فصل 18: الوصية

405 11 3
                                    

كانت تجلس داخل السيارة تراقبه بصمت ، سيجارة أولى ثم ثانية ، و الآن الثالتة ، لا يتوقف عن التدخين، و كأنه أصبح متنفسه الوحيد لهذا اليوم ، كان شاردا يتأمل الساحل أمامه ، يستنشق ببطئ دخان السجارة حتى تستقبل جميع مستقبلاته حصتها من النيكوتين ثم يزفره من جديد عبر مجريات التنفس دفعة واحدة ، كانت رائحة الدخان تصل إليها عبر نافذة السيارة التي كانت مفتوحة قليلا ، فأسرعت تغلقها و هي تسعل فتلك الرائحة تخنقها و تثير إشمئزازها ، لطالما تسائلت ما الذي يعجبه في هذا الدخان الذي لا يغني و لا يسمن من جوع في نضرها ، بل و يفتك بصاحبه فيرديه إما طريحا و إما مدمنا ....بعد دقائق لم تتحمل جموده هكذا طوال الوقت ، فالشمس غابت منذ وقت طويل و الضلام أسدل ستاره ، فالمكان هناك كان مهجورا خاليا حتى من مصابح الإنارة...ترجلت من السيارة ثم وقفت بجانبه تنضر إليه بشيء من التردد ، عندما أحس بوجودها توقف عن التدخين ، فهو لا يدخن بقربها أبدا ، يعلم أن الدخان مضر لها كما هو مضر له و أكثر ، رمى نصف السجارة المتبقي و دعس عليه بحذائه حتى يخمد دخانه ، و هو يتمنى داخله لو كان هناك ما يخمد النار التي كانت تجلي بداخله في تلك اللحضة ...كانت تفتح فمها و تغلقه ثانية ، أرادت أن تقول له أن الوقت تأخر ، لكن ترددها سيطر عليها ، أو خوفها منه بالأحرى ، فهو أصبح لا يتحكم في نفسه أبدا فأصبحت تخاف مجرد التحدث معه...أغلقت جفونها بأستسلام ثم قامت تعود إلى السيارة قبل أن يوقفها بصوته

وليد : إستني

إستدارت تنضر إليه بتسائل واضح على تعابير وجهها

وليد : في حاجة لازم تعرفيها ، قبل ما نروح و يا ريث تسمعيني كويس عشان تفهمي كل حاجة....صمت قليلا ينضر إليها مطولا قبل أن يبدأ يحكي لها كل شيء حدث إلى الآن ، أشياء ليست مجرد أشياء ، أشياء كانت كفيلة بأن

تغير حياتها رأسا على عقب حتما

عندما ولدتي ، كانت أمكي تشعر بأن أجلها يقترب يوما بعد يوم ، و قبل أن تصعد روحها للسماء ، كانت قد نادت على الأحباب و أقرب الأصحاب ، و من بين هؤلاء كنت موجودا ،كنت لازلت طفلا لم أكمل الإثنى عشر ربيعا بعد، إتمنتكي أمكي عندي ، و قطعت لها وعدا حقا علي كإسمكي ، أن لا أترك يدكي ، مادامت أنفاسي حية، و ما دام النبض في الفؤاد ....من بين الأحباب كانت خالتك هناك ، و قبل أن تمسح دموع العزاء ، أخدت تلوح بيدها ما كانت قد أسمته وصية ! تقول فيها إن أمكي كتبت عليكي عهدا ، أن من سيكون زوجكي مستقبلا هو إبنها أمير ، فقرؤ عليك الفاتحة ووضعوك في ذمته و أنتي بنت الشهر الواحد، ثم كتبو أن إرثكي لا ترثيه إلا إذا بلغتي من العمر عشرا يزيد عليها ثمان أحوال كاملة ، تكونين حينها قد بلغت من الرشد عتيا، كنت صغيرا حينها ، لا أفهم في الزواج سوى إسمه و لا في الإرث سوى رسمه ، فلم أعر الأمر إنتباها ....مرت السنين و قد شهدتي عليها ، لم تسأل خالتكي عنكي و لا زوجها ، و لم يكلفو نفسهم عناء إتصال هاتفي واحد، بعد أن إرتحلو عن مصر و أتخدو من الإمارات و من دبي تحديدا موطنا لهم .... عندما سمعوا أنكي إقتربتي من سن الرشد ، و قريبا كل إرث والدك الراحل سيكون من نصيبك ، عادو إلى الوطن ، و لم يعودوا من تلقاء نفسهم ، بل عادو لحاجة في نفس يعقوب ، أرادو تزويجك من نجلهم الوحيد، زير نساء و عاطل مترنح لا أقل و لا أكثر، حثى يرث ما لكي و ما عليكي....لم أكن لأوافق على هراء كهذا بتاتا، و لو على جثتي ... و عندما سمعت بعودتهم ،علمت بذريعتهم الوحيدة و هي وصية أمك المزعومة، التي و إن وصلو بها إلى المحاكم ستكون الزيجة رغما عن أنفي و أنفكي ! و علمت أيضا أن الجهل قد تمكن منهم و تصلب في جذورهم كما تمكن من أصحاب الجاهلية الأولى ، فلم يكن الحوار معهم بالتي هي أحسن إحدى الخيارات المتاحة لدي،....قبل أسبوع من الآن، فعلت ما فعلت و سامحيني عليه ، لكن صدقيني لو عاد الزمن لكررت فعلتي ، فهم لم يتركوا لي خيارا أو طريقا أخر أسلكه، وصية أمكي المزعومة لا يبطلها سوى زواجك من شخص أخر، فأمكي لم تكن لتلقي بك إلى النار حتما ، وضعت شرطا تقول فيه ، وصيتي يا إبنتي باطلة ،في إحدى الحالتين ، إن وجدتي من ينبض له فؤاذك و تهنأ به أوصالك و ترضين دينه و خلقه فهو لك و إن لم تجدي فأقرب الناس إليلك..... ، و كان أقرب الناس إليك في هذه الحالة أحد أبناء عمك، إما أنا و إما جاسر ، و لم أكن لأسمح بزواجك و لو على الورق و لو مؤقتا لشخص أخر حتى لو كان جاسر بنفسه !! ، فلم أجد حلا غير أن أكون أنا هذا الشخص ، كتبت كتابي عليك دون علمك و موافقتك ، بعض من النفوذ و توقيع منك و مني كانا يكفيان لتسجيل عقد زوجية غير مشكوك به بتاتا ، نعم لقد وقعتي على العقد بيدك و بكامل قواك العقلية ، جرت العادة أن أسلمكي أوراقا توقعي عليها في إطار أمور العمل العائدة لشركات والدك ، كنتي تثقين بي ثقة عمياء فلا تقرئين شيئا منها ، وقعتي على عقد الزواج ضنا منكي أنها أوراق عمل لا غير ، هل خنت ثقتكي بي؟؟؟ صدقيني لا أعلم ، لكنني أيضا لا أندم ! فهذا العقد المزيف كان كفيلا بإسكات خالتك و زوجها ، و تحييدهما عما كانا ينويان فعله ، بينما ما يحرقني و يجعلني أفقد صوابي هو ذلك المعتوه الذي حتى بعدما علم أنكي تحث ذمتي ، تجرأ ورفع عينيه ينضر إليكي ، بل و يتوعد بما لا يقدر عليه .....أما بالنسبة لي ، فذنبي و خطيئتي تجاهك أيضا لا يغفران ،لكن!! تذكري أنكي طفلتي و صغيرتي ، و هذا العقد ليس له أساس و لا قيمة ، مجرد ورقة تنقذك من بطش و جهل أخوالك ، أسبوعين لا أكثر و أكون قد مزقتها أمام عينيك ، حتى يطمأن قلبك ، و يهنأ بالك..إلى حين ذلك ، لا أطلب منكي سوى شيئا واحدا ! ألا يعلم أحد عن هذا الإتفاق بيننا ،لا أحد غيرنا أنا و أنتي و البعض القليل من أهلي

صغيرتي أناWhere stories live. Discover now