الفصل الثالث

36 11 0
                                    

وقف الرجل مواجهًا للوحش المقيَّد، ولم يسمح لتفكيره أن ينجرف نحو ضرورة تحديد هوية الوحش الحقيقي بينهما.
هذا التساؤل سيُنَغِّص عليه الفرح بانتصاره لاحقًا، ولكن عليه أن ينتصر أولًا.

ثبَّتَ قدميه في الأرض جيّدًا، وشرعَ في طرق القفل بوتيرة متزايدة القوّة.
يبدو أنّ السجين استطاع إدراك ما يحدث فحافظ على سكونه، ولم يَكسر هذا السكون إلّا عندما يئسَ من احتمال نجاح شريك زنزانته الجديد في إتمام ما ينويه، فأخذَ يتخبّط في مكانه محرّكًا أطرافه بعنف في سبيل مساعدة البشري، هذا سهّل مَهمّة الطارق وضاعف حماسته، وسرعان ما تحطّم القفل، فابتعد الرجل عن الأغلال مخلّفاً لطخات من دمائه عليها، ثمّ خرّ ساقطًا ليس تعبًا وإنّما أملًا يملك منه مخزونًا لا ينضب...

لم يُضِع المزيد من الوقت، بل باشر على الفور في خطوته التالية، القطعة المتجمّدة الملوّنة بالدم الدافئ حصلت على هدف جديد؛ الرأس الصغير باهت اللون.
انكَبَّ عليه ضربًا وصدمًا حتى تدارك مالك الرأس الموقف وأطلَقَ صرخة اهتزَّت لها جدران الكهف، وتمنّى الرجل المتفائل لو أن جاره يُحطِّم الباب بصراخه هذا كأثر جانبي...

ولكن عوضًا عن تحطيم الباب تسبَّبتْ الصرخة بتحرير حُزمة من الأشعّة مما يكبّلها، انعكستْ مباشرةً في عينيّ الوحش فانفجرتا إلى أشلاء تناثرتْ في كل الأرجاء.
وكان سقوط التعب والاستسلام، هو مصير أحد الوحشَين المتحاربَين؛ الذي كان مقيَّدًا...

بينما يشقّ الرجل جسم الوحش المتألِّم بمديّته الجليدية، استحضرَتْ ذاكرته موقفًا كان قد عاشه في إحدى حيواته السابقة.
وتيقَّنَ مما كان يعلمه مسبقًا: إنّ الشّمس ستواصل مسيرتها العظيمة في تحطيم القيود، رغم ما أبديناه وما سنبديه من مقاومة جاهلة وبائسة للحفاظ على قيودنا المحبَّبة، إلى أن تحرّرنا جميعًا في النهاية.

أحكم الرجل قبضته على غنيمته، وفي كفّه المؤطَّرة بالخدوش تمازج دمه مع الدم المتقطّر من القلب المُنتزَع حديثًا عن موطنه.

رحّب القفل بمفتاحه حينما التقاه أخيرًا بعد طول انتظار، وتخطاهما الوحش المنتصر عازمًا على استكشاف ما يحسبه حياةً جديدة عليه إنهائها بطريقة ملائمة، متحدياً في ذلك عدوّاً مقدَّرًا لا يعرف عنه إلا ثلة من نقاط كان قد استنبطها من تجاربه السابقة؛ وتتلخص بمجملها في افتقار عدوّه المجهول إلى الشرف والنزاهة في نواياه وأساليبه.

حثّ الرجل خطاه بتؤدة على الجليد الهشّ مَخافةَ أن يكسره، وافترَّ ثغره عن ابتسامة أمل عندما لمحت عيناه فسحة من المياه العذبة على مقربة منه فجثى أمامها وكاد يقبّلها بوجهه قبل أن يتوقف بصدمة مذهولًا من الصورة التي يراها عبرها.

تلفت حوله مذعورًا.
أما يزال بداخل تلك المرأة المجنونة؟
هل تناولتْ عقارًا ما، أحدث فيه كل هذا العطب؟
ماذا عن الموت الأخير ومتاهة الڤالهالا؛ أمله الجديد؟
لا يُعقل أنّ كل هذه الأحداث كانت أوهامًا...
لم تتأثر روحه بأية ترهات بشرية مسبقاً، فما الذي تغير الآن!

متاهة الڤالهالاWhere stories live. Discover now