الفصل الثالث: استعادة الماضي

43 6 16
                                    

قبل ما يفوق الثلاثة عشر عامًا من بدء هذه الحكاية، استقلت الآنسة باربرا شيربورن قطار 'نورثرن إكسبرس' من ميدلفورد إلى جلاسبوري. وكانت قد اصطفت لنفسها ركنًا قصيًا من المقصورة، وزودتها بكتب وأوراق وأقلام، ثم أحضرت كوبَ شايٍ من عربة الطعام ساعةَ الرابعة، ووضعت المحايك في حقيبة يدها لتشغل بها نفسها إذا هي ضجرت من القراءة ومطالعة الطبيعة من النافذة.

وكانت تحسب أنها ستقضي رحلةً لا سوء فيها بعد أن عدّت حالها بما ذُكِر، وعلى ذلك انطوت في ركنها شاعرةً بالسلام مع نفسها ومع العالم أجمع.

كان مرافقوها في المقصورة هم شيختين عائدتين إلى ديارهما بعد عطلة في الجنوب، ورجلًا كئيب المظهر يحمل حزمة من أوراقٍ مبعثرة، وامرأةً في منتصف العمر تحمل رضيعة فوق رجليها، وكان معهم الآنسة باربرا التي مكثت في الزاوية المقابلة لكل أولئك الناس.

لم ينبس أحدهم بكلمة عدا ما استدعته الضرورة، وذلك مثل فتح وغلق النافذة، وقد صمتوا جميعًا ليقرأوا ما لديهم من كتب، أو ليتمتعوا بقيلولة طويلة المدى، أما القطار فكان دون حالهم، فإنه يسعى سعيًا شديدًا نحو الشمال.

كانت الطفلة نائمةً في سلام، ومعها شفتين متنافرتين عن بعضيهما، أما أهدابها فكانت كحلاء خلابة، وكانت دانية على وجنتيها الورديتين، ولها يد سمينة متدلية من تحت شالٍ أبيضٍ صوفي يطوّقها ويقيها من برد الشتاء وصقعته.

لقد بدت هي وأمها كلوحةٍ مذهلة محكمة التصوير، فلم تبرحهما عينا الآنسة شيربورن طوال الرحلة.

كانت دراسة الناس من حولها تجذبها وتستهويها، وعلى ذلك لم يبقَ بصرها على الرضيعة وحدها، بل تصاعد حتى بلغ الأم معها.

كانت الأخيرة ترتدي لباسًا هندامًا، ومع ذلك لم تبدو ثقيفة، وليس يوجد في ملامحها ما يميزها عن غيرها، بل ربما يسوؤها فمها الخشن عن سائر النساء.

كانت لها يد هي أقرب للشَوَه أبدت أنها امرأة عاملة، أما خاتمها الذي يحتضن إصبعها فكان من ذهبٍ بخس الثمن.

كان ما يفصح عنه مظهرها أنها عاملة مجدة، أو زوجة تاجر مغمور.

لم يكن بينها وبين الطفلة شبهًا، إذ كانت الأخيرة رقيقة وجميلة، وكان شالها منسوجًا من أجود أصناف الفراء، ذلك غير صندوقها الصغير الذي سكن بجانب المرأة، والذي كان مصنوعًا من الحرير الصافي.

لقد استمتعت الآنسة باربرا بمحاولاتها العبثية في تتبع الشبه بين المرأة والطفلة، لكنها لم تحسن التكهن بملامح الزوج لغيابه، ثم تساءلت عما إذا كانت هذه السيدة هي أم الطفلة الحقيقة، لكن عقلها استدركها بأن كيف يسعها ارتداء ذلك الزي الأنيق إن لم تكن والدتها؟

وما كان منها إلا أن تركت التخمين، لكنها يئست حق اليأس لعدم بلوغها تفسيرًا محتملًا.

كان القطار قد تأخر عشر دقائق عن زمن انطلاقه الأصلي، وعلى ذلك عوّض الوقت الضائع بزيادة السرعة حين سيره فوق إحدى المستنقعات، فاضطرب اضطرابًا عنيفًا، وتذبذبت جدرانه ودواخله، حتى تناثرت الملصقات المعلقة على خارجه أمام المسافرين، فزادت الحادث إذهالًا.

Avondale || أڨونديلWhere stories live. Discover now