الفصل الثامن عشر و لاخير

52 5 0
                                    

بخطى متعثرة تبحث عن مخرج من هذا الجحيم .... سُحب الدخان تحيط بها من كل حداً و صوب .. . تحجب عنها الرؤيا لتغرق في عالم حيادي لا لون له ... نيران تهب فجأة تلسعها لترتد إلى الخلف مرتعبة ... سعال يكاد يمزق رئتيها و الأكسجين من حولها فقد و اندثر
تقدمت على غير هدى لنقطة غير معلومة الملامح ... و هي تدعو الله أن يخلصها من هذه المحنة و كل تفكيرها يتجه لطفلها الذي تركته خلفها ... فجأة انهار السقف فوق رأسها لتسقط أرضاً غائبة عن هذا العالم .. فتحت عينيها ببطء و هي تشعر بيد دافئة ترفع رأسها لتستقر في حضن تفتقده و تشتاقه و رائحته تتسرب الى خلايا جسدها المنهك ... رفعت رأسها لتلتقي مع عيون لطالما أسرتها بسحرها الخاص ...همست و دموعها تتساقط تعلن حباً و عشق كسير :
_ فراس ... فراس
ابتسم كما أعتاد و هو يمرر يده بين خصل شعرها البني المتناثر على فخذيه ... يجلس على رمال الشاطيء الخاص ... ينهكها بنظراته المشتعلة بعشق و حب ... قالت مرتعشة و هي ترفع يدها تلمس وجهه :
_ نحن في شهر عسلنا فراس !!
أمسك كفها يطبع قبلة طويلة يتنفسها و هو يقول بحزن :
_ أنتِ من أعادنا الى هنا ريتاج ...
نظرت للبحر و هو يتماوج هادئاً ترخي أهدابها و هي تقول بخفوت :
_ خذني معك يا فراس لقد تعبت بدونك ضعفت قوتي و قدرتي على التحمل ... أحتاجك
طوق وجهها بكفيه و هو يقول بثقة و عزم :
_ لا يا ريتاج ... أنت قوية .. قادرة على مواجهة الصعاب ثقي بالله و بنفسك حبيبتي
عضت على شفتيها بقوة و هي ترتجف ..تضم نفسها و تخفي وجهها في حنايا صدره .. طوقها فراس و هو يهمس بجانب أذنها :
_ ريتاج .. أحبك و أشتاق لك و لكن لازال مكانك هناك ... محاربة .. مقاتلة ... صوت من لا صوت له...و جهاد يحتاجك لتزرعي في نفسه قيم و مباديء تضيع .
تمسكت بقميصه و هي تشهق بنعومة تحاول زرع نفسها بين أضلعه ...
انحنى فراس يقبلها بعمق على جبينها و هو يقول بصوتٍ مبحوح كساه الحزن :
_ لقد حان وقت عودتك الآن حبيبتي
رفعت نفسها و هي تهز رأسها رافضة :
_ لا .. لا تتركني مرة ثانية
بدأ يبتعد و هو يقول :
_ انا لن أتركك ريتاج سأبقى حولك دائماً حبيبتي ... و سوف يهتم جهاد و باقي أطفالك بك
_ أطفالي ؟؟
قال فراس و قد اختفي و لم يبقى سوا صوته يتردد بخفوت:
_ أصرخي .. نادي ... سينقذك
شهقت بقوة و هي تسعل بعنف و صوت من بعيد يناديها بأسمها :
_ ريتاج ... ريتاااااااااااااج
فتحت عينيها و هي تستجدي الهواء و الركام غطى نصفها الأسفل حاولت النهوض لم تستطع و قد قيدتها الأنقاض .. أرادت الصراخ ...لكن صوتها خذلها و السعال يشتد أكثر و أكثر يعتصر صدرها ... أغمضت عينيها بقوة و هي تحاول أن تجبر صوتها على العلو :
_ أنا هنا ... انا هنا ...النجدة .. لا أستطيع الحراك .....ربااااااااااه
عاد عالم اللاوعي يسحبها و قد أوشكت على الإستسلام لكن صوته و هو يقول لها بلهفة :
_ ريتاج .... هل تسمعيني ؟
فتحت عينيها الدامعة و المحمرة بشدة :
_ أنت ؟ أرجوك ....قدماي
_ ششش .. ستكونين بخير ..سأزيل الركام عن قدميك لنخرج من هنا
بدأ يرفع الانقاض بعزم متحاملاً على ألم يده المكسورة و قد اختنقت أنفاسه ... فجأة انهار جزء جديد على مقربة منهما لتصرخ ريتاج بجزع
أسرع مهاب بعمله وهو يشجع ريتاح على التحمل و الصبر ... إنهيار آخر كان أقرب جعل مهاب يسقط على يده المكسورة ليصرخ ألماً ... لكنه عاد ليقف و هو يعمل بجد كآلة لا تعرف معنى الشعور ..قالت ريتاج بضعف :
_ أخرج من هنا .. لا فائدة ... أنقذ نفسك
ضحك بخشونة و هو يقول :
_ لا داعي لكلام الأفلام الآن عزيزتي ... سنخرج معاً .. أعدك
أزال آخر حجر عن قدمها لتصرخ متألمة ... رفعها بين ذراعيه يحاول تذكر طريق المخرج ... و هو يتجنب النيران التي انتشرت في كل مكان يحمي و جهها بصدره ... لا يعلم كيف خرج من المكان لتستقبله عاملة في فريق الطواريء لتأخذهما لأحد سيارات الاسعاف ... وضع ريتاج على النقالة في سيارة الاسعاف لينهار بجانبها ممسكاً بيده و قد وصل الألم لحده الأقصى
سمع صوتها الخفيض يناديه ليهب سريعاً و هو يطل عليها و ينظر لوجهها الذي كساه الرماد :
_ ما الأمر ريتاج ؟ هل أنتِ بخير ؟
بحروف متكسرة و متعثرة بسعالها القوي :
_ شكراً لك .. أنت .... بخير؟
ابتسم رغم الألم الطاحن الذي يدق عظام جسده :
_ الحمد لله بخير ... ما دمتِ أنت بخير ...
أسبلت أهدابها مستسلمة لضعفها لتسافر في عالم اللاوعي.... حدق مهاب في جموع الناس الذاهلة و المتخبطة في دوامة المفاجأة و جثث قتلى تصف جنباً لجنب و جرحى يصرخون ألماً و خوفاً ... و النيران و سحب الدخان تلف المكان ... و أصوات التحطم توقف القلب كما لو أن يوم القيامة قد حلّ و الحساب قد آن أوانه... متمازجة مع أصوات الإنذار و سيارات الشرطة و الإطفاء ..... يتسائل عن مصير زياد و حازم ..... و أوامر العقيد بعدم الإتصال بهم تقيدهُ بقسوة
اصطدمت عيناه بذلك الوجه القلق الذي يحدق بوجوه الناجين و الجرحى و القتلى .... يتنقل بينهم بوجل .... هبط مهاب من سيارة الإسعاف يقترب منه ... يتذكر شكوك زياد حوله هو تحديداً .... لكن مظهره في هذه اللحظة كمن حوله من ناجين ..يبحث عن شخصٍ يحبه و يهتم لأمره!!!!
وضع مهاب يده على كتف قصى ليجفل الثاني و هو يحدق بوجه :
_ سيد قصي هل أنت بخير ؟
أجابه باقتضاب و هو يركز بكل ما يحيطه يبحث عن خيط يقوده لأخيه المفقود :
_ بخير ...
_ جميع أعضاء الوفد خرجوا من المبنى سالمين .. هل تبحث عن شخص معين ؟؟
نظر إليه قصي بتدقيق و هو يقول :
_ أنت من ضمن فريق زياد ؟؟
كبت مهاب مشاعره أمام هذا التصريح الواضح و هو يقول :
_ لا أفهم ....
قاطعه قصي بقوة و حزم :
_ زياد مفقود .. ربما كان في المرآب وقت الإنفجار يتنكر بوجه البستاني ... و أنا أبحث عنه منذ نصف ساعة بين القتلى و الجرحى ... لكن بلا فائدة و في حال تم القبض عليه لن يتمكن أي شخص من تخليصه
شحب وجه مهاب بشدة و هو يقول له :
_ ما الذي تحتاجه ؟
_ أحاول الإتصال بياسمين لكن هاتفها مغلق ... أترى الكاميرا المثبتة فوق إشارة المرور أمام المرآب ؟؟
_ حدق مهاب حيث أشار قصي :
_ إنها محطمة تماماً بسبب الإنفجار العنيف
_ صحيح و لكن التسجيلات محفوظة في دائرة السير ... أريد من ياسمين الولوج إليها لنتأكد من أن زياد قد خرج قبل الإنفجار
بيده السليمة أخرج الهاتف من فوره و هو يتصل برقم محدد ضارباً بالتعليمات عرض الحائط ... إن كان زياد سيسقط فليسقط هو معه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجلس القرفصاء مستنداً على الحائط مسنداً ذراعه على فخذه و وجهه على كفه و الشيب في رأسه تفجر فجأة يفضح فرط خوفه و حمله الثقيل ... كبر فوق عمره سنين كثيرة ... يناجي الله ليحفظها من كل سوء و شر .... قلبه يتمزق بينها و بين من تركها بين يدي ممرضي المشفى النفسي لتستسلم لهم دون مقاومة و قد انطفأ بعينيها بريق الحياة ليسكنها الخواء و الضياع المرعب .. حتى صوت حمزة لم يعدها من ذلك العالم المظلم الذي غابت فيه وحيدة
خرج الطبيب من غرفة الإنعاش و قد كسى العبوس ملامحه ... انتفض سامر من جلسته ليقف بثبات يسأله عن حالها ... قال الطبيب بآلية :
_ لقد قمنا بغسيل معدتها و لكن جسدها تشرب أغلب كمية السم الذي تناولته ... جسدها ضعيف للغاية ...
قال سامر و قد أرتجف صوته و خفت :
_ هل ستنجو ؟ ...
_ سيد سامر ... وضعها صعب لا أنكر ... و هي الآن تصارع الموت ... الأمر يعتمد على قوتها و جلدها
بثقة أجابه سامر :
_ هي قوية ... محاربة .. ستنجو
_ أتمنى ذلك .. أدعو الله لها
همّ الطبيب بالإنصراف ليقطع السامر عليه الطريق :
_ أريد أن أراها
_ أعتذر منك سيد سامر من الممنوع الدخول لغرفة الإنعاش
حدق به سامر بإصرار معلناً أنه لن يتنازل عن طلبه مهما كانت النتائج ... ليستسلم الطبيب و يسمح له بالبقاء معها لخمس دقائق فقط ....
بخطوات متعثرة إقترب من جسدها المحاط بالأجهزة الطبية و صوت مراقب الضغط و النبض يضرب ناقوس الخطر... كم تبدو ضعيفة و بعيدة .... بعيدة للغاية .. شاحبة .... انطفأ نور و جهها ... شعر بروحه تصارعه لتغادر جسده و سكين حادة تطعن قلبه ... رئته توقفت عن تلقي الهواء ... مرر يده بين خصلات شعره بقسوة ..يعض باطن شفته بقهر ... جلس إلى جانبها يحتضن كفها و قد فقد القدرة على كبح دموعه لتتسارع بالتساقط برجولة تشربت العشق .. أخذت الكلمات تتسلل من قلبه لتخرج من بين شفتيه بصوته المبحوح و المجروح :
_ سعااااااد .. آه يا جرح القلب و الروح ... لا تتركيني حبيبتي ... لن أحتمل فراقك مرة أخرى .. ليس بعد أن تذوقت حلاوة قربك و عشقك ... لو تعلمين عدد الليالي التي استيقظت فيها من نومي مفزوعاً أتأكد من وجودك إلى جانبي .... أظنك أحياناً خيالاً يداعب أحلامي لدقائق قصيرة .... أنتظر الواقع ...ليجلدني بنار الفراق و الغربة ... تتسللين من بين أصابعي كماء عذب
بأصابع مرتجفة و ضع يده على رأسها يغلل أصابعه بين خصل شعرها ...ليهمس بحب :
_أرجوكِ تماسكي حبيبتي عودي إلى ... أنا هنا بإنتظارك .... اقتربي مني .. لا تبتعدي ...
دخلت الممرضة و هي تقول بصوت خفيض تخشى أن تجرح هذه المناجاة الفريدة :
_ إذا سمحت .. لقد انتهى وقت الزيارة ..
وقف سامر و هو يقبل جبين سعاد بشفاه متوسلة هامساً :
_ تعالي حبيبتي .. تعالي .... لا تتركيني
قيد دموعه لمقلتيه و هو يخرج من غرفة سعاد تاركاً بقايا روحه تقاتل إلى جانبها على أمل
انكمشت على نفسها في المقعد الخلفي تبكي مرتجفة و قد انهارت قدرتها على التحمل .... تغطي فمها تكتم شهقات مؤلمة و قاسية على نفس حازم و أمجد .... تمنى حازم أن يحتويها لصدره حتى يخفف عنها وجعها و قهرها الذي يقتله .... يكره أن يراها منهارة من أجل رجل آخر و إن كان زوجها ...
أطلق أمجد نفساً ساخناً و هو ينظر لياسمين من خلال مرآة السيارة ..... ليقول متوسلاً :
_ توقفي عن البكاء ... سيكون بخير قد...
قاطعته بحدة و هي ترميه بنظرات حاقدة :
_ لقد حطمت هاتفي أمجد .... قطعت الأمل الوحيد لي بعودة زياد
صرخ أمجد و هو يشدّ على المقود يكاد يفتك به :
_ لأن اتصالك بذلك المدعو قصي ضربٌ من جنون
صرخت ياسمين تنافس صوت أمجد ارتفاعاً :
_ هو الوحيد القادر على مساعدته .. افهم ذلك أيها
عندها صرخ حازم بغضب و هو يقول باضطراب :
_ توقفا ... توقفا .... منذ أن خرجنا من تلك الشقة و أنتما تتشاجران .... لقد انتهى الأمر .. لا يمكن القيام بشيء .. و هذا الإقتتال الأحمق لن يعيد زياد
حلّ الصمت عليهم جميعا و داخل كل واحد منهم بركان يهدد الإنفجار ... رنين هاتف أمجد جعل القلوب تهدر توتراً و خوفاً و أملاً ... هز أمجد رأسه بغضب وهو يقول :
_ مهاب !!!! ما الذي يحدث لكم لقد جن الجميع
رد عليه محاولاً السيطرة على أعصابه المنهكة :
_ نعم ... ماذا ؟؟ هل فقدت عقلك ؟؟ حسناً ..افعلوا ما تريدونه لم أعد أبالي
ناول الهاتف لياسمين و هو يقول بعنف :
_ السيد قصي يريد أن يكلمك
اختطفت الهاتف من يده و هي تقول بشوق :
_ هل عثرت عليه ؟؟ هل هو بخير؟؟ أين ...
قاطعها بحزم و هو يقول باقتضاب :
_ اسمعيني ياسمين .. أريد منك أن تقتحمي تسجليات إدارة السير ..هناك كاميرات مراقبة مثبتة على الإشارة المقابلة للمرآب ... تعرفين العنوان ؟؟
أجابته و هي تفتح حاسبها المحمول سريعاً :
_ أعرفه ... لكن أخشى أن لا أحصل على تغطية للإنترنت .... لقد فقدتها بعد الإنفجار
_ حاولي أرجوكِ ؟
قالت ياسمين بارتياح لحظي :
_ لدي شبكة ... سأحاول الدخول الآن ..سأتصل بك فور نجاحي
قال قصي بقلق :
_ لا نملك الوقت ياسمين .....بسرعة
أسرعت تتوسله و هي تبكي :
_ لقد أصابه القناص في خاصرته ... هو في خطر
تيبست يده على الهاتف و هو يلعن كرستينا في صدره و يتوعدها بالموت عقاباً
أغلق قصي الخط و هو يقول لمهاب :
_ يجب أن تذهب الآن .... عليك أن تعالج ذراعك ... سأتصل بك إن احتجت لشيء
_ لا ..سأبقى معك
أجابه ببرود و هو يراقب الوضع حوله :
_ ستكشف زياد بتصرفاتك و تدخلك ... دعني أتدبر الأمر من هنا
قال مهاب دون تحفظ :
_ لا أثق بك أبداً
ابتسم قصي ساخراً و هو يقول :
_ أنت تعرف الكثير ... أكثر مما ينبغي
أطلت من عيني مهاب نظرة تحدي و هو يقول بجمود :
_ لن أترك مصير زياد بين يديك و قد تكون السبب بكل ما حصل له
تمكن قصي من إخفاء توتره و اضطرابه ... ليس خوفاً من مهاب و لكن من فكرة أن زياد يتفق بتفكيره مع رفيقه ..قال ببرود :
_ لا خيار لك الآن .... يجب أن ترحل.. لن أستطيع التحرك مع شخص مصاب ... عن إذنك ..
تركه قصي و هو يتجه للشارع الموازي للمبنى ..كانت الشوارع مغلقة بسبب الإزدحام و الحواجز التي نصبتها الشرطة لتمنع هروب المعتدين ...الكل يتحرك من حوله بسرعة و بتوتر و خوف .... لكن هو تحرك ببطء .... تفكيره متوقف تماماً ... يشعر بالعجز و الخواء ... فقد السيطرة على كل شيء ... دفعاته تنهار بصمت صاخب ... الأقنعة سقطت ليظهر وجهه الحقيقي الضعيف و الهش ..... طفل ذبحه واقعه ليخسر روحه و شعوره ... و عندما عاد الإحساس و بدأ يعيش كإنسان...يتجرع المرار الذي سقاه لأخيه و لضحاياه الغافلين...
مرت ساعتين و قصي يتنقل بين الشوارع التي تحيط المبنى على أمل أن يجد خيط يربطه بزياد ضاقت الطرقات به و هو يبحث عن حلول أخرى ..قد تستغرق ياسمين اياماً قبل عثورها على التسجيل .. عليه أن يجد مخرجاً و بسرعة
ارتفع صوت هاتفه ..اسرع يرد على المتصل بلهفة ... ليصله صوت ياسمين الباكي تكابد لوعة و حرقة تقتله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
تمكنت ياسمين من التسلل لتسجيلات إدارة السير بسرعة قياسية بين المحترفين ... خرج صوتها مرتعشاً و هي تضرب لوحة المفاتيح :
_ لقد تمكنت من الدخول
ركن أمجد السيارة لينزل و حازم يحشران ياسمين بينهما يرصدان الشاشة التي أظهرت باب مرآب الموظفين بوضوح ... قامت ياسمين بتقديم التسجيل حتى وصلت لآخِر عشر دقائق قبل التفجير ....
وضعت يدها على صدرها تمنع سقوط قلبها و هي تدعو الله بأن تراه يخرج من هذا المرآب الملعون
في البداية ظهرت امرأة تحمل طفلاً و تمسك بالثاني بيدها الأخرى تقطع الشارع للطرف الثاني و بعد دقيقتين خرجت طفلة شقراء مترددة بخطواتها تنظر خلفها ... أسرعت المرأة تحدث الطفلة .. أمسكت يدها و ساعدتها على عبور الطريق ... لتعود خلال ثواني ... دخلت المرآب و خرجت هذه المرة تسند رجلاً مترنحاً .. لكنه ليس أي رجل هو البستاني ... زياد
شهقت ياسمين و هي تغطي فمها و دموعها تتساقط كحبات المطر و أمجد يحمد الله على فرجه و رحمته .. أما حازم حرر أخيراً أنفاسه التي حبسها طويلاً بصدره .. فرغم كرهه لزياد ولكنه لا يتمنى موته أبداً
ابتعد زياد عن المرأة ليسير مبتعداً متعثراً عن إطار الصورة مستنداً على الحائط ...
أسرعت ياسمين تتصل بقصي من هاتف أمجد و هي تبكي و تشهق :
_ قصي .. قصي.. زياد خرج من المرآب لقد خرج و لكنه متعب للغاية أرجوك ..عليك أن تعثر عليه
عاد الخفق لقلب قصي المتجمد و قد انبثق شعاع الأمل من بين الركام و الظلام ...
قال و هو يحاول السيطرة على نفسه يخمد اضطرابه .... يجب أن يعبر لجانبه الآخر ... قصي لن يساعده بهذا الموقف .. على الشبح أن يعود ليفرض سيطرته على تصرفاته... قست عينيه و اسودت .. و عاد صوته بارداً كالثلج و هو يقول :
_ ياسمين ..ما أقرب منزل آمن تم تحديده لهذه المهمة ...
أجابته ذاهلة و هي تحدق بصورة زياد الأخيرة على الحاسب
_ماذا ؟؟ لماذا؟؟
أجابه بقسوة يخرجها من حالة الإنغلاق التي تملكتها :
_ ياسمين أجيبي لا وقت لدينا الآن
_ إنه إنه ..شارع برودواي ... المبنى 55 ..الطابق الثالث ... الشقة السادسة
أقفل الخط يتحرك باتجاه الشقة سيراً على الأقدام كون ذلك أسرع من السيارة في ظلّ الظروف الغير اعتيادية ... طلب رقماً مخالفاً عهداً قطعه على نفسه بأن لا يتصل بها بعد أن أخرجها من أتون المنظمة ..لتعيش حياة مستقيمة و لكن هو يحتاجها ..يثق بها .. لطالما كانت مختلفة
_ رايتشل ... هل تذكرين صديقك القديم ؟؟
_ قصي جمال لقد مرّ وقت طويل ... من يمكن أن ينساك عزيزي
ردّ عليها و هو يشدّ خطواته :
_ أحتاجك بخدمة ... لاقيني على هذا العنوان ...شارع برودواي ...
رصد التوتر بأنفاسها و قد التزمت الصمت ..قال بهدوء :
_ دكتورة ريتشل ...ليس للأمر علاقة بالمنظمة ... الأمر يخصني شخصياً ... يهمني كثيراً
ردت عليه بصوت فضح فرط شوقها وغرامها :
_ من أجلك سأفعل اي شيء ....أي شيء .... أنا أدين لك بحياتي
_ شكراً لك ريتشل .. أقدر لك مساعدتك ..أرجوك لا تتأخري ... ما زلت تذكرين الإجراءات الأمنية المتبعة ... و لا تنسي حقيبتك الطبية
_ لا تقلق هذه الأمور محفورة بعمق ذاكرتي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
_ اماني هيا لا يجب أن نترك سامر وحيداً ؟؟
حاولت أماني السيطرة على ارتعاشها و هي تلبس ثيابها تبكي غير قادرة على التماسك .... كل شيء تعقد فجأة .. لا تصدق ما حدث ... سعاد على سرير المشفى تصارع الموت بعد أن حملها سامر بين ذراعيه .. ليليان تقبع الآن في المشفى النفسي تصارع أشباحها الخاصة ...
سقط القميص من يدها للمرة الثالثة لترتفع حدة بكائها ... دخل حمزة غرفة النوم و قد زادته حالتها قهراً و عجزاً ... انحنى يلتقط القميص عن الأرض .. و كطفلة صغيرة ساعدها على ارتدائه .... مسح دموعها بظاهر يده و هو يقول لها بضعف :
_ عليك أن تهدأي حبيبتي ... من أجل سامر و سعاد يجب ان نكون أقوياء ... هذا دورنا الآن ... هما الآن بحاجة للدعم و المساندة هذا حقهما علينا
هزت اماني رأسها موافقة و هي تحاول كبح جماح دموعها لتحمل حقيبتها لتقول بثبات :
_ لنذهب ... لقد تأخرنا
جرس الباب ارتفع برنين متواصل و طرقات على الباب الخشبي تلاحقت بشكل همجي أسرع حمزة يفتح الباب و قد توترت كل خلايا جسده
وقف أمامه ضابط الشرطة و هو يقول بفظاظة :
_ حمزة صديق
_ نعم
أسرع ضابطين من خلف الأول يمسكون بحمزة يقيدون يديه خلف ظهره و الضابط الأعلى رتبة يقول العلىالال؟أيقول بآلية :
_ مطلوب إلقاء القبض عليك بأمر من النيابة العامة
علم حمزة أن الأمر يتعلق بزياد و ما حدث بنيورك ....التزم الصمت و أماني تحدق غير مصدقة اقتربت بسرعة منهم و هي تصرخ
_ ما الذي يحدث ؟؟
قال الضابط الأعلى رتبة بقسوة :
_ سيدتي أتمنى منكِ أن تبتعدي و لاتعرقلي عملنا
قال حمزة سريعاً قبل أن يفقد أعصابه :
_ لا تقلقي أماني ... اذهبي إلى المشفى و لا تخبري سامر بشيء
_ ولكن ؟؟
_ كوني قوية أرجوكِ
دفع الضابط حمزة و رحلوا و اماني خلفه غير قادرة على استيعاب كل ما يحدث و لكنها نفذت طلب حمزة و خرجت للمشفى حابسة انفعالاتها داخل قلبها الهادر بقوة
توقع حمزة أن يقوم الضباط باقتياده لأحد مراكز الشرطة و لكنه تفاجأ بوجوده في مبنى المخابرات العامة .. جلس و حيداً بغرفة التحقيق و قد تجمد وجهه مضرباً عن إعطاء أي إنفعال ... دخل رجل عسكري قاسي الملامح ..ضخم الجثة .. قال دون مقدمات :
_ عليك أن تخبرنا بكل ما تعرفه عن زياد و فريقه ؟؟
إلتزم الصمت و هو يحدق بركن بعيد يقلب الأمر من جوانبه ...عاد صوت الرجل العسكري يهدر قائلاً :
_ تكلم ... يجب أن أعرف بكل تفصيل مهما كان صغيراً ..ما حدث بنيويورك أمر خطير .. نريد أن نعلم ما هي علاقة العقيد زياد بكل هذا
قال بحزم و هو ينظر للرجل العسكري بتحدي :
_أنا لا أعلم شيئاً
زفر العسكري بحنق وهو يضرب الطاولة بعنف :
_ زياد و فريقه بخطر حقيقي .. ستحاكمون جميعاً بمحكمة أمن الدولة كإرهابين ... هل تفهم ذلك ؟؟
التزم حمزة الصمت و هو ينظر للعسكري ساخراً ... هو و رفاقه يهددون بمحاكمة عسكرية و خائني الوطن الحقيقين يتقلدون المناصب و ينهبون البلاد
صرخ العسكري غاضباً :
_ أمسح هذه الإبتسامة الساخرة عن وجهك فالمشنقة بانتظارك أنت و رفاقك
وصل قصي المبنى المطلوب متمسكاً بفكرة وجود زياد فيه ... يجب أن يكون استنتاجه صحيحاً ... هذا التصرف المنطقي و المتبع في عالم الإستخبارات ... في حال الخطر يجب أن يتوجه لأقرب منزل أمني حتى يُعاد ترتيب الأمور
اتجه نحو درجات المبنى و لكنه توقف و قد لمح أمام باب المصعد بقعة ملطخة ... اقترب منها و قد علم أنها دماء حاول أحدهم مسحها و لكنه لم يتقن العمل ... خلع سترته و ألقاها أرضاً و بقدمهِ دعك البقعه حتى زالت تماماً ... فهم قصي أن زياد بقمة الضعف و العجز .. استعمال المصعد يخالف القواعد الأمنية و هو لم ينجح بتغطية أثره جيداً ... استقل قصي المصعد يتأكد من تغطية كل أثر تركه زياد خلفه ... و صل للطابق المطلوب ... ليجد نقاط الدم أمام باب الشقة ... نظفها سريعاً بسترته ... و أراد أن يطرق الباب لكنه تفاجأ به مفتوحاً ... دفعه سريعاً ليجده هناك .. يجلس أرضاً مستنداً على الحائط و قد تراخى جسده و بركة دم تشكلت حوله ...
تملك قصي الجزع و هو يقترب ببطء من زياد الذي لازال يحافظ على تنكره ... انحنى واضعاً يده على كتف زياد يناديه بوجل ...لينهار جسد زياد أرضاً دون حراك ... أسرع قصي يجس نبضه و جده ضعيفاً يكاد يخبو ...أسرع يرفعه على الأريكة العريضة و هو يناديه مذعوراً .. لكنه لم يستجب و لم تظهر عليه علامات الحياة ...أثار التنكر الذي يغطى وجهه غضب قصي و هو يحجب عنه وجهه الحقيقي .. قام بنزعه سريعاً ليرى وجه زياد المنهك الشاحب فاقد الدم ... عاد ليناديه بلوعة :
_ زياد ...زياد .. هيا استيقظ .... لا ترحل الآن ... زياااااااد
نظر لجرحه النازف في خاصرته شق قميصه بيده و قد ظهرت علامات الإصابة القديمة .... همس مرتجفاً :
_ ما الذي يحدث معك أيها الأحمق ..قلت لك أن تراجع طبيباً و لكنك مجرد شخص مغرور بنفسه كأخيك الغبي .. تظن نفسك قوي ... لا تسقط ... أحمق
ارتفع صوت طرقات رتيبه على الباب .. نهض سريعاً .. علم أن ريتشل قد وصلت .. فتح لها بلهفة و هو يقول :
_ ريتشل أسرعي بالله عليكِ
أسرعت لذلك الغريب الممدد على الأريكة و هي تقول :
_ ترحيب مميز سيد قصي
لم يكن بقادر على المجادلة و قف خلفها يراقبها تعمل سريعاً ... لم تمضي دقيقة حتى وقفت لتقول بغضب :
_ قصي هذا الرجل بحكم الميت ... لا أستطيع مساعدته يجب أن يتلقى العناية في المشفى
_ مستحيل ...
_ لقد خسر دماء كثيرة و هو مصاب برصاصة و يبدو أنه يعاني من إصابة قديمة و نزيف داخلي ... أشك بأن الكبد قد تعرض لضرراً فداح و خطير ...
قال قصي بجمود :
_ تصرفي ريتشل
اقتربت منه و هي تضع يدها على صدره ..تحدق بعينيه :
_ اسمعني ... هذا الرجل يحتاج لنقل الدم و عملية جراحية مستعجلة ... لا يمكن أن أقوم بأي شيء ... مع كل دقيقة تمر فإن فرصه بالنجاة تقل هل تفهم ؟
إبتعد عنها و هو يقترب من زياد ... جلس القرفصاء بجانبه و هو يمسح بيده على شعره برفق و هو يفكر بحل لهذه الورطة ... اقتربت ريتشل منه و هي تقول له بحزن :
_ لم أرك مهتماً بحياة شخص آخر بهذه الطريقة
أجابها و قد ارتجف صوته بشدة :
_ هو ليس أي شخص ريتشل ... إنه ...
قطع كلماته و هو يقول بحزم و قد ابتلع كل مشاعره :
_ سأقوم بنقله لدولة أخرى و أنت معي .. عليك أن تحافظي على حياته حتى نصل
_ ماذا ؟؟ هل فقدت عقلك ؟؟
وقف و هو يطبق على كتفيها بشدة و هو يقول :
_ سأفقد عقلي إن خسر حياته ...أي دولة هي الأقرب و يمكن أن يتلقى بها العلاج المطلوب ؟
حدقت ريتشل بعينيه و هي ترى منه وجهاً جديداً لم تعرفه .. القلق و الخوف و اللهفة ... كل هذه مشاعر جديدة تختبرها فيه ..
أغلقت عينيها لثانية تحسم أمرها ...
_ البرازيل ...... قد يكون المستوى الطبي منخفظ و لكن أعرف أطباء أكفاء في تلك المنطقة ... إنه خيارنا الأمثل يمكنك أن تشتري السكوت هناك
قال قصي بحزم و هو يعود للإقتراب من زياد :
_ سأجهز كل شيء سريعاً ..
قاطعته ريتشل و هي تقول بحزم :
_ أحتاج إلى نقل الدم إليه حالاً و قبل كل شيء ... لكن انا لا أعرف ما هي فصيلة دمائه
_  A زائد
_ متأكد ؟؟
_ يمكنك أن تسحبي الدم مني ..سأجري بضع اتصالات أثناء قيامك بذلك
_أحتاج لأكثر من متبرع
_ لا يوجد أحد غيري .. سأتحمل لا تقلقي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استرخت ريتاج في سرير المشفى/ قسم الطواريء و جبيرة ضخمة تحيط بساقها و ضمادات منتشرة على أنحاء جسدها ... تحدق بالتلفاز الذي تحلق حوله المصابين و الممرضين والاطباء بعد أن هدأت الأمور.... تستمع للأنباء التي تذاع عن التفجير ...
شعرت بالغضب يتصاعد داخلها .... "حركة قدس الاقداس تبنت الهجوم" .. وبعد ساعة أنكرت ذات الحركة الأمر ... مكيدة .... هذا مؤكد ... لن يتوقف الغرب عن تكرر ذات الأمر .... كم يخشون على ابنهم المدلل " إسرائيل " .... لعبة قذرة و مكشوفة .... بعد دقيقة ظهر نبأ جديد ..... نبأ قلب المقاييس و التحليلات التي يتشدق بها المحللين و السياسين
" ظهور بطاقة الشبح المعروفة في مكان التفجير و بأكثر من موقع " .... " اختراق موقع الأمم المتحدة الألكتروني و ظهور بطاقة الشبح " ..... الشبح يعلن مسؤوليته عن التفجير !!!!
_ لقد كسرتِ ساقكِ ؟؟
التفتت لمصدر الصوت لتجد مهاب واقفاً أمامها و جبيرة تحيط ذراعه :
_ أنت كسرت يدك
اقترب منها و هو يدقق بملامح وجهها :
_ هل أنتِ بخير ؟؟ هل تتألمين ؟؟
ارتبكت من نظراته القلقة و العطوف :
_ أنا .... أنا بخير ..... شكراً لك .... لقد أنقذت حياتي
قال مهاب و هو يبحر بعينيها الخضراء اللامعة :
_ لا ..لا تشكريني ... سأكرر الأمر ألف مرة لو لزم الأمر
شعرت بالدماء تتدفق بوجهها .. لتتورد خدودها بطريقة منحتها جمالاً ناعماً رغم وجودها على سرير المشفى ..تلبس ردائه ... و قدمها معلقة
_ حضرة المقدم ... أنا ... أنا .... شكراً
ضحك مهاب و قد شعر بمتعة توترها و اضطرابها :
_ أستاذة ريتاج ... يبدو أن حياتي ستقلب رأساً على عقب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نزل كابتن الطائرة من السيارة الفارهة التي قادها بنفسه و قد أوقفها أمام الطائرة الخاصة ... أسرع رجل أمن المطار و هو يقول :
_ كابتن سميث ستقلع اليوم ؟؟
أجابه الطيار و هو يمد له بمجموعة من الأوراق :
_ سأفعل السيد قصي جمال حصل على ترخيص الإقلاع ؟؟
_ يبدو أن السيد قصي يمتلك نفوذاً كبير ...من الغريب أن يحصل على موافقة للإقلاع بمثل هذا اليوم الأسود .؟
_ معك حق ...و رئيس وزراء بلاده ساعده كثيراً هل وصلت المضيفة و مساعد الطيار ...؟؟
_ لقد وصلت مونيكا و ديفيد هما في الداخل ...لكن مونيكا تبدو غريبة
_ كيف ؟؟
_ لا أعلم تبدو مضطربة قليلاً
أجابه الكابتن و هو يتجه لباب السيارة الخلفي :
_ أحداث اليوم أصابت الجميع بالتوتر ... هل تحققت من سلامة أوراقنا ؟؟
_ لقد فعلت يمكنكم الإنطلاق برحلتكم إلى البرازيل
فتح الكابتن الباب الخلفي ليقوم بمساندة قصي من كتفه تحت أنظار رجل الأمن الذاهل و هو يسأل :
_ ما بال السيد قصي ؟؟
_ لقد ثمل بطريقة مجنونة ... و لم يسمحوا لسائقه بالدخول للمطار فوقع الحمل على عاتقي
ضحك رجل الأمن بشدة و هو يقول :
_ يبدو أنه شرب مخزون نيويورك كاملاً من النبيذ
_ هؤلاء السياسين لا أمل منهم
تقدم رجل الأمن يساعد الكابتن برفع قصي و إدخاله الطائرة و بعد أن استقر في الكرسي خرج رجل الأمن و رحل .. أغلق الكابتن باب الطائرة و هو يقول :
_ هيا قومي بعملك
أسرعت المضيفة تمدد جسد قصي ... و هي تفك أزرار قميصه ... بينما احتل مساعد الطيار مكان الكابتن و هو يقول :
_ سيد قصي أنت ترعبني و قد تنكرت بصورة وجهي
_ أشكرك على مساعدتك كابتن
_ لا تشكرني فالمبلغ الذي دفعته يشتريني و عائلتي بكاملها
همس قصي و هو يخلع قناع الكابتن عن وجهه :
_ العائلة لا تشترى و لا تباع أيها المغفل
أسرع قصي حيث جسد زياد الساكن ينتزع عنه القناع الذي يحمل صورة وجهه هو قائلاً :
_ ريتشل .. هل هو بخير ؟؟
وقفت تضع يدها على خصرها تحرك يدها بعشوائية :
_ بخير ؟؟ هل تمزح ؟؟ أنه يموت ..يمووووووووووت و لازال يحتاج لكمية كبيرة من الدم
_ قلت لك خذي مني كل ما يحتاجه ؟؟ و لا ترددي كلمة الموت على لسانك
_ أنت مجنون ... ستموت لو استمر الوضع هكذا أنت مجرد بشر في النهاية
_ فقط اهتمي به هو .... واضح
زفرت مستسلمة و هي تعود لعملها تحت ظروف صعبة و معددات محدودة تمكن قصي من تهريبها إلى الطائرة
طلب قصي رقم أمجد يريد أن يحدث ياسمين .... التي ردت بنفسها و هي تقول :
_ قصي هل عثرت عليه ؟؟
_ لا تقلقي ياسمين .... لقد عثرت عليه و هو الآن بأمان .. سنغادر الولايات المتحدة سنتجه لريو دي جانيرو ... مشفى ألبرت سوتزر ..سينزل باسم مصعب خليل
_ هل هو بخير ؟؟ هل يمكن أن أتحدث إليه
قال برفق و عطف :
_ ياسمين .. زياد غارق بغيبوبة ... وضعه خطر... خطر للغاية....سيخضع للجراحة فور وصوله
لم يصله منها سوا صوت بكاء و شهقات ملتاعة .... شعر بألم فظيع يطعن صدره... نظر لجسد زياد الذي اتصل بكيس من دمائه و مراقب صغير لنبض قلبه الضعيف و ضغطه المنخفض ... قال بصوتٍ مرتجف :
_ أرجوك ياسمين أطلبي من الله أن ينجيه من محنته ..أنت تمتلكين قلباً طاهراً ... سيستجب الله لك ...
بصوت منهك و لاهث قالت :
_ أنا أفعل ذلك في كل لحظة ... كان الله معكما
_ سأراسلك حال وصولنا وبعد الأن لن أتصل بك هاتفياً سأرسل لك رسالة ألكترونية أخبرك بتطورات الوضع
_ هل يمكن أن أتجه للبرازيل بعد دخولنا المكسيك ؟
قال أمجد و هو يهز رأسه :
_ لا .. يجب أن تدخلي المغرب في أسرع وقت و من هناك يمكنك التوجه حيث تريدين ..؟
قالت بغضب و تمرد :
_ لماذا ؟؟ يجب أن أكون معه
_ لأنك دخلت المغرب بشخصيتك الحقيقة و يجب أن تظهري هناك و تخرجي بأوراقك الأصلية .. حتى لا تثيري الشكوك .. استخبارات الولايات المتحدة و كل دول العالم ستدقق بكل شيء في هذه الايام ... يكفي أن زياد لن يتمكن من التغطية على نفسه ..
أسندت ياسمين رأسها على مقعد السيارة و هي تفكر بأن وجود زياد وحيداً في مشفى داخل دولة غريبة هو أمر قاسي و مؤلم .. و ما قاله أمجد منطقي و صحيح نظرت للهاتف بتردد ..أغلقت عينيها و هي تحاول استجماع قوتها ... طلبت رقماً تحفظه جيداً .. بعد رنة و ثانية و ثالثة .. تسلل صوت دلال يطعن قلبها :
_ مرحباً
ابتلعت ياسمين ريقها بصعوبة و هي تقول :
_ مرحبا دلال .. أنا ياسمين
التفت حازم إليها يحدق بها غاضباً و أمجد فقد السيطرة على المقود للحظة واحدة ليمسك بزمام الأمور من جديد
قالت قد ارتجف صوتها :
_ ما الأمر ؟؟
أغمضت ياسمين عينيها بقوة و هي تقول :
_ لقد طلبت مني سابقاً أن أهتم بزياد و الآن أريد أن أطلب منك ذات الطلب
شعرت دلال بالحيرة و هي تتكلم مع غريمتها التي استولت على جزء من قلب حبيبها .. أكملت ياسمين و هي تقول بحزم :
_ زياد يحتاجك الآن ... أنا لا أستطيع أن أكون بقربه
_ زياد؟؟ ما الذي حصل له ؟؟
_ لقد أصيب في مهمته الأخيرة هو الآن في طريقه لمشفى ألبرت سوتزر في ريو دي جانيرو
قالت دلال جزعة و قد غلبها البكاء :
_ ما الذي حدث له ؟ هل ..
قاطعتها ياسمين وهي تقول بحزم :
_ لا أعلم .. لا أعلم و لكنه في وضع خطر يحتاجك و بشدة... يمكنك الدخول الى كندا عبر الحدود البرية بسبب توقف حركة الطيران و كونك تحملين الجنسية الأمريكية فذلك لن يشكل عائقاً و من ثم ستستقلين طائرة إلى ريو دي جانيرو... سينزل في المشفى تحت اسم مصعب خليل .. هل كلامي واضح لكِ دلال ؟
_ انت تتكلمين كزياد ..!!!
_ دلال!!!
_سأتحرك حالاً ...
أغلقت ياسمين الهاتف و هي تغطي فمها تمنع نفسها من البكاء ... ضرب حازم الباب بعنف و هو يصرخ بياسمين :
_ ما الذي فعلته ياسمين ..؟ كيف تجرحين نفسك أمام زوجة زياد الأولى ؟؟
تجاهلته ياسمين و هي تلهج بدعاء صامت أن يحفظ الله زياد من كل شر و امجد يقول بسخط :
_ما هذهِ المهمة التي كسرت كل القواعد و التعليمات !!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
خمس ساعات و هو يتسمر مكانه أمام غرفة العمليات كتمثال الشمع .. يدس يده بجيبه متكئاً على الحائط ... مغلقاً عينيه متوقف عن التفكير ... مشاعر متخبطة لا يفهمها ... أنفاسه أصبحت بطيئة و نبض قلبه يفوت دقات كثيرة
خرجت ريتشل تدفع باب الغرفة تزيل الكمامة التي تغطي فمها ... تقدم قصي ناحيتها ببرود كما لو أن الأمر لا يعنيه ... قالت و هي تخشى عليه من أخبارها ... فمهما كان شكل القناع الذي يرتديه الآن فقد رأت وجهه الحقيقي و خوفه الكبير على زياد
_ لقد أخرجنا الرصاصة من جسده و لكن هذه ليست مشكلتنا
بصوتٍ مبحوح مختنق سألها :
_ما الذي يحدث معه ؟؟ إصابته القديمة ؟؟
_ هذا صحيح يبدو انه تعرض لضربة قوية أدت لتهتك شديد في الكبد ... الأطباء منذ ثلاث ساعات يحاولون إصلاحه و لكنه متضرر بشدة سيحاولون لمزيد من الوقت و لكن ..
قاطعها صوت انثوي من خلفها قائلة بحزم :
_ عفواً هل تتحدثين عن مصعب خليل ؟؟
نظرت ريتشل إليها و هي تقول باستغراب :
_ من أنتِ ؟؟
همس قصي بصوت مسموع و هو يراقب عيني دلال تلمعان ..تشعان بالحياة ...:
_ دلال .. زوجة زياد
حدقت به ريتشل و هي تقول :
_ اسمه زياد ؟؟
تقدمت دلال من قصي و هي تقول متوسلة :
_ أرجوك ... كيف حاله ؟؟ما الذي يحدث معه ؟؟
نظر قصي إلى الأرض خزياً و خجلاً يعلن عن ذنبه و قد شعر بنفسه مكشوفاً امامها و هو يقول :
_ أنتِ تبصرين ؟؟
وضعت يدها المرتجفة على ذراعه و هي تذرف دموعاً :
_ هذا ليس مهماً الآن .. زياد ...
أغمض عينيه للحظة و هو يلتفت لريتشل :
_ و الحل؟؟
_ علينا القيام بعملية لزراعة الكبد ... لقد تم وضعه على أعلى قائمة المنتظرين
قال بعصبية و هو يمرر أصابعه بشعره :
_ و هل سيحتمل الإنتظار ؟
_ لن يحتمل جسده لوقتٍ طويل
غطت دلال فمها تمنع نفسها من الصراخ تلقي بجسدها على المقعد و قصي يضع يديه على خصره ينفث نيراناً من صدره :
_ ريتشل أرجوكِ
نظرت ريتشل لدلال بتردد لتتوقف عن التكلم بالإنجليزية .... و تبدأ الحديث باللغة الفرنسية :
_ نحن في البرازيل يمكنك القيام بشراء الأعضاء بسهولة
ضحك قصي متألماً و ساخراً و هو يقول :
_ سوف يقوم بفتح جرحة و إنتزاع الكبد المشترى و إلقاءه تحت أقدامه و انا لن أسمح لدماء غريبة أن تختلط بدمه
_ لم يبقى سوا أن يتبرع له أحد أقربائه بجزء من الكبد
سألها قصي بلهفة :
_ و هل يكفيه جزء من الكبد
_ نعم ...
_ سأقوم أنا بالتبرع ...
عضت ريتشل على شفتيها بغضب لتوقل بعدها :
_ تكلم معي بصراحة ما هي العلاقة التي تجمعك به
نظر قصي لدلال التي تنظر لهما بلهفة رغم عدم قدرتها على فهم الفرنسية ...فقد علمت أنهما يبحثان عن حلٍ لمشكلة زياد ... قال و هو يحدق بريتشل :
_ أخي .. هو أخي لكن لا يجب أن يعلم أحدٌ بذلك حتى زوجته
صمتت ريتشل و هي تنظر لقصي بقلق :
_ قصي ... زياد و انت لن تعود حياتكما طبيعية 100% بعد هكذا جراحة ... و خاصة زياد ... سيمر بفترة طويلة و متعبة من العلاج هذا إن تقبل جسده العضو الجديد و لم يرفضه ...
طوق قصي كتفي ريتشل و هو يقول متوسلاً و قد اختنق صوته
_ أنا لا أبالي ..ففط أنقذيهِ أرجوكِ .. لا يجب أن يموت ... لن أحتمل أمراً كهذا
دمعت عيني ريتشل و هي لم تعتد منه ضعفاً كهذا و هي تقول :
_ حسناً تعال معي لنقوم بالفحوصات لنتأكد من التطابق بين الأنسجة
التفت قصي لدلال و انحنى ليصبح بمستوى جلستها :
_سيدة دلال .... سيكون زياد بخير لا تقلقي ... أعدك بذلك ....الله سيكون معه أنا واثق من ذلك
مسحت دلال دموعها و هي تقول بثقة :
_ سينجو ..نعم ... شكرا لك ..شكرا لك
_ اسمعيني الآن جيداً ... بعد إجراء العملية بقليل سيتم نقل زياد إلى طائرة طبية مجهزة ...ليعود للبلادنا
تقدمت ريتشل و هي تقول معترضة :
_ عن أي نقل تتحدث ... هل جننت ؟ قد تقتله بفعلتك ...
وقف قصي و هو يقول بحزم :
_ ريتشل ... بعد إجراء العملية ... سيكون طاقم من رجالي جاهزين لنقلي و زياد لطائرة مجهزة و معقمة ... ستكون أفضل من أي مشفى .... أثق بكِ لتقومي برعايته حتى وصولنا و من هناك سيكون كل شيء معدّ...
هزت ريتشل رأسها موافقة و هي تقول :
_ كما تشاء لا فائدة ترجى من النقاش معك
_ أمر آخر لا أريد أن يعرف زياد بهوية المتبرع مهما كان الثمن ..سيدة دلال ..ريتشل ... أرجوكما
قالت ريتشل و هي ترفع كتفها بقلة حيلة :
_ هيا يا قصي يجب أن نقوم بالفحوصات سريعاً
بعد أن تم أخذ العينات و قد أظهرت النتائج الأولية تطابقاً بنسبة كبيرة بدأ إعداد قصي للعملية ... و الأموال التي دفعها قصي للمشفى جعلت الجميع في خدمته و زياد و بسرعة كبيرة ...
بقي قصي وحيداً في غرفته الباردة ...أرسل لياسمين رسالة يخبرها بتطورات الوضع و قبل دخول غرفة العمليات ...احتاج أن يسمع صوت سلام.... بعد ثلاث رنات جاءه صوتها ناعماً غافياً :
_ أهلاً قصي
ابتسم بألم و حرقة :
_ كيف حالك حبيبتي ...؟؟ كيف وجدت صقلية
_ انها ... رائعة و جميلة
لاحظ ارتجاف صوتها مما أثار في نفسه القلق :
_ سلام ...هل أنتِ بخير ؟
_ انا بخير لكن إرهاق السفر و الحمل أنهكني ....
_ يا حبيبتي ارتاحي سيكون كل شيء على ما يرام ...سوف ألحق بكِ فور استطاعتي ..لكن في اليومين القادمين لن أتمكن من الإتصال بكِ لا تقلقي علي
قالت سلام بصوت باكي مكتوم :
_قصي ..أرجوك لا تتأخر ... أرجوك
_سلام!!!هل أنتِ بخير .... أشعر بأن هناك خطباً ما
_ لا ... لا ... أنا بخير و لكن مشتاقة لك
_ و انا أيضاً حبيبتي ..ملاكي و سلام قلبي
أغلق الخط و صور مرعبة ترتسم بذهنه و لكن لم يصل أي منها للواقع .. لم يتصور انها تتحدث له من داخل قصر المستر أكس في بلادهما .... و السلاح موجه لرأسها بتهديد صريح ... إن أخبرته بكلمة واحدة عما يحدث .... فالموت مصيرها
وصل أمجد مع حازم و ياسمين لنقطة اللقاء مع أرماندو ليساعدهم على اجتياز الحدود من نقطة أمنة ....كان الظلام قد حلّ و أسدر ستاره و أصوات حيوانات الصحراء تزعق لتثير في النفس رعباً و خوفاً
_ أعتذر منكم لا نستطيع التقدم ؟؟
أجاب أمجد أرماندو باللغة الاسبانية :
_ ما الذي تعنيه بهذا الكلام ؟؟
_ لقد تم تشديد الحراسة على الحدود بعد حادث نيويورك ... علينا أن ننتظر لأسبوع أو أكثر حتى تهدأ الأمور ونتمكن من العبور
_ هذا مستحيل يجب أن نخرج هذه الليلة من هنا
_ لا ...لن أجازف هذه الليلة .. أقترح عليك أن تنزل في أحد الفنادق القريبة و .....
قاطعه أمجد بحزم :
_ لاااا ... سنتدبر أمرنا بفردنا
قال حازم بغضب :
_ هل جننت ؟؟ سيتم القبض علينا لا محالة
صرخ أمجد بدوره بعصبية و هو يدفع حازم من كتفه :
_ ليس لدينا خيار آخر علينا الخروج بأنفسنا
اشتعل الغضب بصدر حازم و مع كل الضغط الذي يعانيه منذ دخوله الولايات المتحدة ... كانت هذه الدفعة سببناً لإشتعال الفتيل .....
هاجم أمجد بكل قوته لينخرط الأثنين بقتال عنيف يفرغ كل منهما غضبه على الآخر .... و ياسمين تحدق بهما بعيون خاوية و ضائعة لتنهار قدميها بجانب السيارة .. تدخل أرماندو ليفصل بينهما و قد ناله نصيبه من اللكمات
ابتعد الإثنان عن بعضهما و هو يشتمان و يهذران ... قال أرماندو بعصبية :
_ اسمعاني .... أقصى ما أستطيع فعله تحديد أكثر النقاط أماناً على الخارطة و لكن دون ضمانات ....
رد أمجد باقتضاب :
_ إفعل
عاد حازم يحدق بأمجد و عيونه تقدح شرراً :
_ تريد منا التسلسل وسط ظلام الليل و كل ثغرة تم إقامة ثكنة عسكرية عليها !!!!! ..قد يكون الأمر سهلاً عليك و علي بسبب انخراطنا في الجيش و لكن ياسمين أضعف من أن تتحمل أمراً كهذا
_ سنهتم بها لا تقلق
تركه حازم و هو يمرر يده بخصل شعره ساخطاً ....اصطدمت عيناه بمظهر ياسمين .... أسرع إليها قلقاً و هو يقول :
_ياسمين .... ياسمين .. ما الأمر ؟؟
لم تستجب له و هي تحدق بالفراغ دون أن تطرف بأهدابها ... توقفت عن التفكير و الشعور .... وضع يده على كتفها يهز جسدها بقوة وهو يصرخ و قد تنبه أمجد للوضع و أسرع حيث هما :
_ياسمين ..... ما الأمر ؟؟ حبيبتي هل تسمعين صوتي
لفت نظر أمجد شكل الهاتف و قد ترخى بين يدها .. أمسك به ليجدها تقرأ رسالة بالبريد الإلكتروني ..كانت رسالة من أماني :
" حبيبتي ياسمين ... أعتذر عن طريقتي بإيصال الخبر إليكِ و لكن حاولت الإتصال بهاتفك لأجده مغلقاً بكل مرة .. و لكن عليك العودة للبلاد بأسرع وقت ... سعاد في وضع صحي خطر .... و هي غارقة في غيبوبة منذ يومين .... و والدك منهار تماماً .. هما يحتاجان لوجودك ... "
و رسالة ثانية من قصى يبلغها بعملية زياد
سأل أمجد حازم بقلق :
_ سعاد .. من هي ؟؟
قال حازم و هو يربت بيده على وجه ياسمين البارد :
_ إنها أختها .. ما الأمر ؟؟
مدّ أمجد الهاتف لحازم الذي فهم سبب حال ياسمين فور قرائته لنص الرسالة ... عاد لياسمين يحيط وجهها بين كفيه يجبرها على النظر لعينيه و هو يقول :
_ ياسمين .. عليكِ أن تتماسكي ... الإنهيار في هذه اللحظات قاتل ...
لم تستجب له و قد أصبحت تعيش في فلكٍ خاص ليتوقف الألم و الإحساس ....
ضمها حازم لصدره و هي يقول بلوعة :
_ ياسمين أرجوك .... سعاد و والدك و زياد بانتظار تواجدك و دعمك ... عليك أن تجمعي شتات نفسك ... و لا تنسي يزن .. أنه يحتاج أمه بجانبه قوية و ثابتة
كان لذكر اسم يزن تأثير السحر عليها لتلتمع الدموع بعينيها و هي تطرف بأهدابها سريعاً... انتشلت نفسها من أعاصير همومها الثقيلة و هي تبتعد عن حازم لتقف على قدميها و هي تقول بصوت مرتعش:
_ لنتحرك... يجب أن نعود لبلادنا سريعاً
مضت ساعة من الزمن و الثلاثة يسيرون تحت جناح الليل ... و مع اقترابهم من الحدود ارتفعت دقات القلوب بهدير مخيف و ناقوس الخطر يقصف بصدورهم .... وصلوا للسياج المعدني المكهرب ... اخرج أمجد المعدات التي حضرها أرماندو ..... و قص السياج بمقص يمنع الصعق و بعد عملية طويلة و بطيئة تسلل الثلاثة و هو يحبسون أنفاسهم ...
للحظة و هم يتقدمون شعروا بالأمان وأن الأسوء قد انتهى ... نور من برج مراقبة عالي سلط عليهم و جرس الإنذار يكسر سكون الليل ..
_ صرخ أمجد
_ أركضا .. لا تتوقفا حتى نصل لأقرب مدينة
وضع حازم يده على ظهر ياسمين و هو يركض يحثها على مجاراة سرعته و قد سكنها الذعر و الرعب ... أصوات إطلاق النار و الصراخ باللغة الاسبانية زاد من هلعها.... سقطت أرضاً و قد تعثرت بصخرة حادة ... جرحت ساقها ...عاد أمجد و حازم لموقع سقطتها ... يرفعانها كلاً من ذراع ليعودوا للركض بخطوط متعرجة يبتعدون عن الأضواء و الرصاص
كان الأدرنالين يضخ في أجسادهم يسابقون الموت و لكن سيارة جيب عسكرية كانت أسرع ... قطعت طريقهم و ثلاث جنود نزلوا منها مدججين بالسلاح .. لم يضيع أمجد دقيقة واحدة و هو يطلق الرصاص على أقرب جندي ... وقبل أن يستوعب الأثنان الآخران الموقف اندفع حازم كالثور يطيح بالجندي الثاني ليفقده الوعي .... أما الجندي الثالث استل سلاحه يطلق النار على أضعفهم ... تلك الواقفة تراقب الوضع بذهول .... تنبه حازم لاتجاه الفوهة ...هجم عليه سريعاً ليسقطه أرضاً بعد إنطلاق سيل من الرصاصات ... لكمة و ثانية و ثالثة .... و بعدها فقد الجندي الأخير الوعي
نهض حازم مترنحاً و هو يمسك ياسمين من كفها يحثها على معاودت العدو ... استمر الثلاثة بالركض لساعة كاملة حتى لاحت امامهم أضواء المدينة ... ليتوقفوا يلتقطون أنفاسهم و قد تلوثت وجوههم بالأتربة و العرق و أمجد يقول متعثرا بحروفه :
_ لقد وصلنا انتهى الأمر ... سنتوجه لمطار مكسيكو و سيرحل كل منا لوجهته بجوزات السفر المزيفة و بعدها سنلتقي في بلادنا
عند كلمته الأخيرة انهار حازم يسقط على وجهه و هو يردد
_ بلادنا ..بلادنا
أسرع أمجد و ياسمين إليه ...رفعه أمجد و هو يقلبه على ظهره بصعوبة .. شعر بسائل ساخن يتدفق صدر حازم ...نظر ليده ليجدها قد تلوثت بالدم الأحمر القاني ...
حدق بوجه حازم الشاحب و دموعه تكاد ان تنكسر ..... سقطت ياسمين إلى جانبه تسند رأسه على قدميها و هي تقول بذهول
_ لقد أصبت بسببي ... حازم ..بسببي
قطع أمجد القميص عن صدر حازم ليصرع بوجود خمس ثقوب تفرقت على أنحاء صدره ..... نظر إليه بقلق لينهض بعدها و هو يقول :
_ سوف أحضر سيارة لنقوم بنقله للمشفى
شهقت ياسمين باكية و هي تمسح العرق المنسكب عن وجه حازم و هو يتأرجح بين الوعي و الغيبوبة ...لينسل لعالم الظلام بقوة ... لكن كف ياسمين التي ربتت على وجنته جعلته يستفيق و هو يحدق بعينيها الدامعة و شفتيها المرتجفتين .... مد كفه المرتعشة يلمس خدها و هو يقول بخفوت :
_ سامحيني .... سامحيني ياسمين ....
هزت رأسها باعتراض و هي تقول بهمس :
_ ليس هذا الوقت المناسب لمثل هذا الكلام .. عليك ان تهدأ
_ أرجوكِ .... قولي أنك سامحتني على كل ما ارتكبته بحقك .... لقد كنت وغداً و أنانـ ...
قاطعته و هي تقول بحزم هاديء :
_شششش ... لقد سامحتك صدقني والآن إهدأ ..... لا تتعب نفسك
إبتسم بألم و هو يقول بضعف :
_ لقد أحببتك أكثر من نفسي ..... يالله كم كنت غبياً لم أحفظك .. خسرتك ...
_هذا يكفي .... يكفى
بدأ يسعل بعنف و رذاذ الدم يخرج من فمه ... شعرت ياسمين بقلبها ينفلت من مكانه ليسقط ملتاعاً و مجروحاً أكثر و أكثر بدأ صوته يخبو و هو يشد ياسمين لتقترب منه :
_يزن ..يزن ...أخبريه عني ...قولي له أني أحببته كثيراً ... كان أغلى الناس على قلبي...هو طفلنا أنا و أنتِ
عضت ياسمين على شفتيها بقوة و هي تحاول السيطرة على مشاعرها المنهارة و هي تقول له بصوت مبحوح :
_ستخبره بنفسك ..لا تقلق ستكون بخير
تابع حازم كلامه و قد اقترب من حدود الهذيان :
_ زياد سيربيه معك ...هو رجل رائع سيكون قدوته ... أثق به ...سيعتني بكما
بدأت عينيه تتحركان بسرعة ... البرود يسيطر على جسده ... أنفاسه اختنقت ليميل رأسه وهو يشهق ليستكين جسده ...صرخت ياسمين و هي تهزه بقوة :
_حازم ... حاااااااااازم ...استيقظ ... أرجوك ....أنت من سيربى يزن ... استقيظ أتوسل إليك . حااااااااااااااااااااازم .... لااااااا ..لن ترحل ... اتسمعني .... لن ترحل أيها الأحمق
انهارت ياسمين بالبكاء على صدره و هي ترجوه البقاء و لكن الروح غادرت الجسد الفاني لترحل لدار الحق
بعد أربعة أيام
كل ما مرّ مجرد حلم .... هو لم يكن بنيويرك ... لم يتلقى رصاصة في خاصرته .. تلك الفتاة الصغيرة مجرد وهم .... كل ذلك لم يحدث ... يشعر بنفسه يطفو فوق السحاب ... منعزل عن الواقع في عالم خاص ... لا هموم ...لا مشاكل..... لا ألم ... صوت يعشقه يتسلل له من وقت لآخر و صوت ثاني ينادي من بعيد بهمس غير مفهوم ...
فجأة أختفت كل السكينة ... شعور بالألم يهزّ كل خلايا جسده ... ضعف لم يعتده من قبل ... و واقع يصفعه بقسوة ليعود إدراكه مرة واحدة ... فتح عينيه بقسوة و هو بنظر حوله ...أين هو .؟؟ قد تبدو كغرفة مشفى و لكن هذا الإهتزار !!! هل هو على متن طائرة ... نظر حوله بوهن .... تحيط به أجهزة طبية ..... و تلك النائمة على مقعدٍ إلى جانبه ... دلال !! ما الذي يحدث معه ؟ حاول رفع نفسه و لكن أسرعت امرأه شقراء بعيون خضراء تحثه على البقاء مكانه .. نهضت دلال تسرع إليه و هي تقول مبتسمة رغم الدموع التي تساقطت :
_ زياد ..لقد استيقظت حبيبي.... حمداً لله على سلامتك ... حمداً لله
حاول أن يأخذ نفساً عميقاً حتى يستجمع قوته ..لكن كانت محاولته مؤلمة ليتأوه ألماً ... قال لاهثاً :
_ ما الذي يحدث معي ؟؟
قالت ريتشل بهدوء :
_ حضرة العقيد لقد خضعت لجراحة صعبة.. لقد قمنا بعملية لزراعة الكبد بعد أن تهتك و تلف كبدك بسبب إصابة قديمة و الرصاصة التي أصابتك زادت الوضع سوءاً... و الآن نحن بطريقنا إلى بلادك ... سنصل بعد خمس ساعات
حدق بها زياد يحاول استيعاب الأمر ...أغلق عينيه بقوة و هو يتذكر وصوله للشقة الأمنة في شارع برودواي ..ليصبح كل شيء بعدها ضبابياً ....
_ من قام بكل هذا ؟؟
ارتجفت حدقت عيني ريتشل و هي تقول :
_ لا أعلم ...
علم انها تكذب و لكنه اختار تجاهل الأمر في الوقت الحالي ... نظر لدلال و هو يتسأل:
_ياسمين و الأخرون ..أين هم ؟
أجابته دلال و هي تمرر أصابعها بين خصل شعره :
_ ياسمين بخير .. تنتظرك في بلدنا .. أما الأخرون لا أعلم عنهم شيئاً
قد عاد الدوار يسيطر على رأسه ... ليعود إلى غيبوبته عسى أن تلتئم جراحه ليتمكن من التماسك
زفرت ريتشل بتوتر و هي تتوجه لقسم الطائرة الثاني و الذي تم فصله بواسطة ستار ثقبلة... تقدمت ناحية قصي الجالس على سريره يحدق بالسماء الزرقاء ..
_قصي .. لقد أستيقظ زياد منذ قليل هو بخير
أغلق قصي عينيه بارتياح و هو يحرر أنفاس صدره .. نظر لريتشل بامتنان و هو يقول لها :
_ شكراً لك .... لن أنسى ما فعلته من أجلنا ..
ابتسمت بنعومة و هي تهمس له بحب :
_ أي شيء من أجلك قصي ... أي شيء
_ هل سيكون بخير ؟ هل سيعود لطبيعته ؟؟
_ جسده قوي و قدرته على التحمل عالية .. سيكون على ما يرام لكنه يحتاج لوقت طويل للتعافي و إن كانت حياته تشبه حياتك كما رأيت من الندب التي تنتشر على جسده ..فإن العنف و الإرهاق الشديد سيضره كثيراً ...لن يكون قوياً كما كان...لكنه سيعيش كأي إنسان طبيعي
أسند قصي رأسه على قائمة السرير يغمض عينيه لينام بارتياح لم يعرفه منذ دهور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
خيوط الصباح الأولى تداعب عينيه المرهقة و هو يسير باتجاه المحل الرئيسي .. لا يريد أن يقابل أمه و هو بهذهِ الحال ..ستجزع حتماً ... ذنب ثقيل يقصم ظهره ... مقتل حازم ما كان ليحدث لو انه استمع إليه ... هو السبب ... لقد دفنه بيده في صحراء المكسيك وحيداً دون عائلته ... لن يكون له قبرٌ معروف المكان يزوره فيه ابنه و محبيه ليقرأ الفاتحة على روحه
وصل المحل .... تذكر أن المفاتيح ليست معه ... و اليوم عطلة ... وقف أمام الواجهة الزجاجية ثابتاً ..حائراً ... فاقداً الأمل ... كارهاً الحياة
تفاجأ بالباب يفتح من الداخل لتطل عليه بنظراتها القلقة تهمس باسمه :
_ أمجد ... هل أنت بخير ؟
تسارع نبضه لحدّ مجنون و قد وعى للمرة الأولى معنى أن يتحمل انسان ذنب آخر ... نورا تعيش مع خطيئتها بحق أختها و هو عليه أن يعيش و دماء حازم تلوث يديه
أسرع يدخل المحل يكتم ثورة مشاعره ... يتجاوزها و هو يسرع يريد الإختباء من نفسه و من مشاعره في مكتبه ..لكن نورا لم تمهله لدقيقة و هي تلحق به تناديه :
_ أمجد .. ما الأمر ؟ ما الذي يحدث معك ؟؟
انهار جالساً على مقعد مكتبه يغطي وجهه و هو يقول :
_ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ اليوم عطلة ؟
قالت نورا و هي تقترب منه :
_ أعلم ...هناك بعض الاعمال المتراكمة ..لقدوصلتنا البضاعة الجديدة التي سافرت من أجلها
قال أمجد دون أن يرفع رأسه :
_ أريد ان أبقى وحيداً نورا .... أرجوكِ أن ترحلي الآن
فركت نورا كفيها بتوتر و هي تشعر بالذعر على حاله ... أرادت أن تقترب منه أكثر لتواسيه ... و لكنها لا تملك هذا الحق ... خشيت أن تثير غضبه أكثر ... مشت خطوة واحد تريد المغادرة ..لكن صوته المتوسل جعلها تلتفت إليه بلوعة و هو يتقدم ناحيتها يفرك رأسه بقسوة و دموع عينيه تجرح قلبها :
_ نورا ... أحتاجك ... أنا ... أنا متعب ... متعب للغاية ...
أسرعت إليه تقف أمامه و هي تشاركه مدامعه :
_ أمجد .. ما الأمر ؟ أشعر بالخوف عليك
هز رأسه بأسى و هو يقول :
_ لا تسأيلني عن هذا الأمر ..لا أستطيع البوح به .. لكن ... أبقي معي .... أرجوكِ
هزت رأسها موافقة و هي تقول له بحنان :
_ كما تشاء .. أنا لن أتركك أبداً ...ثق بي
جلس بتهالك على الأريكة و نورا تتبعه جالسة بجانبها تضع يدها على صدرها تهدأ خفق قلبها المذبوح على حال حبيبه
زرع وجهه بين كفيه يكابد لوعة و حرقة لن تنطفيء مهما مرت الأيام ... شعر بيد حانية تلمس ظهره تحاول بث الطمئنينة لنفسه و لكن الأمر ثقيل و مريع ... دون وعي منه ... ألقى برأسه على حجر نورا يبكي بلوعة ... يطلق صرخات كوحشٍ وقع بالفخ ... لم تملك نورا سوا أن تمسد رأسه بحنان و هي تبكي ألمه و قهره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هبطت ياسمين من الطائرة القادمة من المغرب تعرج بشكلٍ خفيف إثر إصابتها و قد استعادت مظهرها الطبيعي ... كان هواء بلادها مختلفاً بث بعضاً من الحياة لروحها التي تحتضر ... و لكن سرعان ما عادت لتختنق و صورة أمجد يدفن حازم في أرضٍ غريبة ... يصلي عليه وحيداً
قطع صوت مهاب تلك الصور القاسية و هو يتقدم سريعاً ناحيتها ...
_ ياسمين حمداً لله على السلامة
نظرت لذراع مهاب المعلقة برقبته و هي تقول :
_ هل أصبت بسبب الإنفجار ..؟؟
_ أنا بخير الآن .. لنذهب ..سأقلك للمشفى عند سعاد
مشت إلى جانبه و هي تسأله بصوتٍ منهك
_ هل وصل أمجد ؟؟
_ لقد وصل منذ ساعتين ... يبدو منهاراً تماماً
_ و حازم ؟؟
تجمد مكانه و هو يحدق بعينيه الدامعتين لا يفهم ما تريده ..لتستكمل قائلة :
_ لا يصح أن يبقى مدفوناً بعيداً ... و على عائلته أن تعرف أن ابنهم قد قتل وسط مهمة تهم البلاد كلها
ابتسم مهاب بألم و هو يعود لتقدمه :
_ لا تقلقي ..سوف يتم إحضاره إلى هنا و تكريمه أمام البلاد بأسرها ...
_ جيد و زياد ؟؟ هل رتبت أمر وصوله ؟
نظر لساعته و قد وصل للسيارة و هو يقول :
_ من المفترض أن يصل بعد خمس ساعات سأستقبله بنفسي و قد رتبت نزوله في ذات المشفى الذي تتواجد فيه سعاد
ركبت إلى جانبه و هي تتمتم شاكرة ... تسند رأسها على النافذة تحدق بعيداً غير مصدقة أنها عادت لبلادها ... و لكن أي عودة هذه ..قلبها يحترق على حازم الذي ضحى بحياته ليحميها ... سعاد تصارع الموت ... زياد بعيد عنها مع دلال يخوض صراعاً صعباً و عقيماً ... و قصي منحه جزء من جسده خفية عنه كما أخبراها في أخر رسالة ... لو علم زياد بالأمر فلا ضمان على ردّ فعله
كان الصمت ثقيلاً على نفس مهاب قال ليقطعه :
_ لقد قامت الجهات الأمنية بإلقاء القبض على حمزة بعد التفجيرات ...
نظرت إليه ياسمين بقلق و هي تسأله بصوتها المبحوح:
_ لماذا ؟؟
_ بسبب طلب زياد تعيني ضمن طاقم الحراسة الخاص لرئيس الوزراء أثناء المؤتمر في مبنى الأمم المتحدة و بعد التفجيرات التي حدثت خافوا أن يكون الفريق على علاقة بالأمر
شدت ياسمين على أسنانها بغضب ....مجرد الشك فيهم هو أمر مرفوض ...ليس بعد أن مات حازم وأوشك الباقون على فقدان حياتهم ..تابع مهاب كلامه :
_ حمزة كان عنيداً و لم يفصح عن أي معلومة تتعلق بعمل الفريق ... ظهور بطاقة الشبح جعل الأنظار تبتعد كلياً عن حركة قدس الأقداس و أي جهة عربية أو إسلامية .. و بعد عودتي أوضحت كل شيء لقائد الأركان ... و من ثم أطلق سراحه
أسندت ياسمين رأسها على مسند المقعد بتهالك قائلة بضعف :
_ الحمد لله .. الحمد لله .. تكفينا الخسائر التي وقعت .. لن أحتمل حدوث أمر جديد
وصلت المشفى قبل مافدرة مهاب لإنجاز بعد الأعمال قبل وصول زياد سلمها هاتفاً جديداً ليتمكن من التواصل معها .... بخطى مترددة مشت لغرفة سعاد ... تتمنى أن يكون مرضها مجرد وهم أو تخريف أصابها ... سعاد موجودة في منزلها مع يزن ينتظران عودتها .... ولكن رؤية والدها يجلس على مقعد المشفى منحني الظهر وقد انكمش جسده ليصبح ضئيلاً .... و مظهر سامر متكئاً على الحائط يغلق عينيه و قد حفر التعب خطوطه على وجهه الشاحب أكدت أن سعاد تنازع الموت حقاً.... أمتلأت عيناها بالدموع و هي تقترب تنادي أباها الذي وقف سريعاً يحتويها لصدرهِ كما لم يفعل منذ سنوات يبكي عمره الذي ضاع بقسوته و جبروته بعيداً عن بناته ...
_ أختك يا ياسمين ... أختك ...سعاد
قالت و هي تنتفض باكية على صدره :
_ أعلم بابا .. أعلم ... ستنجو ... ستجو
_ أخشى أن تلحق بأمك .. لن أحتمل فقدها هي الأخرى
لم تتمكن ياسمين من الرد عليه و هي ترتجف خوفاً و ألماً
وقف سامر أمام هذا المشهد و الألم في قلبه وصل لحدود لا تطاق ...ابتعدت ياسمين عن والدها تقترب من سامر و هي تضم نفسها تحاول أن تهدأ ارتعاش خلايا سدها...و دون وعي منه أخذها لصدره بحنان و هو يهمس لها :
_ ستنجو ...سعاد قوية .. قوية للغاية
هزت رأسها توافقه و هي تهمس بخفوت :
_ زياد .... حازم ....
ضمها بقوة و هو يقول بلوعة :
_ أعلم .... أعلم .. لقد أخبرني مهاب بكل شيء
مرّ الوقت ببطء و لم يملك أحد سوا الجلوس و الدعاء لتمر هذه المحنة القاسية ...... نظرت ياسمين لساعتها لقد اقترب موعود وصول زياد ..لن تحتمل الإنتظار ..تريد ان تلقاه بالمطار ..... وقفت و هي تهمس لسامر :
_ سأذهب لإستقبال زياد ...
وقف سامر و هو يقول لها :
_و ما الداعي لذلك ؟؟ ... سيحضر إلى هذا المشفى
_ أعلم .. لكن ... أريد أن أراه بأسرع وقت
مدّ يده إلى جيبهِ يُخرج مفاتيح سيارته و قد تفهم لهفتها للقاء زوجها :
_ خذي سيارتي كوني حذرة
ابتسمت له و هي تأخذ المفاتيح تسرع لسيارته و قلبها يسبقها للقاء حبيب طال غيابه
... بعد مغادرتها ببضع دقائق .. ارتفع صوت إنذار الخطر من غرفة سعاد ... ليهرع الأطباء و الممرضين لغرفتها .... تملك سامر الجزع و هو يسرع لدخول غرفة سعاد يراقبهم و هو يعملون على إنعاش قلبها المتوقف من خلال الصعقات الكهربائية المتتالية و مع كل إنتفاضة لجسدها يحترق سامر و أنفاسه تذوي بصدره ... همس بخفوت يناجيها :
_ سعاد ... لا تتركيني ...لا ترحلي ... لقد انتظرتك طويلاً ... و سأنتظرك للأبد حبيبتي ... لكن لا ترحلي
تعرج الخط المستقيم على شاشة مراقب القلب و بدأت أرقام الضغط بالأرتفاع لترتاح الوجوه و تلهج الألسن بالحمد و الشكر لله
انهارت أقدام سامر ليتكيء على الحائط يخفي وجهه بين حنايا ذراعه يحاول جاهداً أن يبقى واعياً
انطلقت سيارة الإسعاف من المطار إلى المشفى و قصي يقف أمام نافذة الطائرة يرقب أخاه وقد كان في استقباله شخصيات على مستوى عال... و هو يهمس بخفوت :
_ رافقتك السلامة أخي ... كُن بخير أرجوك
وقفت ريتشل خلفه و هي تقول :
_ متى ستصل سيارة الإسعاف الثانية
نظر قصي إليها و هو يرتدي سترته :
_ أي سيارة ثانية ؟؟
قطبت ريتشل جبينها و هي تقول مشددة على كل حرف :
_ السيارة التي ستقلك إلى المشفى
ابتلع ريقه بصعوبة ...يشعر بالجفاف و الألم :
_ لن أدخل المشفى ..سأغادر من هنا قريباً بعد ترتيب بعض الأمور
صرخت ريتشل و هي تضرب كفاً بكف :
_ لقد جننت حتماً ... يجب أن تلقى العناية الطبية اللازمة سريعاً
أطبق قصي على كتفيها و هو يبتسم بشقاوة :
_ ريتشل ... لا تقلقي ..أنا بخير ...قلت بنفسك أنا قوي كالثور
_ لقد خضعت لجراحة صعبة قصي
_ فقط غادري الآن و نظمي أمور زياد مع الأطباء .... سأرتب أمور إقامتك هنا و عودتك للولايات المتحدة ... و أنا مستعد لأي شيء تطلبينه مقابل خدماتك معنا
أمتلأت عيناها بالدموع و هي تضع كفها على صدره :
_ لا أريد منك أي مقابل ..أنا مدينة لك بحياتي قصي ... فقط أهتم بنفسك و قل لزوجتك أنها أكثر نساء الأرض حظاً
إبتسم قصي بألم و هو يقول :
_ لا أظن أن دخول أيٍ كان لعالمي يسمى حظاً أبداً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصل زياد إلى المشفى و قد إستقرت أموره و هو يبحث بعينيه عنها ... لا يمكن أن لا تكون في استقباله...إستوى في جلسته متجاهلاً الأوجاع التي تقصف جسده ... أسرعت دلال قلقة و مهاب ينظر إليه بقلق :
_ زياد .. عليك أن تستلقي الآن ... لا تجهد نفسك
قال بحزم رغم إنهاكه و ضعفه :
_ أريد أن أتحدث مع مهاب على إنفراد
علم مهاب أن وقت المواجهة مع الرئيس قد حانت ... خرجت دلال و هي على يقين أن لا شيء سيثنيه عما يريده
وضع مهاب الكرسي قريباً من زياد و هو يجلس مستعداً للمواجهة ..قال زياد و هو يدقق بعيني مهاب :
_ ما الذي حدث ؟؟ ... هناك خطبٌ ما ... هل وقع سوء لأحد أعضاء الفريق
اضطرب مهاب و هو يتجنب نظرات زياد التي تخترق أعماقه .. حاول الإجابة و لكن الكلمات اختنقت في صدره
قال زياد بشدة :
_ مهااااب .. تكلم
بلل مهاب شفتيه و هو ينظر لزياد بألم :
_ لقد فقدنا حازم في صحراء المكسيك
أغلق زياد عينيه يهز رأسه ببطء :
_ فقدناه ؟؟
_ لقد .... أطلق عليه النار و هو على الحدود ... لقد ضحى بنفسه ليحمي ياسمين من الرصاصات التي أصابته
ألقى زياد بنفسه على قائمة السرير و هو يدلك رأسه بقوة ... و قد خسر الطاقة التي كان يتمسك ببقياها ...لقد خسر أحد أعضاء فريقه و هو غارق في غيبوبة بعيداً عنهم .... عاجز عن تقديم الدعم و المساعده حتى لزوجته
أخرجه صوت سامر الذي دخل غرفته للتو و هو يقول :
_ حمداً لله على سلامتك زياد ؟ لقد قلقنا عليك كثيراً
أجابه بوهن و قد لاحظ شحوبه :
_ شكراً لك سامر .. هل أنت على ما يرام ؟
_ أنا بخير
_ لااااا ... هناك خطبٌ ما ؟؟
قال مهاب و هي يزفر بغضب :
_ عليك أن ترتاح زياد .. توقف عن لعب دور المحقق
قال زياد بغضب :
_ أكره أن أبقى جاهلاً ...
قال سامر و هو يقلب عينيه بقلة حيلة :
_ سعاد تنازع الموت بسبب سم دسته إبنة عمي المجنونة ... هل أنت راضٍ الآن ؟
لم يتمكن زياد من التكلم و هو يضع يده على جرحه و قد أستبد به الألم بشدة... بعد دقائق سأل سامر مهاب :
_ أين ياسمين ؟؟
_ أليست عند سعاد ؟؟
رفع سامر حاجبه و هو يجيب بتردد مسترقاً النظر لزياد :
_ لقد خرجت بسيارتي لتستقبل زياد في المطار
انتفض مهاب من مكانه و زياد يحدق بهما بذعر :
_ ياسمين لم تصل المطار أثناء وجودي هناك
أسرع سامر يخرج هاتفه يتصل بهاتف ياسمين الجديد ليصدم بواقع وجوده مغلقاً ..أنزل الهاتف عن أذنه ببطء و قد تسارعت أنفاسه
أمسك زياد المصل يريد سحبه من ذراعه ...لكن يدّ مهاب منعته و هو يقول :
_ اهدأ .. سأبحث عنها قد تكون علقت بأزمة سير أو تعرضت لحادث ما ..لا تفترض الأسوء .. سأحرك كل عناصر العاصمة للبحث عنها ...
خرج مهاب سريعاً و سامر يضع يداً على خصره و الثانية على رأسه يشعر بأنه اقترب من فقدان عقله .... صوت مراقب الضغط و النبض هدر منبهاً للخطر ..دخلت الممرضة و الطبيب من خلفها .. طلب الطبيب من زياد الإستلقاء ... لم يجد القدرة على المقاومة .... آخر ما سمعه أوامر الطبيب بحقنه بإبرة مهدأة و قبل أي إعتراض غرق بغيبوبة إجبارية
شعر بأنه نام فقط للحظات و لكن فور استيقاظه و رؤيته للظلام و قد حلّ ... علم ان ساعات قد مضت ... انتفض من نومه غير مراعٍ لجروحه و وضعه الصحي ..صرخت دلال بذعر و هي تقول :
_ اهدأ بالله عليك ستؤذي نفسك
تسارعت أنفاسه و هدر قلبه و هو يسألها :
_ياسمين ؟.؟ أين هي ؟؟ هل عثروا عليها ؟
لم تجبه و هي تشيح بنظرها بعيداً عنه و قد كانت هذه الإجابة كافية له ليفهم أن ياسمين لازلت مختفية ... نزع عن جسده كافة الأجهزة الطبية غير ملتفت لاعتراض دلال و الممرضة المتواجدة
دخل مهاب في هذه اللحظة يراقب زياد الوقف على قدميه يبحث عن ثيابه .. أسرع إليه و هو يصرخ :
_ زياد هل فقدت عقلك ... عليك أن تهدأ ... و تعود لسريرك
_ هل عثرت على السيارة مهاب ؟؟
_ زيااااااااااااااد
صرخ زياد و هو يمسك بذراع مهاب :
_ أجبني فقط
شدّ مهاب على أسنانه و هو يقول :
_ لقد عثرنا عليها بالقرب من المطار خالية و هاتفها محطم بالقرب منها.. لا أثر لها في أي مكان
ترك زياد ذراع مهاب و هو يفتح الخزانة يلتقط ملابسه و دلال تذرف دموع الخوف و القلق و قلة الحيلة
تقدم مهاب منه و هو يهتف بحنق :
_ ما الذي تفعله زياد ستقتل نفسك بعد كل هذا العناء ؟؟
لم يلتفت إليه و هو يلبس بنطاله فوق رداء المشفى يسأله بحزم :
_ من الذي فعل كل هذا ؟؟ ها !!! .... اخراجي من الولايات المتحدة ... نقلي إلى البرازيل .. الحصول على متبرع بسرعة قياسية و في النهاية إعادتي إلى هنا
إلتزم مهاب الصمت و هو يراقب زياد يخلع رداء المشفى و يلبس قميصه يغلق الأزرار ببطء كما لو أن الأمر يتطلب منه مجهوداً جبار ...
هزّ زياد رأسه بعجز و هو يسحب مفاتيح سيارة مهاب من يده ... أسرعت دلال تقف بوجهه و هي تقول باكية
_ما الذي تفعله زياد ..... توقف عن هذا الجنون و عد لفراشك أتوسل إليك ..
تجاوزها دون أن يقول كلمة .... لحق به مهاب و هو يقول :
_ سأقوم بإيصالك حيث تريد ... لكن توقف عما تفعله
استمر زياد بتقدمه حتى و وصل للسيارة و مهاب و دلال يتبعانه ... قال بحزم يفتح باب السيارة :
_ لا .. هذه معركتي انا فقط
قاد السيارة متجاهلاً استغاثة جسده بالتروي و السكينة ... ينهب الطرقات مسرعاً يسابق الزمن ... انتهى زمن الصبر .. و حان وقت المواجهة ... ياسمين في خطر لا يعلم ماهيته و لا كنته
وصل لأبواب القصر .. توقع أن يجد بيادق الحراسة في انتظاره .....لكن البوابة الكبيرة كانت مفتوحة .... غرفة الحراسة فارغة ..... سيارة واحدة واقفة .... وصل للباب الرئيسي .. هبط من السيارة ينظر حوله .. يبدو القصر مهجوراً ... حتى الأزهار بدأ يعتريها الذبول بسبب قلة الإهتمام
ضرب جرس الباب وهو يتكيء على الحائط المجاور يشعر بالإنهاك والضعف ... لم يتلقى إجابة ... ضغط الجرس بشكل متواصل دون أن يرفع يده عنه فاقداً الصبر ...
سمع صوت خطوات مسرعة من خلف الباب .. ليظهر قصي بعدها يلبس قميصاً و نصف أزراره العلوية مفتوحة
عقد قصي حاجبه بشدة و هو يقول بغضب .... يغلق باقي أزراه :
_ يالله عليك ما الذي تفعله هنا ؟؟ هل فقدت عقلك ؟؟
خرج قصي من المنزل بسخط و هو يمسك بذراع زياد قائلاً بحزم :
_ سأعيدك للمشفى الآن
نفض زياد ذراعه من يد قصي و هو يدخل للقصر ...تبعه قصي بنفاذ صبر و هو يقول :
_ زياد ما الأمر الذي جعـ ...
قاطعه زياد و هو يحدق بعينيه ينفث لهباً وناراً :
_ أين هي ياسمين ؟؟
_ ياسمين ؟؟ لا أعلم .. ما الذي حدث ؟؟
هجم زياد على قصي يمسك به من تلابيب قميصه يهزه بعنف :
_ أين ياسمين يا قصي ؟؟ لقد اختفت منذ ساعات دون أثر
أمسك قصي كفي زياد و أبعدهما عنه و هو يقول بهدوء :
_ لا أعلم شيئاً عنها ... عليك أن تهدأ و تعود للمشفى و سأبحث عنها
ضحك زياد بسخرية مؤلمة و هو يدفع قصي من صدره باتجاه الحائط يقول من بين أسنانه :
_ يفترض بي تصديقك كالأبله و ترك الأمور ببن يديك .. هل ستقتلها هذه المرة ؟؟ أم انك ستحقنها بنوع جديد من السموم ؟؟ أو قد يكون لديك أفكار جديدة تفاجئني بها
حدق قصي بعيني زياد و هو يقول بثبات و هدوء :
_ قلت لك ..أنا لا أعلم أين هي ياسمين ؟؟ لا أملك أي معلومة عن هذا الأمر
رصد الصدق في عينيه هو حقاً لا يعلم شيئاً و لكن هذا لم يطفيء غضبه ليقول له:
_ تفجيرات مبنى الأمم المتحدة و اغتيال لوكاس ..لا علاقة لك بكل هذا كما أعتقد؟
أغلق قصي عينيه بقوة و هو يمر أصابعه في شعره يحاول جاهداً المحافظة على هدوئه:
_ يحق لك أن لا تصدق ما أقوله ..... لك كل الحق ... و لكن لست من قام بكل هذا ... انسحبت في اللحظة الأخيرة عندما رأيتك تتجول في حديقة المبنى ... تجاهلت تهديد المنظمة الذي شهدته بعينيك هنا في القصر .. تركت بطاقتي مخالفاً التعليمات حتى أدفع التهمة التي يحاولون إلصاقها بالغير
مسح زياد وجهه بكفه و قد تعرق جسده بشدة :
_ لا أستطيع أن أصدقك ... لا أستطيع ... أنت ..... أنت كابوس فظيع ... أحاول الإستيقاظ منه دون جدوى
انهار زياد جالساً على أقرب مقعد بحاول إلتقاط أنفاسه ... أسند قصي نفسه على الحائط القريب يقاوم ألمه .... ألم قلبه و روحه و جسده .... زياد هو الشخص الوحيد الذي يتمنى أن يكسب ثقته و احترامه بجانب سلام .. و لكنه خسر هذا الإمتياز منذ سار بطريق الإنتقام ... أي محاولة ستبدو سخيفة ...... لقد إرتكب جرائم فظيعة لا يمكن طمرها و نسيانها ... وضع يده على جرح العملية و قد شعر به ينزف ...بسبب ضربات زياد ...
بضع نقاط من الدم فقط تسللت إلى قميصه الأزرق تفضحه و تكشف سره .. أراد الأنسحاب بأي طريقة من أمام زياد .. و لكن عيني زياد كانت أسرع ... وقف مصدوماً و قد أدرك الأمر كله ..اقترب من قصي سريعاً يشد قميصه بقوة ... يقطع أزراره.. ليجد أمامه جرحاً ندياً في خاصرته .. في نفس مكان جرحه هو ... سهم جديد غرز في قلبه ... إن كان اختلاف أسمائهما جعله قادراً على إنكاره هو و أفعاله ... فإن دماء أخيه و جزءاً منه أصبح مزروعاً في داخله ... اختلطت دمائهما .. و ضع جزءاً من روحه في جسده .. أنقذه من الموت و السجن ...
إبتعد زياد عن قصي الصامت ... لم يجد شيئاً يقوله ... يعلم بأن زياد سيشعر يثقل رهيب يجثو على صدره ... رجل العدالة مدين لمجرم و قاتل بحياته ...
وضع زياد يده على جرحه و هو يقول ذاهلاً :
_ أنت تحاصرني ... تفرض علي قيوداً من نار ... ياليتني مت في ذلك الإنفجار لكان اهون علي من هذا الإرتباط
استيقظ مارد الغضب الساكن في صدر قصي ليتقدم من زياد سريعاً .. لكمه بقوة يسقطه أرضاً وهو يصرخ :
_ انت أحمق عديم الإحساس ... وضعت حياتي من أجلك على المحك و عاديت المنظمة التي ستنقض علي بأي لحظة تنهش لحمي ... لتأتي أنت متمنياً الموت ... تباً لك زياد ... إعتبر الأمر لم يحصل و لم يكن ... إفعل بي ما تشاء ...إن أردت سأذهب معك الآن أسلم نفسي و أعترف بحقيقتي ..أو أقتلني حتى ترتاح
نهض زياد يكابد ألمه و نيران سوداء تشتعل بعينيه ... يتقدم ناحية قصي و هو يمسح خيط الدم الذي تسلل من شفته :
_ لقد عشت عمري كله رجلاً للعدالة أحارب أمثالك بلا رحمة أو شفقة .... جمدت الإحساس في صدري ... تجاوزت الثلاثين دون أن أعرف ما معنى الحب ... لن أسمح لنفسي بالرضوخ لمشاعر و ظروف خاصة ... حتى و إن تعلقت بأخي الأكبر الذي منحني جزءاً من جسده
إبتسم قصي و هو يلجم دموعاً تلح بالإنكسار على صفيحة وجهه الحليق :
_ لم أعد أهتم بشيء ما دمت نطقت بكلمة أخي ...هذا يكفيني
تنهد زياد بإرهاق و هو يستند على الحائط :
_ انت مجنون .. مجنون ...
قال قصي و هو يحدق بقميص زياد و قد تشكلت عليه بقعة كبيرة من الدم :
_سأغير ملابسي ..سأقلك للمشفى جرحك ينزف بشدة أيها العنيد ... و بعدها سأبحث عن ياسمين .. سأعثر عليها لا تقلق
قال زياد و هو يجاهد للبقاء واعياً :
_ لست بحال أفضل من حالي ...جرحك ينزف أيضاً
صوت إنذار خافت جعل الإثنين يبتلعان ألمهما ... نزل قصي سريعاً يدخل إلى المكتب الواسع و من خلفه زياد و هو يقول :
_ لقد تجاوز احدهم البوابة الرئيسية
فتح شاشة الحاسوب لتظهر لهما ثلاث سيارة جيب ضخمة مسرعة ... شحب وجه قصي للحظة ...و لكنه عاد يلبس قتاع البرود و هو يقول لزياد :
_ يجب ان تغادر حالاً استعمل الباب الخفي
حدق زياد به قلقاً :
_ من هؤلاء ؟؟
أخرج قصي مسدساً من درج مكتبه و هو يقول :
_ زياد إرحل الآن أرجوك .. وجودك سيزيد الأمور تعقيداً
قال بعناد و هو يخرج مسدسه من تحت قميصه :
_ سأبقى معك .. انهم من المنظمة ... صحيح؟؟
أغمض قصي عينيه بأسى و هويستل حقنة من الدرج و يزرعها في عنق زياد بحركة سريعة ..لم يتمكن زياد من تفاديها ...قال قصي بأسى :
_ أنا آسف .. آسف ... لكن لا يمكن أن أعرضك للخطر
انهار جسد زياد سريعاً و هو يرتجف ...تلقاه قصي بين ذراعيه ... وضعه على الأرض بهدوء و هو يقول :
_ لا تخف ..هذه المادة سوف تجعلهم يعتقدون أنك ميت ... ستخفض النبض في جسدك لحدٍ كبير يجعل الشعور به مستحيلاً وسوف تبطء أنفاسك ... ستعود لطبيعتك بعد ساعة أو أقل لم أحقنك بكل الكمية لأن جسدك ضعيف ...
كان زياد يسمع كل كلمة و لكنه غير قادر على الحركة أو الكلام ... تمنى أن يقتله على فعلته هذه ... يبدو أن هذه الحقنة كانت طريقه للنجاة من المنظمة .... أراد تزيف موته ... و الهرب .... !!!!
وقف قصي و هو يستل مسدسه ... أطلق النار على السقف ... ليوهم القادم بانه قتل زياد .. و الدماء التي تنزف من جسده ستدعم كذبه ....أراد الخروج من المكتب و لكن أكثر من عشر رجال أقتحموا المكتب يحملون السلاح . بصوبون نحو هدف واحد ... صدره هو ...
قال قصي ببرود و هو يحمل مسدسه بتراخي :
_من انتم ؟؟ ما الذي تريدونه ؟؟
جاءه صوت يحفظه جيداً يكسر كل الحقائق التي رسمها في الطريق الذي يريد أن يسلكه ... ظهر من خلف الرجال يستند على ذراع امرأة ذات ملامح مكسيكية بشعر بني مسترسل :
_ أيها الفتى هكذا تستقبل معلمك بعد غياب
وقف قصي مشدوهاً و هو يهمس بوجل :
_ ريكاردو
تقدم الستيني ليجلس على أحد المقاعد القريبة بحدق بجسد زياد و هو يقول :
_ هذا أنا أمامك في وضعٍ اكرهه حقاً ..لطالما كنت تلميذي المفضل و المميز و لكنك خيبت أملي ....
وقفت إيزابيلا بجانب و الدها تراقب الوضع بجذل ...علمت بأن نهاية قصي قريبة و سوف تستمتع بكل لحظة حتى ترى دمائه تسيل
قال قصي و هو يقترب من معلمه ببطء
_ انا لا أفهم ما الذي تفعله هنا ؟؟ ما الذي تريده ؟
مد ريكاردو قدميه للأمام و هو يستند على ذراع المقعد قائلاً :
_ كم من مرة قلت لك أن الهروب من منظمة أكس أمر مستحيل و لا طريق للخروج منها سوا الموت
جلس قصي أمامه و هو يقول بهدء :
_لقد فعلتها أنت سابقاً
_ أيها الأحمق ... انا لم أهرب من المنظمة ... كان الأمر كله مجرد غطاء ليختفى ريكاردو و يبقى مستر أكس ... لم أعد بقادر على ممارسة العمل بسبب مرضي
أغمض قصي عينيه بقوة و هو يمرر أصابعه بشعره بعصبية يجمع الأمور معاً .. ليقف كالمصعوق و هو يقول :
_ أنت رئيس المنظمة أكس ...!!! ؟؟
تنهد ريكادو بنفاذ صبر و هو يقول بأسى :
_ منذ أن قابلتك في عزاء والدك ..أردت أن تكون وريث مملكتي ... دربتك بنفسي و زرعت في نفسك معنى أن تكون المسيطر ... القوي و المتحكم بمصائر كل من حولك .. لكنك أفسدت كل شيء .... لقد حذرتك أن لا تخضع لمشاعرك لأنها ستضعفك و لكنك كالأحمق جعلت قلبك يتحكم بك ...
شعر قصي بنفسه يتلقى لكمات متتالية تكاد تصرعه .... هو يحدق بمعلمه ... المستر أكس بنفسه ... خسر قناع البرود و القوة الزائفة و هو يقول بغضب :
_ ما الذي تريده الآن ... قتلي ؟؟ أفعل و لننتهي يا معلمي
ضحك ريكاردو بقوة و صلافة و جسده يهتز ليقطعها فجأة و هو يقول ساخراً :
_ تؤ تؤ تؤ ... قتل !!! أحضر لك أمراً مختلفاً قصي ... بسببك كادت مهمة نيرورك أن تفشل ... لقد قررت وحيداً عدم تنفيذها و لولا ابنتي كريستينا لوضعتني في موقف محرج ...أتعرف مع من ؟؟ و زير الدفاع الإسرائلي بنفسه ... و من ثم صدمتني بتصرف لا أفهم سببه لما أظهرت بطاقة الشبح ؟؟... لما جعلت العالم يصدق أنك المسؤول عن هذه المذبحة ؟؟
همس قصي و هو يشعر بالضياع:
_ كرستينا ؟؟ ابنتك!!!
_ نعم هي ابنتي المتيمة بالشبح ... لو انك بقيت كما كنت في الماضي قبل دخول سلام حياتك ... لباركت هذا الحب بسعادة
أومأ برأسه لإيزي ... لتقف أمام باب المكتب و تشير لأحد ما بالدخول ... تقدمت كريستينا بشعرها المجنون الأحمر و الكدمات لازالت تغطي وجهها .. تدفع أمامها سلام مكممة الفم .... مقيدة اليدين خلف ظهرها ... عيونها منتفخة و محمرة بشدة ...ترتجف بضعف و خوف و ذعر ... صدرها يهبط و يعلو سريعاً ..قلبها يهدر بعنف
ما إن رأها تقف هناك و مسدس كرستينا يلتصق بخاصرتها حتى جن قلبه و اضطربت أنفاسه .. زاغ بصره و ارتعشت أوصاله ... غضب و رعب تفجر في صدره ... إلا سلام .. إلا سلام ...
قال بصوت يشبه هسيس الأفعى و قد اسودت عينيه و اشتعلت :
_ أتركيها ... كرستينا
إرتجفت أوصالها و هي تخفض عينيها عنه تزيد من ضغط فوهة المسدس على خاصرة سلام ...
تقدم قصي خطوة قطعها بسبب ارتفاع فوهات اسلحة الرجال الذين يحاصرونه باتجاه سلام ... و ريكاردو يقف و هو يقول بقسوة :
_ لا تتحرك يا قصي ..سأقتلها فور قيامك بأي حركة غادرة ... اعتبر هذا التحذير الأخير
ضغط قصي على كفه بقوة يكاد يفتت عظامه و العرق النابض في رقبته يوشك على الإنفجار ...يشد على أسنانه بقسوة يكاد يكسرها و هو يقول من بين أسنانه :
_ أترك سلام .. لا دخل لها بكل هذا
تقدم ريكاردو ناحية سلام و هو يقول بمسرحية :
_ لا دخل لها!!! هي زوجة الشبح العظيم ... لا يمكن أن نتركها خارج الأمر أكثر.
إرتجف جسد قصي يشعر بالعجز و الضعف .. قال و قد تبعثرت حروفه مع رؤيتهِ لعيون سلام التي تزداد اتساعاً و هي تدرك حقيقته
_ أتركها .. سأفعل كل ما تريده ... سأنفذ أوامرك ..لكن أتركها
قال ريكاردو متجاهلاً كلمات قصي و هو يتقدم ناحيته ..يفتح كفيه أمام وجه قصي يحرركهما كما الميزان :
_لطالما تمكن الشبح من السيطرة على قصي ... و لكن مع دخول سلام و زياد حياتك ..أصبح قصي أكثر قوة من الشبح حتى كاد أن يدحره ... كيف يمكن أن نعيد التوازن الصحيح ؟؟
نظر ريكاردو لجسد زياد و هو يقول :
_ زياد قد قمت بقتله و أرحتني من مشكلته ...رغم أن الأمر لازال غامضاً ... لكن سلام لازالت هنا تسيطر عليك... ما العمل الآن .؟؟
صرخ قصي بصوتٍ كسير و هو قد غرز أظافره بكفه محدثاً جروحاً نازفة :
_ أتركها ... أتركها ... سأختفى من حياتها إن كان هذا يرضيك ...
غمز ريكاردو لقصي و هو يقول :
_ دعنا نستمع لسلام ..قد يكون لديها رأي مغاير
أزاحت كرستينا الغطاء عن فم سلام ..التي أخذت تشهق بصوتٍ عالي و هي تبكي ..تصرخ بكلمات غير مفهومة ... تكاد تنهار أرضاً لولا إطباق كرستينا على ذراعها بقسوة ...
تقدم ريكاردو ناحيتها تحت أنظار قصي الملتاع و المحترق :
_ أخبرينا يا سلام .... ما رأيك ؟؟ كيف نحل هذه المعضلة ؟؟
نظرت سلام لقصي بعيون حاقدة و حارقة و هي تقول :
_ أقتلني ... أقتلني ..عاقبه بموتي
صرخ قصى ملتاعاً :
_لا .. لا حبيبتي
صرخت سلام و هي تستمر بالبكاء :
_ لا تنادين بحبيبتي ... أنت .. انت أنسان بلا ضمير ... كيف لك أن ترتكب كل هذه الفظاعات و تأتي تدعي الحب ... كيف لشخصٍ مثلك أن يعرف معنى الحب ... كاذب و منافق و مخادع
أراد قصي أن يتقدم ناحيتها ....لكنه ردع نفسه خوفاً عليها و هو يقول متوسلاً :
_ لا ..لا ... مشاعري ناحيتك هي الشيء الوحيد الصادق بحياتي .. أنا أحبك سلام
قال ريكاردو و هو يصفق بيديه ساخراً :
_ يا لهذا العرض ...أكاد أبكي متأثراً
قطع التصفيق و هو يقول ببرود :
_ لنعود إلى العمل الآن ... سوف تأتي معي قصي بكل هدوء تنفذ أوامري دون مقاومة ..لا تحاول التذاكي علي ... سلام ستكون معنا لأضمن منك السمع و الطاعة
صرخت كرستينا من خلف سلام معترضة :
_ أبي ..لقد وعدتني ان تقتلها اليوم و تخلصني منها
_ أصمتي كرستينا و نفذي الأوامر فقط
إبتلعت كرستينا مشاعرها و هي تدفع المسدس في خاصرةِ سلام أكثر تلجم نفسها عن إطلاق الرصاص
قالت سلام و هي تلهث تكاد تفقد الوعي :
_ قلت لك أقتلني .. لن أذهب معكم لأي مكان
نظر قصي إليها متوسلاً أن تصمت و لكنها بادلته النظرات بخيبة و ألم .. كسرت قلبه و قتلت روحه ...قال قصي لريكاردو دون أن يرفع عينيه عن سلام :
_ دعني اتحدث إليها أرجوك .. سأقنعها بالحضور معنا بهدوء
هزت سلام رأسها رافضة و قد أنهكت تماماً ... أشار ريكاردو له بالتقدم ... إبتعدت كرستينا عن سلام و هي تراقب الحب المتدفق من عيني قصي .. و نار الغيرة تحرقها و الشياطين ترسم أمامها صوراً تطوق لتنفيذها ليبقى قصي لها وحدها
وقف قصي أمام سلام ...ضمها لصدره حاولت الإبتعاد عنه و لكنه منعها ... مدّ يده لقيودها الحديدية .. قطعها بيديه الإثنتين لتتحرر يديها ....حوط كفيها بين يديه و هو يهمس لها متوسلاً :
_ أرجوكِ سلام ... لا تقاومي الأمر الآن ... علينا أن نرحل معهم ... أتوسل أليكِ ...
هزت سلام رأسها رافضة و هي تبعد نفسها عنه ..
_ لا .. لا أريد أن أتواجد في مكان واحد معك بعد الآن أنا أكرهك ..اكرهك
أطبق على كتفيها و هو يقربها له أكثر :
_ إكرهيني كما تشائين ...و لكن الآن ساعديني لإنقاذ حياتك
ضربته على صدره مرة و ثانية و ثالثة و أستمرت بذلك و هي تصرخ بلوعة :
_ أنت أحمق و غبي ... لماذا أدخلتني حياتك ؟؟ لما لم تتركني لمصيري و قدري .. لما لم تتركني أموت في ذلك اليوم ؟؟ ... لكان البحر أبتلعني .. أنا أتألم قصي .. أتألم بشدة بسببك أنت ...
تركها تفرغ غضبها على صدره و جرح خاصرته يصرخ ألماً يبتلعه و قد زاد نزفه أكثر ... انهارت سلام على صدره تبكي بألم و تتمسك به و هي تهمس :
_ أحبك قصي ..أحبك .. أحبك ... لكن ..انت ..
همس قصي بجانب أذنها :
_ من دون لكن حبيبتي ... سأتحمل أي عقوبة تفرضينها علي و لكن بعد أن نخرج من هذه المصيبة ... أريدك ان تكون معي حتى ننجو
هزت رأسها موافقة و هي تحاول تمالك نفسها تنظر في عيني قصي تبحث عن الأمان ... ألتصقت به أكثر و هي تهمس باسمه بضعف كسره ... لتزداد لوعة قلبه و ضياع روحه و هو يحدق بركاردو الوقف أمامه ...ضم سلام أكثر يحاول إخفائها بين ضلوعه :
_ لنذهب من هنا
_ أحسنت قصي هذا هو تلميذي ..
كانت كرستينا تقف غاضبة ..تراقب لمسات قصي و همساته لسلام ... يضمها بين ثنايا صدره بتملك يقتلها ... لقد وعدها والدها بأن يتخلص من سلام ...لكنه كما اعتاد يضع مصلحته امام أي شيء حتى لو كان ذلك يعني ان يدس قلب ابنته ... دون تدرك رفعت المسدس باتجاه ظهر سلام المتمسكة بقصي تستبيح صدره تريح رأسها عليه بسكينة رغم خطورة من يحيطها
رصاصة أطلقتها ليلتقط قصي صوت حفيفها ...أدار سلام بسرعة و خفة ليصبح ظهره هو مستقر الرصاصة ...شعر بها تخترق عضلات ظهره و تفجر الألم بصدره ..سقط و هو يحافظ على سلام مستقرة بين ذراعيه ...شعر بالدوار يطبق على رأسه و هو يستمع لصراخ ريكاردو يأمر رجاله بإخراج كرستينا من القصر
رفعت سلام رأسها و هي ترتجف بين ذراعيه بقوة و هي تشهق بضعف ... و قد شحب وجهها للغاية و ابيضت شفتاها تطرف بأهدابها سريعاً تناديه بوهن :
_ قصي ..أتـ .. أتـ ... ألم
حدق بهاغير مدرك معنى كلمتها ... نهض ببطء و هو يضعها إلى جانبه أرضاً ينظر لجسدها ... بقعة من الدماء تفجرت بصدرها ... نظر لصدره ليفهم أن الرصاصة اخترقت صدره و أكملت مسيرتها لتستقر بصدرها
صرخ بلوعة كوحشٍ كسير ... أحكم الحبل فوق رقبته ... رفعها يضمها لصدره يناديها بقهر :
_ سلاااااااااااام ...لااااااااا ... أرجوك ... لا ترحلي ...سلااااااااام
صوت حشرجة عنيفة صدرت من صدرها بثت الرعب بنفسه أضعافاً مضاعفة ... قالت سلام و هي تحاول جاهدة أن تخرج حروفها المختنقة بدماء صدرها :
_ أنا أحبك قصي ... أحبك و سأبقى ...
انقطع صوتها و قد ارتخى جسدها يين ذراعيه ... لتتساقط دموعه على وجهه الساكن ... يحدق غير مصدق ..
_ لاااااااااااا .. لااااااااااا ..سلام ..استيقظي ..تكلمي معي حبيبتي ... سلاااااااااام ... يالله ...يالله ..لا تحرمني منها ... سلاااااااااااام
ضمها لصدره و هو يبكي دموع الألم و الندم ... اصطدمت عيناه بعيني زياد المفتوحة و الغارقة بالدموع .. أدرك أن مفعول الحقنة بدأ ينجلي ... لن يخسره هو أيضاً هو آخر ما يملك في هذه الدنيا وضع سلام برفق على الأرض يمسح خصل شعرها الذهبي مرتجفاً يقبل وجهها و جبينها ... مسح دموعه بقسوة .. أنتزع نفسه من قربها ... وقف بتثاقل يقاوم غيبوبة تكاد تسقطه و الدماء تتفجر من صدره و ظهره و هو يقول لريكاردو الذاهل :
_ لنرحل من هنا ..لم يبقى لي شيء ... خذني ... أريد أن أموت بعيداً

الشبحWhere stories live. Discover now