الفصل الخامس عشر

9 6 0
                                    

تربع اودين فوق عرشه، إلى يساره جثمَ ذئبه المهيب، جنبًا إلى جنب مع غرابَيه الأسودَين، وأمامه فُرشت المائدة بكلّ ما لذّ وطاب، عليها وُضع الطّبق الرّئيسيّ الذي قدمته ديكة ڤالهالا العظيمة من لدنها، يوم آخر انقضى ولم تصِح الديكة المُنذِرة بعد، ولكنّ صياحها باتَ قريبًا...

توافدَ المحاربون إلى القاعة، يحيّون اودين كأنداد له يوازونه في القوّة والشّرف.

وبعضهم ما يزال محافظًا على آداب التّرحيب الخاصة بالأحياء، فترى الواحد منهم يجثو أرضًا ويضرب بيمناه جانب صدره الأيسر، وتمتلئ عيونهم بالامتنان حينما يقابلهم اودين بانحناءات موجزة من رأسه المحمَّل بتاجه العتيق.

تحلّقَ الجميع حول المائدة، توزّعت قرون الشّراب على الموجودين، وخُصّ الآلهة بالتفاح الذّهبيّ، التقطَ اودين تفاحته فأكلها بنهَم بثّه فيه الجوّ المحيط المُفعَم بالسّرور، ذلك حينما أحسّ بسحابة دخانية غطّت عينه السّليمة قبل أن تضيع بداخلها ويختفي أثرها، حدث ذلك كلّه في غضون ثوانٍ معدودات.

اعتصرَ اودين قبضته مداريًا غضبه عن الحاضرين، ثم أكمل الأُمسية متفاعلًا مع أحاديث أتباعه المتحمسين بعد نهار حافل بالمعارك الملحمية، جميعهم منتصرون، جميعهم متشرّفون، حتى مَن صُرِع بسيف زميل أكثر حظًا منه لهذا اليوم، ما يزال رابحًا، ما يزال على موعد مع أعظم مصير قد ينتهي به محارب على الإطلاق...

بانصراف الليل فرغَت القاعة وأظلمَت، فانسحب مالك المكان إلى مضجعه حيث وجد زوجته وشريكته تنتظر بوجوم احتل صفحة وجهها فوق السرير، لمّا دلف إلى الحجرة اختل توازنه وفقدَ بصره بينما تصنّمت المعتدية وانخرَطَت في رؤية حية أصبحَت من نصيبها بالسحر وحده دونما تضحية...

«ما الذي تفعلينه؟». صرخ اودين بينما يمشي متعثرًا باتجاه زوجته التي تجاهلته كليًا ولم تُبدِ له أي انتباه.

شدها وجذبها مرارًا، ولكن أي من محاولاته -مهما تفاقمت حدة عنفها- لم تنجح في زعزعة ثباتها.

في بادرة استسلام، تلمس الملاءات بكفه ثم استقر في مكان قريب إلى جوار شريكته السارقة.

بعد بعض الوقت فتحت فريا عينيها، التفتت إلى زوجها وقالت: «منذ اليوم، سأتتبع مصير آرين؛ قائد محاربيَّ، بهذه الطريقة. لن تُفلح في كسر التعويذة ما دمتُ حية، لذا لا تتعب نفسك بلا جدوى».

لم تنتظر سماع إجابته، سبحت في الهواء خارجةً عبر النافذة لتقابلها عربتها، اختفت بين الغيوم، وبقيَ اودين متجمدًا في مكانه يحاول استيعاب الموقف، هل سرقت إحدى أهم ميزاته بهذه البساطة؟ تخلى عن عينه الغالية فقط ليرى ما رأته بتعويذة بسيطة ألقتها!.

ابتسم والغضب يسيطر عليه، لطالما كان هو الخيار الأول للمحاربين، وسيبقى كذلك...

فليس للسّحر طائل على قرارات البشر...

-

حلّقت فريا في سماء أسغارد، بالتحديد فوق قاعتها الخاصة، راقَبت أتباعها يتبارزون على ضوء القناديل والمشاعل، ينعكس النّور بهيًا على سيوفهم، وكذا على وجوههم المتشوّقة إلى حدث جلل سيضع لوجودهم حدًا ونهاية لطالما حلموا بها، وفي سبيلها هُدرت دمائهم وقُتلوا، وستهدر مجددًا في صباحات تالية، حتى مجيء المعركة التي لا تليها معركة، حتى مجيء الشر الذي سيقضي على كلّ الشرور.

أخذتْ شهيقًا طويلًا قبل أن تطبِق جفنيها، أعملت تركيزها على موعد باتت تعلم أنّ روابط آرين بعالم البشر ستكون قد انقطعت بحلوله، اهتزّ كيانها لما رأته، أعادت الكَرّة فشاهدت المشهد العظيم ذاته، آرين يقف ها هنا في ساحة قاعتها، وسط عدد مهول من المحاربين يخطب بهم وسيفه المجيد في كفه يُعانق الأفق!.

لوقت طويل لاحق من ذلك الليل، ستبقى الصّورة المرجوّة مطبوعة في ذهنها، حاضرة في شعورها، وستُحفَر في ذاكرتها لتُميت أي تردد قد يخالجها مستقبلًا فيحرمها من لذة هذه اللحظة!.

-

متاهة الڤالهالاDonde viven las historias. Descúbrelo ahora