الفصل الثامن

25 9 0
                                    

«قتل أودين وإخوته، العملاق البدئي يمير، حينها عادَ دمه إلى أصله الأوّل فاستحالَ بِحارًا ومحيطات غرقت فيها سلالة العمالقة، إلّا أنّ كلّ من بريكليمر وزوجته ورسا استطاعا النّجاة والإبحار عبر الفيضان الدّمويّ إلى عالم يوتنهايم، حيثُ بدأا في التّكاثر وإحياء السّلالة مجددًا، في انتظار راغناروك».

قالت لوڤا، وكانت تقرأ من كتيّب يبدو أنّها تدوّن فيه ملحوظات من موادها الدّراسيّة المفضّلة.

ثمّ هبَّت واقفةً فأعادت الكتيّب إلى حقيبتها معلّلة ذلك التّسرّع بأنّها تخشى عليه من الغُبار القويّ لهذا النّهار، وكان قويًّا فعلًا للحدّ الذي اضطُررتُ به لتغطية مثلّجاتي الشّهيّة لأبعدها عن نثرات الغبار المتطايرة في الأرجاء.

تحمّست الفتاة بشدّة حينما قصصتُ عليها قصة آرين كما روتها صاحبتها في الماضي، تحفّظتُ فقط على حقيقة أنّ المالكة الأصليّة كانت حاضرة على حدث الرّويّ، وأنّها صحّحت -خلال ذلك- الكثير من المعلومات العالقة في ذاكرتي على شاكلة خاطئة...

ولو عرضتُ الجزئيّة الأخيرة لتضاعفت حماستها، غير أنّي لن أُخاطر بكشف جنوني على الملأ.

«ألا تُريدين البوظة؟ أعطني إياها إذن!» صاح أُوكي للمرّة الثّالثة ربما.

نطقَ الكلمة بطريقة مضحكة، ولم أتكبد عناء تصحيحها له بل انهمكتُ في القهقهة غير ساترة ردّة فعلي عنه.

اشترينا البوظة العربيّة من محل حلويات ادّعى مالكه أنّها مصنوعة بالطّريقة التّقليدية لتعطي ذات الطّعم والنّكهة.

تبيّن أنّ الجينات تؤثّر في تحمّل البرد، إذ إنّ النّرويجيّان بالنَّسَب قد أنهيا طبقيهما بطرفة عين، وما زلتُ أنا النّرويجيّة بالتّبنيّ أترقّب اللّحظة المواتية للعق طرف الملعقة من دون أنّ تصتك أسناني كما لو أنّها تهرس الثّلج، أو يهرسها...

قفز الصّبيّ فجأة وتتبعتُ عينيه الهلعتين فوقع بصري على عنكبوت يتمايل على العشب، ابتعدت الحشرة فعاود أُوكي الجلوس مضجعًا على البساط الدّافئ.

وبجانبه واصلَتْ زميلته متابعة تحرّكات الحشرة حتى اختفت، فالتفتت إليّ قائلةً وكأنّها تسرد معلومة لا تعلم حقًا إن كانت قد صادفتها في مكانٍ ما أم أنّها مجرّد مزيج غريب من عدّة أشياء غريبة: «أعتقد أنّ لوكي يحبُّ التّنكُّر على هيئة العناكب، فيزحف إلى هدفه ولا يلاحظه أحد».

«صحيح، وتم تصويره مرارًا بهذا الشّكل». ما أنّ سمعتُ التّعقيب غير المطلوب بداخل رأسي حتى غرستُ أظافري في جلد كفيّ بعيدًا عن أعين الولدَين، هذا الجنون يتفاقم كلّ يوم وما عدتُ أحتمل.

«أينَ سهوتِ يا هبة؟ هل سمعتِ ما قلتُه بشأن لوكي والمرأة أمّ التّفاحات الذّهبيّة؟». تساءلت الفتاة بصوت تشوبه بحّة مؤلمة تعبّر عن أقسى صور الخيبة.

ورغم تخطيَّ مرحلة التّأثر بانفعالاتها الكاذبة منذ وقت طويل الآن، إلّا أنّي أجبتها بما عرفتُه من منقذتي مسبقًا: «تحايل لوكي مرارًا على ايدون وحصل بالمكر والخداع على تفاحاتها التي تغريه بعمر أكثر شبابًا وحيويّة».

«تتحدثين وكأنّ تفاحات الخلود من الكماليّات وليست ضروريّة!». تنهّدت أصبّر نفسي حتى لا أُخرسها بردّ أخرق يخيف الطّفلين.

بعد ثلاثة لقاءات مع المراهقَين، تبيّن أنّ الفتاة هي وحدها الفضوليّة بينهما، أمّا الشّاب فكان لهُ من اسمه نصيب؛ سهم الفضول لديه مُصوَّب نحو الغزلان ولا شيء غيرها، أطلعتُه على المقولة آنف الذِّكر بعدما شرح لي معنى اسمه، والذي يعني صراحةً: عاشق الغزلان.

خطر لي ذات مرّة أن أتلو عليه ترجمات من أشعاري المفضّلة عن المها العربيّ، ولكن أخشى أن تُفقدها التّرجمة قيمتها، فأنا لستُ من أنصار ترجمة الشّعر...

«أين نادية، هل كرهت صُحبتنا؟»

بخفوت طرح أُوكي سؤاله.

حدجته بنظرة عِتاب بينما ألعق مثلّجاتي ببطء، ثمّ أجبته بلهجة خفيفة لا تناسب ما يراه في عينيّ: «بل أحبتكما جدًا! ولكنّها مشغولة في عملها حاليًا. كما تعلمان هي تعمل في مكتب سياحيّ».

«ونحن الآن في موسم رؤية الشّفق القطبيّ!» أكملت لوڤا وابتسمتُ أومئ لها.

الكثير من السّواح يتوافدون في هذا الوقت من العام لغاية واحدة، أن يشهدوا فترة الأورورا.

وأراها جميلة في عدساتهم أكثر مما هي عليه في الواقع من بهاء، فكيف تكون إذًا في أعينهم؟.

بصعوبة تخلّصتُ من الطّفلين، أظنّ أنّهما وحيدان نوعًا ما، وإلّا ما الذي يجعلهما يتمسّكان بصداقة حديثة مع فتاة نصف أجنبية تكبرهما بعدّة سنوات؟.

فكّرت بينما أركب دراجتي الهوائيّة.

ما زلتُ لم أتعلّم قيادتها تمامًا، ولكنّ معلمتي فخورة بتقدّمي رغم انشغالها، ورغم ما تدعوه هي: ‹جُبني اللامحدود›.

«أمّا أمر الطّفلين، فهو واضح، تعلّقا بقلبي كما تعلّقتِ به من قبلهما.

وأمّا ادعاء صديقتك فهو صحيح، لم أرى مَن يفوقكِ جُبنًا».

تحدّثَ الصّوت الدّاخلي عندما اخترقتُ الشّارع بمركبتي ذات العجلتَين.

إذًا فهي لم تتطور لتسمع فقط الأصوات من حولي، بل وأصبحت قادرة على سماع أفكاري أيضًا!.

صارعتُ الدّواسات لأشغل نفسي عن البكاء، وما الذي سيُحلّ بالبكاء! لا شيء...

عليّ أن أبدأ منذ اليوم بالدّعاء لها بشكل خاصّ لتجتاز ما تنوي اجتيازه، وليس فقط استخدام أدعية عامّة لأتخلص منها. لقد اتخذتُ قراري!.

سمعتها تؤيّد القرار، قبل أن أدسّ نفسي وسط حشد من السّيارات الصّاخبة.

-

متاهة الڤالهالاWhere stories live. Discover now