع أثق بك .... و لكن قد أورط أشخاصاً معي بذكر أسمائهم و وضعهم على حافة الخطر
_ ما دمت تثق بهم ..فهم محل للثقة عندي
أسند علي وجهه على كفه هو يقلب الأمر من كل الجهات :
_ حسناً أيها المقدم سأكشف أوراقي أمامك كاملة .... هذه الأسماء هي لرؤساء الصف الثالث في المنظمة أكس .... و هم برتبطون بمدراء الصف الثاني ... والذين بدورهم يرتبطون بالمدير الأكبر للمنظمة ....
زياد الذي يجيد إخفاء انفعالات نفسه لم يستطع إلجام دهشته هذه المرة و هو يقول:
_ أنت تتحدث عن شخصيات عامة و منهم من هو معروف بنظافة سيرته و كبير انجازاته
قال علي بسرعة :
_ لا تثق بظواهر الأمور ... و كما رأيت أمام كل اسم معلومات خاصة به ... كان من المخطط الوصول لاحد هذه الشخصيات و اقتحام عالمه و من ثم يمكن ان نصل لأحد مدراء الصف الثاني و من ثم الوصول للمدير الأكبر
نهض زياد و هو يخرج علبة دخانه .... ليحرق عقباً و هو يقول :
_ إن ما تقوله صعب التنفيذ
_ اعلم سيدي العقيد و لكن نحن نعمل ببطء و هدوء .... نريد ان نصل لنتيجة حتى لو كانت متأخرة ...
_ أخبرني علي .... هل كنتم تخترقون اتصالات شعبة الانتربول ؟؟
صمت علي و هو يعض على شفته معلناً أنه مذنب ...قال زياد و هو يبتسم بهفوت:
_ هل يعمل حمزة و سامر معك ؟؟؟
ضحك علي مضطرباً :
_ و هل يمكن ان أكذب عليك ... لقد أصبح الأمر كله بين يديك ... كان من المفترض أن يسلم فراس هذه المعلومات لهما بالتحديد
افترق الرجلان بالاتفاق على بقاء علي في البلاد لفترة قصيرة خوفاً من ان يحتاجه زياد بأي أمر.... توجه زياد للقائهِ الثاني .... أوقف سيارته أمام شركة الأماني للإتصالات طالباً مقابلة المدرين سامر و حمزة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دخل سامر لمكتب سعاد الغارقة بالعمل .... رفعت رأسها و منحته ابتسامة جعلت نيته بالعراك تتلاشى قليلاً .... أغلق الباب و استند عليه و هو يقول :
_ سوف تتزوج ياسمين بعد ايام ...
أخذت سعاد نفساً عميقاً و هي تفكر بحال اختها :
_ فعلاً سوف تتزوج من زياد حتى تحمي يزن من أبي و من حازم
_ ستكون بخير .... اطمئني
هزت سعاد رأسها موافقة ... بينما بقي سامر يحدق بها بطريقة غريبة أثارت توترها .. قالت بتوجس :
_ ما بالك سامر تنظر إلي هكذا ؟؟
قال بشكل مباشر كما لو كان يريد ان يلقي بثقل الأمر عن صدره سريعاً:
_ لقد قابلت والدك منذ فترة و هو لا يعارض زواجنا و قد اقترح أن نعلن خطوبتنا و نكتب الكتاب في يوم زفاف ياسمين
وقفت سعاد تضرب المكتب امامها و قد أطل الرعب من عينيها :
_ كيف تتصرف من وراءِ ظهري هكذا .. تريد ان تفرض الأمر علي
اقترب سامر منها ببطء و هو يرصد ذلك الرعب في عينيها و صوتها :
_ سعاد !!! ما الأمر ؟؟ ما الذي يبعدك عني ... ليست ياسمين السبب الوحيد .. هناك أمر تخفينه .... يثير الخوف في نفسي .. تقربيني منك خطوة و تبعدينني عشر .. إن كنت خسرت حبك فقط ...
قاطعته سعاد و هي تقلص المسافة بينهما حتى أصبحت بمواجهته :
_ لا يا سامر ..لا ....يمكنك ان تشك بكل شيء باستثناء حبي لك
قال سامر بغضب و هو يطبق على كتفيها بقوة :
_ إذاً ما الأمر ....؟؟ تكلمي سعاد ؟؟ انا أحترق من الداخل
حدقت سعاد بصدره الذي يعلو و يهبط سريعاً ... و من ثم استدارت تبتعد عنه لتجلس على أقرب مقعد ... قالت بصوت مرتجف :
_ قبل ستة سنوات تعرضت لحادث سير مرعب ....و على إثره دخلت المستشفى لفترة طويلة حتى شفيت من الكسور و الرضوض و الحروق
جلس سامر أمامها و هو يحاول السيطرة على خوفه و اضطرابه كما لو أن الحادث قد وقع الآن أمامه
تابعت سعاد الكلام باكية ... تتهرب من نظراته :
_ بحمد الله معظم الإصابات قد شفيتُ منها و أصبحت كل أموري طبيعية باستثناء الحرق الذي تعرضت له في ظهري ... لازالت أثاره موجودة و هناك مناطق لازالت تحمل ندوباً بشعة ..خشنة
أغمض سامر عينيه و هو يهز رأسه قائلاً :
_ لكنكِ بخير ... أنتِ بخير
هزت رأسها موافقة من وسط دموعها
أخرج سامر نفسا ساخناً و هو ينظر إليه بغضب
_سعاد أرغب الآن بقتلك .... هل جننتي ؟؟ اتظنين ان أمراً كهذا سيأثر على مشاعري تجاهك ...
وقف و هو يتكيء على الحائط محاولاً السيطرة على غضبه .. بينما وقفت سعاد خلفه تشعر بالندم على تفكيرها السطحي اقتربت منه لتضع يدها على كتفه و لكنه أبعدها عنه ...
_ سامر أرجوك ..أنا آسفة ..آسفة حقاً .. كان يجب ان أخبرك عن الأمر مبكراً بدلاً من تركه يخيفني هكذا
أراد سامر الخروج قبل أن ينفجر غضبه أكثر ...لكنها وقفت بينه و بين الباب و هي تتوسله بعينيها
_ سعاد ابتعدي لا أريد أن أنفجر غاضباً بوجهك
بقيت سعاد واقفة دون ان تطرف بجفنيها تمنعه من الخروج
_ سعاد!!!!
قالت سعاد و هي تتقدم نحوه :
_ لن تخرج من هنا غاضباً
حاصرها سامر بين ذراعيه و هو يستند على الباب ينظر إليها بطريقة لم تعرفها قبلاً
_ لقد جنيتي على نفسك
أخذ يقترب من شفتيها ببطء حاولت الفرار من السجن الذي حاصرها فيه لكنه لم يسمح لها بذلك :
_ توقف يا سامر هل جننت !!!
تجاهل اعتراضاتها و هو يقترب أكثر و أكثر... ضربته سعاد على صدره و هي تبكي:
_ توقف ...توقف أنت تخيفني ...
وصل لشفتيها رفع عينيه محدقاً بها .... قال بهمس :
_ بعد ثلاث أيام ...سوف تكون خطوبتنا وكتب كتابنا و الزفاف لن يتأخر أكثر من شهر واحد ..اتفقنا سعاد ؟؟
هزت رأسها سريعاً بالموافقة ليبتعد عنها و هو يطلق نفسه ساخناً ملتهباً ..بينما اخذت سعاد تبكي بألم مما فعله ... لم تتوقع منه هكذا تصرف .. أغلقت عينيها بقوة و هي تحاول السيطرة على نفسها و ارتجافها
ارتفع صوت هاتف المكتب .... أسرعت إليه و هي تحاول جاهدة السيطرة على صوتها
_ نعم ...نعم هو هنا ...سأخبره .... الى اللقاء... حمزة يقول أن هناك شخصاً ينتظرك بمكتبه
اقترب منها حتى وقف أمامها و هي تتجنب النظر إليه
_ أنتِ غاضبة مني ؟؟
لم تجبه و هي تقطب جبينها بغضب طفولي
_ لا تحزني أميرتي .... لم أعد أطيق صبراً .... أريدك في بيتي الان قبل غداً ... و انت تزرعين الخوف في نفسي .... لقد تحملت البعد سنين طويلة اعذريني ..أنا أحبك
قالت و هي تبتعد عنه :
_ اذهب الى حمزة يبدو الأمر مهماً
_ سوف أذهب و سوف أراضيكِ في يوم خطبتنا بطريقةٍ لم تعرفيها قبلاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يشعر حمزة بالتوتر كما يشعر به في هذه اللحظات .... العقيد زياد يجلس بمكتبه خالي التعابير ... ينظر إليهِ بشكل مباشر كما لو كان يقول له ...
_ أعلم ما تفعله ... لقد وقعت .... حان وقت العقاب
دخل سامر لتتجمد تعابيره للحظات .... و قف زياد و هو يقول مبتسماً :
_ كان يجب ان أحضر لأتعرف على صهري قبل موعد كتب الكتاب المشترك
قال سامر و هو يحاول ان يكسر اضطرابه :
_ الشرف لي ... لقد كان اقتراحاً من عمي .... إن كان ذلك يضايقك فلا مانع عندي من ..
قاطعه زياد و هو يقول :
_ لا ..لا بالطبع ... سوف تكون الفرحة مضاعفة ... لكن هناك مشكلة من نوع مختلف
تبادل حمزة و سامر النظرات سريعاً و هما يحبسان أنفاسهما ..تابع زياد قائلاً :
_ العريس قد يكون في سجون أمن الدولة ... ينتظر المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى و التخابر مع جهات أجنبية و التجسس... و من المعروف أن الحكم بهكذا حالات ....
قطع جملته و هو يشير الى رقبته بحركة الذبح ...ابتلع سامر ريقه بصعوبة كما لو أن الحبل قد شد على عنقه ... تجمدت عيناه كما حمزة يرصدان تحركات زياد ... الذي بدأ يتفحص الغرفة بعينٍ ثاقبة ...قال و هو يضع يديه في جيب بنطاله الأسود:
_ هذه الغرفة رائعة ... عوازل للصوت .... خالية من أي وسيلة اتصالات قديمة أو حديثة .... حتى انها خالية من وصلات للتلفاز... غرفة صماء ... أراهن انكما لا تدخلان هواتفكما الخليوية الى هنا ... و لكنكما رغم ذلك زرعتما أجهزة للتشويش ... لا يمكن لمخلوق أن يعلم ما يدور بهذه الغرفة ... مذهل....
قال حمزة بنفاذ صبر :
_ سيدي العقيد هل يمكنك أن تتحدث بصراحة بدلاً من المراوغة الفارغة
قاطعه سامر بحزم قائلاً :
_ حمزة توقف ...
نظر الى زياد و هو يقول بهدوء ينافي الرعب الذي سيطر على قلبه
_ سيدي العقيد من الواضح أنك توصلت لمعلومات تتعلق بي و بحمزة ...هل يمكن أن نكشف جميع أوراقنا؟
قال زياد بغضب فاجأ الرجلين :
_ أنتما تعرضان نفسيكما لخطر محدق و لا أتحدث هنا عن أمر اكتشافكما من اجهزة الدولة ..انتما تلعبان مع منظمات و عصابات خطيرة قد تصفيكما بدم بارد
تجمدت الحروف على لسان سامر و حمزة و هما يحدقان بزياد .. هو يعلم كل شيء .. تابع زياد حديثه بنفس الحزم :
_ لو أن علي تأخر يوماً واحداً لكنتما الآن بسجون أمن الدولة فعلاً .... و لما صدقت أي كلمة منكما ...
قال حمزة و هو يحدق بزياد :
_ علي ؟؟ هو هنا ؟؟ هل هو بخير ....؟؟ هل سلمته للسلطات
قال زياد بغضب واضح :
_ اصمت .... هل جننت ؟؟ كيف لي ان أسلم رجلاً مثله .. سيبقى هنا لبعض الوقت و من ثم سيدخل الأراضي المصرية و بعدها سيدخل الى قطاع غزة ليلتحق بالمقاومة المسلحة
زفر حمزة بارتياح و هو يقول :
_ بالطبع سيفعل ... لا اتوقع شيئاً أخر منه
قال سامر وقد ارتاح لموقف زياد :
_ و الآن ما هي الخطوة القادمة ...مما فهمته أن لا نية لديك بالتبليغ عنا
جلس زياد و هو يقول :
_ بالطبع لا ...أريد منكما أن تلتحقا بفريق أعمل على تشكيله بسرية و الهدف منه الإطاحة بالمنظمة أكس
ابتسم حمزة بسخرية و هو يقول :
_ لقد قامت هذه المنظمة للعمل بعيداً على البرقراطية و المصالح السياسية و الوظيفية و تريد منا أن نصبح جزء من هذه المنظومة
_ و لما تظن باني أحاول جمع فريق بعيداً عن كل ما ذكرت .. أنا لا أعرض عليك وظيفة
_ و ما هي خطتك ؟؟
_ سوف ننطلق من القائمة التي تركها فراس
قال سامر و هو يهز رأسه بأسف :
_ وهذا ما كنا نريد القيام بهِ .. ولكن فقدنا الـــ ..
قطع سامر كلامه و هو يرى ذلك البريق في عيني زياد :
_ القائمة معك ..هي موجودة معك .... ريتاج سلمتك القائمة
أومأ زياد برأسه موافقاً ....
_ هل حللت الشيفرة ؟؟
_ لقد فعلت منذ ثلاث شهور مضت ...لكن لم أفهم الرابط بين الأسماء إلا بعد اللقاء بعلي
قال سامر بحماس :
_ رائع لقد عاد كل شيء لمساره
قال حمزة معترضاً :
_ هل ستوافق على العمل معه ؟؟
_ و لما أرفض ... سوف يصبح موقفنا أقوى و مصادرنا سوف تصبح أكثر اتساعاً و من ثم سوف نشارك في عملية واحدة .... باقي عملنا سيكون منفصلاً ..
وقف زياد و هو ينظر الى حمزة :
_ هل من الممكن ان أعرف سبب اعتراضك
قال حمزة بحسم :
_ معركتك الشخصية مع الشبح ....
ابتسم زياد بخفوت و هو يقول :
_ معك حق لقد جرفني الأمر .... و لهذا انا بحاجه لبداية جديدة مع أناس أثق بهم ...
التزم حمزة الصمت بينما مدّ زياد يده إليه مصافحاً و هو يقول :
_ هل سنكون فريقاً واحداً ... انا و انت و سامر و آخرون نتفق عليهم
مد حمزة يده بعد ان حسم تردده يصافحه ...لتبدأ نواة فريق جديد يعد بالكثير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
كانت نائمة على مقعد الطائرة العائدة الى البلاد ... اختار ان يتأمل وجهها الشاحب الذي يضطرب بين وقت و أخر ... عاد معها .... لم يتمكن من تركها تعود وحيدة ....أصبح البعد عنها مستحيلاً ... جاءت المضيفة لتقدم له الصحيفة اليومية .... أخذها يتلهى بصفحاتها ليقطع ساعات الرحلة الطويلة و التي يتمنى أن تطول أكثر حتى يبقى الى جانبها
خبر واحد فقط .... جعل نيران الماضي تعاود الإشتعال و التفجر بصدره :
" قرر رئيس الدولة أن يمنح عدداً من الجنود و الضباط القدامى أوسمة الشرف تقديراً لجهودهم ...... "
و كان اسمه هناك ... عدوه الأول الذي يتغلغل كرهه تحت جلده ... الرجل الذي يحمل دمه بعروقه ... طارق ... سيتم منحه وسام الشرف و رفع رتبته... الشرف!!! عما يتحدثون ؟؟ عن أي شرف و هو قاتل .... زاني ... معتدٍ... انكر ابنه .... كيف يمكن أن ينخدع العالم بشخص بهذهِ الرطيقة .. انه لا يستحق التكريم ... هو يستحق القتل
لقد مضت سنين طويلة لآخر لقاء .... يجب أن يتحدث إليهِ ... رغبة ملحة تجرفه لزيارته
ما إن لمست قدميه أرض الوطن .... ودع سلام على وعدٍ بلقاءٍ قريب .راقبها من بد وهي تلقى بنفسها على صدر أخيها معتصم .. شعر بغيرة غبية تحرق صدره .... و ما إن أسدل الليل ستاره حتى تسلل الى غرفة والده .. خلع القناع الذي غطى وجهه ... تأمل جسده النحيل و وجه الشاحب .... أنار المصباح الجانبي .... جلس على المقعد بجانب سرير والده و هو يستعيد صوراً و أصوات قديمة جعلت جروحه تعاود نزفها المشتعل .... هز جسد والده بقسوة يحثه على الاستيقاظ .... فتح طارق عينيه ببطء ليطالع الوجه الغريب أمامه ... لقد اعتداد على تواجد الغرباء حوله .. لم يعد يتكفل أحد بالشرح كما كان زياد ليفعل... لم يعد أحد يحترم وعيه الحاضر .... لكن و ما ان اصطدمت العيون حتى علم هوية الجالس امامه ... اتسعت حدقتاه بشدة ...أراد أن يصرخ هذا قصي .... قصي ابنه .... هو يريد ان ينتقم منه و من زياد .... لكن كل ذلك بقي حبيس صدره و جسده
تطلع إليه قصي ساخراً و هو يقول بصوتٍ مختنق :
_ أجل أبي ..هذا أنا ... قصي .... لقد مرّ وقت طويل على لقائنا الأخير ... هل تصدق هذا .. عشرون عاماً قد مضت ....
كان قلب طارق ينبض بعنف ... أنفاسه اختنقت داخل صدره ...
قال قصي و هو يخرج ورقة من الصحيفة .. ليعاود قراءة الخبر الذي أثار الأحقاد القديمه في نفسه :
_ كان يجب أن أحضر لتهنئتك شخصياً ....سيدي الرائد طارق ...
و من ثم أشار بطريقة مسرحية ينفي ما قاله مشدداً على كل حرف :
_ اعتذر سيدي ... العميد.. طارق .... هل تعلم ...أبي .. انا سعيد للغاية لقد حققت إنجازاً مذهلاً و انت مشلول بالكامل ...انت خارق
ضحك بطريقة بثت الرعب في نفس طارق :
_ هل تعلم أيضاً لقد حققت إنجازاً آخر ... انا.. قصي ... ابنك ... هل تعلم أنني الآن رجل دبلوماسي من الدرجة الاولى .... اجل .... حتى انه قد عرض علي أن أكون سفيراً و وزيراً .. لكن لقد رفضت ذلك ..أريد ان أمتلك سحر السياسة دون أن أكون تحت دائرة الأضواء بشكل مباشر ..... هل تعرف لماذا ؟؟
وقف ليجلس على السرير مقابل والده مخرجاً قناعه .... وضعه على عينيه :
_ حتى أتمكن من أن أكون الشبح .... هل تعلم شيئاً عنه ؟؟ القاتل الدولي و المطلوب الاول على قائمة المجرمين ... و العدو الاول لزياد ...الشبح الذي دفع زوجة العقيد عن الدرج لتصبح عمياء و عقيم ....الشبح الذي جند أقرب أصدقاء ولدك الغالي ليعمل معي ضده .... الشبح الذي تسبب بايقافه عن عمله ليصبح متهماً بالخيانة
أنزل القناع عن وجهه و هو يقول :
_ كل هذا حدث بسببك انت و صدقني ما زلت رقيقاً معه و لكن انا على وعدي ما دمت انت حياً ...سيبقى هو حياً و إن انت مت فهو سيلحق بك ...
كم تمنى طارق ان ينهض و يقتل هذا الوحش الذي تسبب بتشكله ... لم يكن يعلم بكل هذا .... لم يعلم بأن زياد يعاني بسببه هو .. و بسبب خطأ ارتكبه .... حاول أن يستنهض همته .. ان يتحرك حتى يطبق عليه ...
ابتسم قصى ساخراً و هو يرى اضطراب طارق و محاولته اليائسة وقف و هو يخرج بطاقة الشبح ...
_ سوف اترك هذه حتى يعلم زياد بزيارتي ....لا أريد ان يظن ان اخاه الأكبر مقصر بحق والده
أراد أن يضع بطاقة الشبح على المنضدة ... لكنه رأى بطاقة اخرى جعلته يتوقف .... دعوة لحضور زفاف العقيد زياد و عروسه ياسمين
نظر الى والدهِ وهو يبتسم :
_ إذاً زياد سوف يتزوج من ياسمين ..ما رأيك هل يجب ان أحضر له هدية مميزة ؟؟ .. هو اخي ..رغم أنني لم أتلقى أي دعوة و لكن سوف أكون أكثر نبلاً منه و سوف أحضر له مفاجأة ...
القى ببطاقته .. خرج من المنزل ....ترك طارق يتخبط في عجزه و قلة حيلته ...فقط لو يستطيع الصراخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقف زياد بقامتهِ الطويلة امام المرآة يتأمل نفسه بالبدلة السوداء التي ارتداها استعداداً لزفافه و ذكرى ليلة الأمس لا تفارقه .... صوت و الدته المذعورة و هي تقول انها عثرت على بطاقة الشبح على المنضدة بجانب سرير والده و الذي كان في حالة سيئة بسبب ارتفاع ضغط دمه و عدم انتظام تنفسه
تمكن الشبح من إيقاف نظام الأمن في المنزل باتصاله بالشركة المسؤولة ..استعمل صوته هو و كلمة السر التي وضعها بنفسه .... أفقد رجال الأمن وعيهم ليدخل بكل سهولة الى منزل اهله .. كما فعل مع دلال
دخل مهاب الى غرفة زياد و هو يقول بمرح :
_ هيا يا عريس لقد حان الوقت للذهاب ... هل أنت مستعد ؟؟
قال زياد و هو يحاول أن يخفف من ضغط ربطة عنقه :
_ أشعر بالإختناق من هذه الربطة
وضع مهاب يده على كتف زياد و هو يقول :
_ ليست هي من يخنقك صديقي ... لا بد ان أعصابك متعبة من أحداث الأمس و مع هذا الزواج
وضع زياد يده بجيبه و هو يقول :
_ لما أشعر بهذا العجز امام ذاك الشبح ... كيف يمكن أن أستئصله من حياتي .. لقد تعبت حقاً ... تعبت .... هو السبب بكل هذا التخبط .. حتى الزواج الذي جرتني إليه الظروف هو السبب فيه
_ زياد!! لقد قلت أن ياسمين انسانة ممتازة و أنها تعجبك
أخرج زياد سيجارته لينفخ خيوط الدخان قائلاً :
_ لكنها ليست دلال ....لا أحد كدلال
_ لا تظلم الفتاة بهذه المقارنة
أخذ زياد يدلك جبينه ليخرج صورة دلال من رأسهِ و هي ترتدي ثوبها الأبيض في يوم زفافهما ... لن ينسى يوم تقدمت ناحيته و عيونها الزرقاء تلمع بالحب و السعادة... وشعرها القصير مزين بتاج زاد من تألقها ....و ضحكتها الشقية لا تفارقها .. كانت هي من كسرت جموده .. جعلته يقدم على تصرفات طفولية معها هي فقط ... لم يكن يتصور يوماً ان يكون ممن يركضون على شاطيء البحر مع محبوبته ... ان يضحك بأعلى صوته غير مكترث بنظرات الناس .. هي فقط من جعلت العقيد الذي قضى حياته بين العسكر و السلاح و المعارك... انسان .. لكنها الآن أصبحت جرحه الذي لا يتوقف نزفه .. جرحاً لا يمانع أن يحمله طوال العمر ..ما دامت هي معه ... لكنها اختارت البعد .... ألا يقتلها الشوق إليهِ كما يفعل معه ؟؟ .... ألا ترتجف لذكرى لمساته كما يحدث معه ؟؟ ألا تحن لدفئهِ كما يحدث معه ؟؟ هل فقد حبها ؟؟ هل أصبح عبئاً عليها يعذبها ....
أخرجه صوت مهاب من أمواج الحزن التي تقذفه من ألم لجرح لحيرة لتشتت ....
_ هيا بنا زياد و امسح تلك التعابير عن وجهك تبدو كشخصٍ يساق للذبح
وصل موكب أهل العريس لشقة العروس التي لم تكن بحالٍ أفضل من زياد ...جلست أمام مرآتها تنظر الى الانسانة التي أصبحت عليها ....هي الآن تستعد لتصبح زوجة رجلٍ رائع ... رجل حقيقي ..هي على استعداد ان تضع حياتها بين يديه .... لكن .... هو يعشق زوجته .... يردد الجميع بأنها سوف تكون الرقم اثنين في قلبه ... لكنهم لا يعلمون ان دلال ملئت قلبه و ليس لها مكان او ترتيب في قلبه ...
دخلت سعاد بثوبها الذهبي الضيق الذي رسم تفاصيل جسدها بإغواء تعلم انه سوف يفقد سامر صوابه ... تريد ان تعذبه برؤيتها هكذا دون ان يصل إليها ...رداً على خشونته معها و اخافتها ....
أحاطت ياسمين بذراعيها و هي تقول لها :
_ تبدين رائعه للغاية ياسمين ....فاتنة و مبهرة ..
ابتسمت بذبول و هي تنظر الى نفسها و طوق الياسمين يزين شعرها الطويل الذي تركته منسدلاً على كتفيها ... رفضت ارتداء ثوب زفاف اختارت فستاناً أبيض أنيق يحف ركبتيها بتطريز على شكل بتلات الياسمين اللامعة ... بدت كأميرة متوجة .... لكن كل ما رأته هي تلك الدموع الحبيسة في عينيها ...
دخلت اماني و سلام الغرفة .... حاولت اماني جاهدة خلق جو للفرحة بين القلوب المنكسرة ... تجاوبت الفتيات معها سامحات للضحكات الخجولة بالأندماج مع أجواء المناسبة ....
علت أصوات الزغاريد تعلن أن كتب كتاب سعاد و سامر قد تم و من بعدها تم عقد قران ياسمين و زياد ....
شعرت ياسمين بقلبها ينفطر ألماً و حزناً و هي ترى زياد مبتسماً يجامل كل من حوله دون أن يوجهه لها كلمة .... لكنها رأت في عينيه الانكسار و الألم .... وقفت الى جانبه تتقبل التهاني بابتسامة زائفة .... و الى جانبها أختها التي لمعت السعادة في عينيها أخيراً بعد عذاب طال و طال .... و سامر يحيط خصرها بتملك واضح يشدها إليه بقوة رافضاً بعدها عنه
اما هي و زياد حافظا على مساحة تمنع تلامس جسديهما بأي شكل ... كما لو كان الأمر من المحرمات
توجه الجميع الى المطعم الذي اختارته سعاد للاحتفال بالمناسبتين .... سار الحفل العائلي بسلاسة و رتابة ... حتى ياسمين رقصت على ألمها مع أختها و صديقتيها حتى يزن كان مبتهجاً للغاية بهذه الأجواء ... كان زياد يرصد تحركات ياسمين .... انها تتألم رغم تظاهرها بالعكس ... كيف لفتاة بجمالها و رقتها و عذوبتها أن لا تحظى بحبٍ يسعدها و يملئ أيامها .... هي قادرة على أن تجعل أي رجل غارق بالسعادة .... لكن .. ليس هو
في نهاية الحفل توجهت ياسمين لسعاد و هي توصيها بان تعتني بيزن جيداً و انها سوف تاخذه في اليوم التالي لهذه الليلة.... ليلة الزفاف
_ لا تقلقي سوف أعتني به جيداً
_ شكراً لكِ .... ما بال سامر يبدو متوتراً ؟؟
_ لقد رفضت الخروج معه اليوم بعد انتهاء الحفل
_ يمكنك أن تتركِ يزن مع المربية و ترافقيه
_ لا ... أريد ان أعذبهُ قليلاً
_ لا تكوني شريرة معه هكذا
_ لا تقلقي .... هيا حبيبتي زياد ينتظرك أمام سيارته ..اذهبي لزوجك
ألقت ياسمين بنفسها على صدر سعاد وهي تسمح لدموعها بالتحرر ...
_ أنا خائفة سعاد .. خائفة
_ ياسمين !!! تخافين من زياد ؟؟
قالت و هي تحاول تمالك نفسها :
_ لا .... خائفه من نفسي و من قلبي الذي ينجذب بسهولة إليه و انا عالمة بأنه ....
_ توقفي ياسمين ..لا تستمري بمقارنة نفسك مع زوجته ... ابني عالماً جديداً معه دون أن تلتفتي لوجودها ....قد تكسبين قلبه و قد يحبك .... و لكن اعلمي بأنه لن يظلمك و لن يسيء إليكِ و سوف يحميكِ بروحه ... هيا اذهبي إليه ... هو ينتظرك
سارت بتردد ناحية زياد المتكيء الى سيارته يحدق بالفراغ ... لا بد أنه يفكر بدلال ... لا مكان لها في قلبه ..لا مكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
بخطوات متعثرة دخلت منزلها الجديد .... تنظر الى زواياه و أركانه ... تبحث عن مخرج ... لكن ما إن سمعت صوت انغلاق الباب حتى ارتعشت كل خلايا جسدها ... و مع اقتراب صوت خطواته ناحيتها شعرت بروحها تنسحب منها ... وقف زياد أمامها يتأمل ملامحها المضطربة
_ ياسمين ..لست وحشاً يستعد للانقضاض عليكِ
نظرت إليه ياسمين بخجل و هي تقول :
_ أعتذر منك زياد ...
قاطعها و هو يمسك كفها متجهاً نحول غرفة داخلية :
_ لقد جهزت المنزل على عجل ..إن لم يعجبك شيء يمكنكِ تغييره و تبدليه كما تشائين ..
وصل الى الغرفة الداخلية , فتح الأضواء و هو يقول :
_ هذه غرفة يزن ...
وقفت ياسمين مبهورة بجمال الغرفة التي سيطر عليها اللون الأزرق .... السرير على شكل سيارة سباق حمراء .... و الأغطية رسمت عليه صور للسيارات ... الغرفة أمتلئت بالألعاب ...
نظرت إليه بامتنان كبير و هي تقول :
_ شكراً زياد .... هذا ... ما فعلته أكثر من رائع ...لا اجد كلمات تعبر عن امتناني
ابتسم زياد لها بهدوء وهو يقول :
_ المهم أن تسعد يزن
جلس الاثنان في غرفة المعيشة كما لو كانا ضيفين غريبين عن المنزل ... و بعد عدة دقائق متعثرة من الحديث .... وقف زياد و خلع معطف بدلته و رمى ربطة العنق .... مما جعل ياسمين تنكمش على نفسها ... مما اثار غضب زياد ... جلس الى جانبها و هو يقول بصوت مختنق :
_ هل أنتِ بخير ؟؟ هلا أخبرتني عن سبب هذا التوتر
أخذ صدرها يعلو و يهبط سريعاً .... ملئت الدموع عينيها التي تجمدت على حافة رموشها تهدد بالانسكاب .... تجنبت النظر المباشر إليهِ محدقة بصدره العريض
شعر زياد بالتوتر يسيطر عليه .... لم يتوقع هذا التشنج منها ... احاط وجهها بكفيهِ يجبرها على النظر اليهِ ...
_ ياسمين .... ما الأمر ؟؟ مما أنتِ خائفة ... أنا لن أوؤذيكِ
عندها انحدرت دموعها تحرق يديه قبل وجهها ... القت بنفسها على صدره تبكي متشبثة بهِ كطفلة صغيرة ... أحاطها زياد بذراعيه و تركها تبكي حتى هدأت .... رفعت نفسها عن صدره و هي تمسح دموعها
لم يرد زياد أن يعاود سؤالها عن سبب كل هذا الإنفعال ... لمس طوق الورد الذي يزين شعرها الأسود :
_ تحبين زهور الياسمين ؟؟
ابتسمت بخجل و هي تتلمس الطوق على رأسها :
_ تذكرني بأمي .... هي من كانت تحب زهور الياسمين و تزرعها في حديقة منزلنا القديم .. حتى انها اسمتني باسمها ... استشعر روحها بهذه الزهور ...
_ رحمها الله .... لا بدا أنها كانت رائعة مثلك انتِ و سعاد
اجابته بابتسامة حزينة ..احتضن كفها بين يديه وهو يقول :
_ ياسمين .. اعلم أن ظروف زواجنا ليست بعادية ... حتى انه لا يقترب من كونه زواجاً تقليدياً .... كلانا يعلم أن ظروفنا دفعتنا إليهِ و أنتِ لم توافقي عليهِ إلا كحلٍ أخير ... أفهم ذلك جيداً و أعدك بأني لن أجبركِ على أي شيء حتى لو أردت أن يبقى زواجنا على ورق لن أمانع .... لكن لا أريد أن أرى ذلك الذعر الذي ارتسمَ بعينيكِ ثانية ... كل ما أردته أن أحميكِ و أرعاكِ لا أن أكون سبباً في مأساة جديدة ....
قالت ياسمين و هي تحدق بعيداً :
_ لكنك لن تنجب أطفالاً بهذه الطريقة
قال بصوتٍ غلب عليه الحزن و الألم :
_ تخليت عن هذه الفكرة منذ أن فقدت دلال القدرة على الانجاب ..لا تقلقي ...
لو يعلم زياد ما فعله بقلبها .... شعرت به يتفطر بألم صاخب ... لو يعلم بأنه يعذبها و لا يحميها من نفسه و هو يرسم الحدود ليبقيها بعيدة ... مؤكداً على أن قلبه ملكية حصرية ...لأنثى واحدة .... نظرت إليه ياسمين بضياع و ألم ... لم يستطع زياد تفسيره وقف وهو يقول :
_ ألم تشعري بالنعاس .... أنا سأنام هنا و أنتِ خذي راحتك في غرفة النوم ... سأحرم على نفسي الدخول إليها حتى لا تقلقي
وقفت ياسمين سريعاً و هي تقول :
_ لا ..لا أنت استعمل غرفة النوم و انا ساتقاسم مع يزن غرفته
_ لا .... ادخلي الى غرفتك و لكن أحضري لي ملابس النوم و بعض الاغطية و وسادة هيا اذهبي عزيزتي
دخلت ياسمين الى الغرفة تصارع ألمها و جرحها الجديد تحضر ما طلب ... ارتفع صوت هاتف زياد يعلن وصل رسالة من رقم غريب ... فتحها لتفتح امامه أبواب الجحيم :
" على دروب الذكريات نسير .. الألم يعود .. و الحب الجديد يضيع .... في نفس المكان .... الصور القديمة تعود ... و الشبح بانتقامهِ يزيد "
تجمدت حواس زياد و هو يفترس الكلمات التي أمامه .... أدرك أن دلال في خطر
رأت ياسمين التعابير المرتعبة التي ارتسمت على وجه زياد ..قالت بصوت خافت:
_ زياد ما الأمر ؟؟ ما بال وجهك قد شحب
قال و هو يحاول استجماع شتات نفسه :
_ياسمين .... دلال ... دلال ... تباً له ....تباً
خرج سريعاً تاركاً ياسمين لجروحها و هي تقول :
_ هذا ما أخشاه ... أنا ليس لي من مكان في قلبك ... مع أنك احتللت قلبي كله ... لتصبح أنت خنجراً جديد يطعن خاصرتي .... أحبك .... لهذا لا أريد قربك ... أحبك زياد
اسرع زياد بسيارته يقودها كالمجانين ... اتصل مع رجل الأمن الذي يقبع أسفل شقة ريتاج :
_ هل أنت في موقعك ؟؟ و باقي الرجال ؟؟ .... هل أنت متأكد ؟؟ أريدك أن تصعد حالاً الى الشقة و ابقى أنت و كل الرجال معهما داخل الشقة .. ابقى معي على الخط ... أريد ان أتأكد من وجود دلال هناك
مرت الدقائق بطيئة تقتله خوفاً
جاء صوت رجل الأمن و هو يقول :
_ هما هنا سيدي ... إنهما بخير و أمامي ...
_ دعني اتحدث لدلال
_ زياد ...
_ حبيبتي هل أنتِ بخير ؟؟
_لا تقلق انا و ريتاج بخير ...لقد أفزعنا دخول رجالك هكذا
قال زياد و هو يطلق نفساً حاراً من صدره :
_ لا تقلقي ... سوف يبقون معكما حتى أصل
_ زياد ما الذي يحدث ؟؟
_ أقفلي الخط الآن دلال ....
أقفل الخط و هو يرمي الهاتف من يده ... ما الذي يريده ذلك المختل من كل هذا أخذ يردد كلمات الرسالة النصية في عقله :
" على دروب الذكريات نسير .. الألم يعود .. و الحب الجديد يضيع .... في نفس المكان .. الصور القديمة تعود ... و الشبح بانتقامهِ يزيد "
توقف عند عِبارة واحدة ضربت رأسهُ بقوة :
الحب الجديد يضيع .... الجديد .. الجديد .... ياسمين
داس على فرامل السيارة بقوة جعلت الشرر يتطاير من الإطارت و هو يعود الى ياسمين التي تركها دون حارس مسرعاً يشتم نفسه.... فهو معها ... كان يجب أن يبقى معها
أسرع يدخل الشقة ليجد الباب مفتوحاً .. دفعه سريعاً ليجد طوق الياسمين على الأرض قد تناثرت أزهاره و تهشمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشبحΌπου ζουν οι ιστορίες. Ανακάλυψε τώρα