الفصل الخامس

20 9 0
                                    

رمشتُ أُبعد عن عينيّ الوَسَن لأتبيّن محيطي، أراضٍ زراعية سابحة في الوحل كانت تحدّني من كلّ اتجاه، تفرقت فيها مجموعات من القرويين؛ أراهم منهمكين في محاولة احتواء ما يمكن احتوائه من ضرر محمود أصابهم، في صباح أُرجّح أنّه قد أعقبَ ليلة سخيّة بالمطر.

بعيدًا عن الفلاحين، تناهتْ إلى أُذنيّ ترنيمة بدتْ لي محمّلة بقهرٍ عظيم، يتخللها صيحاتُ ألم، بلا تفكير تبعتُ الصوت الذي قادني إلى بناء متهالك من الخشب الرثّ، مررتُ بصنم مخيف مُموّه الملامح وقف راسخًا مجاورًا لباب صدّعته السّنون.

ما أن وطئتُ أرض المعبد حتى غطّى الأنين المتصاعد من البهو القريب على الصيحات، فما عادت تلفتني، حثثتُ خطاي فبلغتُ حجرة مفتوحة على السماء المدججة بسرب منتظم من السُحب البيضاء، تحلّقَ فيها العديد من الأطفال والشباب وثلّة من الشيوخ والعجائز، بَدوا متشابهين بطريقة ما، غير أنني لم أقع على نقاط التشابه في البداية.

أصبحت كلمات الأنشودة مسموعة بوضوح الآن، ولكنها منظومة بلغة غريبة عن أي شيء ألفتُه يومًا، مضيتُ في طريقي بعد أن سحبت ياقتي لأغطي بها أنفي درئًا لرائحة نفّاذة مزجَتْ بين اللحم والدم، وقد تنبّهتُ أخيرًا لحقيقة أنّي حرة الحركة في هذا الحلم، ولكنّي ما أزال مخفية على الأقل.

جذبتني حفرة توسطت المكان، تعمّقتُ فيها عبر سلم خشبي محدود الدرجات حتى وصلتُ إلى قبو فارغ إلّا من شاب هزيل الجسد تكوّر على نفسه بهيئة غريبة، ذُهلت من تفاعله مع دخولي، أيعقل أنّه يراني؟

وسّع عيناه ثمّ زحف بصعوبة ليجثو بخشوع بين قدميّ، تلعثم برهبة وما خرجت من فاهه كلمة واحدة صحيحة، اقتربتُ منه لعلّي أفهم ما يحاول قوله، وعندما جذبته لأوقفه أدركتُ أنّ أطرافه كالهلام لا تقوى على حمله...

كبحتُ دموعي واحتضنته فأسندته إلى جدار الحفرة، وجاورته المجلس محاولةً تجاهل نظرات الإجلال التي يرشقني بها بين الحين والآخر.

«مرحبًا. آسفة لما تمرّ به، أشعر بك فقد جرّبتُ ضروبًا من العجز في الماضي. بالمناسبة، أنا هبة».

استرسلتُ في الحديث، لا أعوّل على فهمه للغتي.

ولكنّه صدمني حينما أجابني متسائلًا: «وهل يصيبكم المرض أيضًا؟».

«فقدتُ السّمع والنطق في طفولتي إثر حادث سير، كانت أيامًا عصيبة، حتى إنّي تعلمت لغةً جديدة بصريًا فقط! ولا ننسى قلبي الضعيف، ولكنني تخلصتُ منه مؤخرًا لا تقلق». لم أفهم مقصده ولكنّي تكلمت بأية حال، فما الضير من تحدث المرء مع عقله الباطن؟.

«ومَن لبى نداءك؟ هل هي إلهة شفاء قديمة؟».

قلبت عينيّ بسخرية لما سمعت، كنتُ مريضة جسديًا بعقل سليم، وأنا الآن سليمة الجسد معلولة الذهن!.

«لبّت ندائي امرأة مجنونة جمعتْ عقدها النفسية في قلبها ومنحتني إياه».

شهق بصدمة قبل أن يحذّرني: «أخفضي صوتك! قد تسمعك».

في هذه اللحظة ظهرت امرأة متدثّرة بوشاح من الصوف لذعتني رطوبته، تحمل مشعلًا نوره باهت وكأنّها لا تجرؤ على تشتيت الظلمة المهيبة، جرّت الشاب من يده الضعيفة فسحبته خلفها متجاهلةً ما يردده مخاطبًا إياي برجاء: «الفتاة الرحيمة ستغادرنا قريبًا، ولن نستطيع تقديم القرابين مجددًا، أرجوكِ اشفي شقيقي فهو ما يزال صغيرًا على العناء!».

تبعتهما إلى الردهة العُلويّة التي أصبحت خالية تمامًا الآن، راقبتُ المرأة متجهمة الوجه تسلّم الشاب إلى امرأة أصغر، لفّته الأخيرة بوشاح محاك يبدو ثمينًا كان يحيط بكتفيها بدايةً، ثم استدعت رجلًا متين العود لوّحت الشمس بشرته كما فعلت مع بشرة الفتاة ذاتها، أعانها على إسناد الشاب العاجز حتى وصلوا إلى عربة بسيطة التصميم تولّى الرجل أمر قيادتها، بمساعدة من فرس صهباء حوافرها ملبّسة بالذهب.

لم أحاول الصعود معهم، بل قررتُ المشي في الطرقات الحجرية المبللة، أراقب مظاهر الحياة البدائية حولي، وأُبقي عينًا على العربة التي تموج في بقعتها ولا تتقدّم.

لكزني أحدٌ ما من كتفي فالتفتُ وإذا به سائق العربة، انحنى بإجلال، أعطيته انحناءة أبسط فوقع بصري على حذائي الخشبيّ، يعلوه ثوب أبيض رفيع ممنطق بحزام جلديّ عُقِدتْ إليه حبّات لامعة تصرخ بالزيف؛ وهي بزيفها هذا تناقض الحليّ الثمينة التي زيّنت فستان الفتاة، مشدودة بالوميض الصادر عن الثوب النفيس، تبعتُ الرجل بعد أن أشار إليّ بذلك.

يبدو أن عنصر المنطق في الأحلام يختفي تمامًا بمرور الوقت، هذا ما فكرت فيه حينما استوعبتُ أنّ الرجل هو الآخر يراني، وغالبًا سيدته تراني أيضًا، بينما أمرّ كالنّسيم بسائر الشخصيات!.

اقتحمتُ العربة بسلاسة، هذا حلمي وأنا سيدته!.

اتخذتُ لنفسي مجلسًا جاورتُ به صديقي الأول، الذي تلعثم بشيء ما عن عدم مقدرته على الاحتفاظ بما جرى سرًا عن الفتاة التي يدعوها بالرحيمة، فهمتُ متأخرةً أنّه يحسبني إلهة الشفاء وقد جئتُه مسرورةً بما وصلني من أضحيات قدّمتها الرحيمة بسخاء بالإنابة عن مرضى القرية الأشدّ فقرًا.

وددتُ لو أوضّح له أنّه ورحيمته وحارسها مجرد وجوه التقيتها في مكان ما، وأصبحوا الآن حلمًا بديعًا، ولكنّ ذلك قد يدمّر حلمي الجميل ويقذفني في واحد أسوء! اكتفيتُ بادّعاء أنّي عابرة سبيل مررتُ بالقرية صدفةً.

«أرجوكِ لا تبخسي أملي، فقط اشفي أخي، وسأفعل المستحيل لكي أعوّضكِ عمّا بذلتِ».

رمقته بطرف خفي، وكيف سيعوضّني؟ يا إلهي ما أضعف البشر. أتوقُ ليوم نتخلّى به عن آمالنا الزائفة، ونتقبل واقعنا الجامد كما هو؛ ما لم تقوى يدٌ على تغييره لن يغيّره شيء.

ولكن، ما الذي تطلبه نفسي وتتمناه بشدة، إلى الحد الذي يدفعها لاختلاق هذا الحلم العجيب؟.

-

متاهة الڤالهالاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن