الفصل السادس عشر

9 6 0
                                    

اقتربت فريا من المعسكر حيث يتجهّز آرين وجنوده للمضيّ قدمًا بعد استراحة طويلة استغلوها في التدريب والمزيد من التدريب.

المشهد من المستقبل أطلّ عليها حيًّا مفعمًا بالأمل، وبرأسها تكررت عبارة آرين التي أفقدتها الأمل مسبقًا، ولكنّها اليوم تمنحها العزيمة لتكمل ما عليها أن تكمله: «لا شيء أثمن لديّ من مشاركتك أيامي الأخيرة، ولكن عليّ أن ألتزم جانب رفاقي في السلاح، فذلك هو ديدن المحاربين الشرفاء».

انتفضَ بدنها بألم تراكم فيها خلال السنين، المئات منها، خسرَت في الماضي مرارًا، ولكنّها لن تخسر هذه المرة، ليس مع آرين، ليس مع محبوبها.

وقفت في مُقتبل المعسكر، وسمحت للسحب الدخانية أن تخرج منها واحدة تلو الأخرى، حتى بات جسدها شفافًا يكادُ لا يُرى، تفرقت الخيوط في كل الاتجاهات، اقتحمَت كل المَنامات، وتغلغلت في رؤوس الرجال، بحثًا عن واحد على الأقل ينفع ليكون هدفًا.

وكان أرغوس هدفًا سهلًا، جاهزًا ليتم إقحامه في المَهمة بلا أي عناء.

استجمعت شتاتها، واستغلت اللّيل لتُعزّز في نفسه الحقد ودوافع الانتقام.

نام أرغوس كأي محارب يحلم بصنع مجده فوق أجساد الأعداء، ولكنّه استيقظَ كأخ حاقد مستعدّ لاختصار طريق المجد، بغض النظر عما سيحتويه الطريق الموجَز من آثام سينتظر طويلًا حتى يستطيع تخطيها...

تقدّمَ آرين رجاله معتليًا صهوة جواده الوفي الذي خاض معه معارك عديدة سابقة، مثله كمثل العديد من المحاربين من أتباعه الحاضرين في هذه الواقعة.

لمّا قاربت المجموعة على الالتقاء بمجموعة العدو في منتصف الطريق إلى الأرض المُتنازَع عليها، انتشى الرّجال بما تناهى إلى مسامعهم من صهيل ودبيب عنيف متواصل ينمّ عن الحماسة التي تتدفق في أوردة الأعداء كما في أوردتهم، وهم يعرفون أنّ الحماسة وحدها كفيلة بأن تدفع بالمعركة نحو مستويات عالية من الإثارة والجنون المحمود لهم وللأعداء على السواء.

أحسّ القائد بحصان يجاور حصانه، تبسّم بفخر حينما رأى مَن يعتليه، أرغوس الصّغير، أحد أصغر رجاله، وبذات الوقت هو واحد من بين أكثرهم بسالة وشجاعة، درّبه شخصيًا لستة أشهر قبل أن يُلحقه بصفوف التّابعين، أثبتَ الشاب كفاءته في كل المهمات السّابقة، ولكنّ معركة اليوم هي المعركة الحاسمة، أداءه اليوم سيحكم عليه إما بالفشل أو بالنجاح.

بينما يتسلّم قربة الشّراب من تابعه الشّاب، فكّر آرين أنّ الفشل لن يعرف سبيلًا إليه، نجاحه لا ريب فيه...

وكقائد، هو يتوقع للمحارب الصّغير مستقبلًا حافلًا بالانتصارات المجيدة، جبهته العريضة ستحمل آثار هذه الانتصارات، وسيخطّ الزّمن ندوبه على جسده القويّ، ثمّ سيغصّ فؤاده بالشّجاعة والحكمة، ولن تأتي معركة الخِتام إلّا والمحارب قد اشتدّ وثَبُت وتعملقت روحه في وجه الأخطار حتى لتكاد تناهز أقوى الأرواح في الجرأة والإقدام.

لمَح آرين مقدمة صفوف الأعداء في الأفق القريب، مجموعة من الخيول ذات السّواد المُناقض لبياض خيولهم الخاصة، لفّهم الغبار من كلّ جانب، وصراخهم شوّشَ هدوء المكان، تخافتت الأصوات الواصلة إلى القائد وتشوّشت رؤيته فيما شعر بطعم حارق على لسانه، قبل أن يشعر ببوادر تشكل زبَد صلب القوام في فمه، فقد وعيه تدريجيًا وكانت هيئة أرغوس يخلّصه من سيفه هي آخر ما رآه بينما يعوم في عدم الفهم.

في لحظة لاحقة استفاقَ القائد، كان منكبًّا على جواده ورأسه مطأطأ للأسفل نحو الأرض الثّلجيّة المُغطّاة بالدّماء، رفع رأسه فوجد رجاله يتصادمون مع الأعداء، تبدو الغَلَبة لهم، ولكن ما الذي يجري معه؟.

أسقطَ نفسه من فوق الحصان وزحفَ بصعوبة فوق الثلج حتى وصلَ إلى أحد رجاله، تابعه الشّاب الواقف أعلى جثة واحد من الأعداء، في مشهد ليس غريبًا بالنسبة لآرين، غير أنّ سيفه في يد الشّاب كان بمثابة جزئية دخيلة على المشهد.

أكملَ آرين زحفه نحو تابعه حتى احتضن ساقيه جاذبًا انتباهه، طأطأ التابع رأسه ناظرًا إلى قائده، ولكن ما حدث تاليًا كان شيئًا يفوق قدرة آرين على الاستيعاب في وضعه الحالي، غرسَ الشاب السّيف في قلب آرين، قتله بسيفه الخاصّ، وانحنى إليه صارخًا وصائحًا حتى تنبّه إليهما بقية الرّجال، وكانوا قد تغلبّوا على الأعداء، وهنا استوى أرغوس واقفًا وتحدّث مشيرًا إلى القائد المصروع: «الشّريف آرين قد سبقنا إلى الڤالهالا، وأنا وريثه، أنا آرين قائدكم الجديد، فهل من معترض؟».

تجمد الرّجال لبعض الوقت عزاءً على قائدهم المقتول، ثمّ انحنوا جميعًا مُبدين الولاء للقائد الجديد.

لم يُثر المشهد شيئًا يُذكر في نفس المقتول، فقد جَذبت رسولات الڤالكيري انتباهه بالكامل، تقدّمنَ من المحاربين المصروعين واصطفينهم للرّحلة القادمة، تخطّاه الجميع وتُرك وحيدًا في العراء، وحتى سيفه قد غادره مع السّارق...

أحسّ بظلّ مهيب يحيطه ويفيئه، طالعَ محبوبته ومعلّمته بعينين تملأهما الحيرة، سمعها تهمس متسائلةً: «لقد غادركَ رجالك، فهل تقبل أن تأتي برفقتي الآن؟».

من النّاحية الأخرى تقدّم اودين، بسطَ ساعده أمام المحارب قائلًا: «لقد تشعّبت طرقك، ولكنك ستصل إلى الڤالهالا في النّهاية. رافقني إلى حياتك الجديد».

مدّ آرين يده إلى مالك الڤالهالا، في إشارة صريحة منه إلى حقيقة رفضه العرض الآخر.

-

متاهة الڤالهالاDonde viven las historias. Descúbrelo ahora