الفصل الرابع عشر

6 6 0
                                    

اهتزّت جدران السّرداب الذي تفننت الطّبيعة في حفره خلال دهور طويلة، وتقطعت الأواصر بينها وبين السّلاسل المدعَّمة داخل ثناياها، اعتصرت الأرض السّرداب بما فيه ولفظَت لوكي وابنه من قلبها خارجًا نحو سطحها.

قال لوكي قبل أن يُجتَثّ وجوده مرغَمًا من المكان: «ابقَ هنا يا فنرير ولا تستبق الأحداث».

عوى الذّئب بمرارة بينما يراقب تلاشي والده في زوبعة من الهواء الثّقيل.

شيّع المخلوق الضّخم بقايا سجنه بعينيه الحادتين ثم طأطأ رأسه وسار ببطء إلى الأنقاض، انزوى بهدوء في إحدى الأركان مسلّمًا نفسه لنوم لن يطول.

من العدم تشكّلت الزوبعة في مرمى بصر أستريد، قريبًا جدًا من قلبها النّابض، ومنها انبثقت هيئة العملاق الصّغير.

شهَقت الفتاة بصدمة، استهلكت بعض الوقت لتهدأ، ثم تقدمت من المقتحِم فلطمته بعشوائية فيما تقول معاتبةً: «أينَ اختفيت! توجب عليك أن تساعدنا!».

حكّ لوكي مواضع اللّطمات بملل مثيرًا جنون الفتاة التي تراجعت متخذة طريقًا مغايرًا، استقبلتها مرآة عاتمة كما كلّ الطرق التي سلكتها مسبقًا، البداية المألوفة أنبأتها بالنّهاية المسدودة، فتوقفت بيأس قبل أن تلتفت بترقب حينما أحسّت باقتراب العملاق.

«عليكِ البحث عن المرايا المضاءة، فتلك هي الطّرق الصّحيحة».

أخبرها بنبرة اعتيادية غير منتظر ردًا، ثم انبرى يذرع المكان جيئةً وذهابًا متفقدًا الممرات المتاحة ومفتشًا عن الصّحيح من بينها.

«ما هذا المكان؟». تساءلت أستريد تعترض طريقه فيما كان مُدبِرًا من إحدى البدايات الخاطئة.

«متاهة الڤالهالا».

أتاها الرد كالصّاعقة، تلعثمت في الكلام: «ولكنّ آرين لم يطأ هذا المكان».

أومأ لوكي بعدم اهتمام ثم أجابها: «عليكِ استدعاؤه كما استدعيتني، ألم أخبركِ بذلك؟».

ذلك عندما ارتطم بمرآة مضاءة، التفت منبّهًا الفتاة التي انتفضَت بحماسة وهرولت باتجاه بقعة الأمل المثيرة، أوقفها لوكي بكفه يعتصر قميصها جهة الكتف حادًا حركتها ليمنح ذاته فرصة لتوضيح الموقف، نطق مركّزًا انتباهه على المرآة المعنية: «لهذه المرايا مفتاح وحيد، أنتِ تحملينه بين أضلاعك الآن، نعم إنه قلبك».

«هنا تحتفظ الأرواح بما يُثقلها، إنّها خزائن من نوع ما. لن يدخل الڤالهالا مَن ثُقّلت روحه بأي شيء يخصّ عالم البشر الفاني».

لمسَ لوكي المرآة قبل أن يُكمل: «كما ترين، لا يمكنني اختراقها، ولكنّكِ قادرة على ذلك.

ليس عليكِ سوى أن تبتلعي ما تقدّمه المرايا إليكِ».

أخذَ شهيقًا واسعًا في نهاية قوله كنايةً عن فعل البَلع.

مدت أستريد ذراعها بتردد نحو السّطح المضاء. وقبل أن تسحبها المرآة سمعت العبارة الأخيرة على لسان العملاق المُحرَّر: «أحسب أنّك تتوقعين حجم ما ستصادفينه؟ قلبكِ مُثقل بالكثير والكثير من الأحمال، فقد رَبطَ بين أرواحٍ شتى».

تربع لوكي فوق الأرضية الزجاجية العاتمة مراقبًا آخر الذرات المشكّلة لطيفِ الفتاة تتلاشى في قلب المرآة، ومعها لمحَ دخانًا مألوفًا، غير أنّه لم يهتدي إلى ماهيته.

اعتُصر قلبه بألم طفيف راح يتخافت تدريجيًا حتى أحسّ به يغادره كليًا، ابتسم حينما أدرك أنّ خزانة أعبائه هي محطتها الأولى.

-

يدٌ خفيّة، باردة، ورقيقة كالثلج انبثقت من الخزانة الأولى، قبضت على معصمي وجذبتني نحو الداخل.

سقطتُ في مكان غريب، أرضٌ جرداء تظللها سماء حالكة لم يشتت ضوء نجمة واحدة ظلامها.

لمّا تناهى إلى مسمعي نواح متألم، تبعتُ الصوت حتى تراءت لي هيئة لوكي يقف وحيدًا على أنقاض قصر محروق.

في وسط الدخان خفقَ نابض مدمي كان العملاق الصغير يحمله في يده، علمتُ أنّه قلب عشيقته المقتولة أنغربودا.

ما حدثَ تاليًا كان أمرًا متوقعًا، ورغم ذلك قُبضت له أحشائي، ابتلع العملاق العضو المقطوع، ثمّ مر علينا الزمن سريعًا، وأنجب لوكي أبنائهما الثلاثة؛ بوادر النهاية.

إذًا، رسولة الحزن قد قُتلت وحلّت وحوشها في العالم، ينتظرون النهاية المحتومة. فكرتُ بينما أطالع العملاق مخفَّف العبء يتحرك بنشاط بين المرايا المتشابهة.

يعيش البشر سنين محدودة يجربون خلالها شتى المشاعر، ويتألمون لآلام متفرقة قد لا يصادف مخلوق مثله!.

الآن تحرر آرين من إحدى متعلقات قلبه بعالم البشر...

أتساءل، ما هي المحطة التالية؟.

أشارَ إليّ لوكي أن أقترب منه، إلى يمينه استقرت مرآة مضاءة، بلا تردد اندفعتُ نحوها.

-

متاهة الڤالهالاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن