الفصل الرابع والعشرين

38 3 9
                                    

بعد مرور ثلاثة أشهر:
تريدين شيئاً آخر مع القهوة سيدتي؟
أفاقت من شرودها على صوت النادل وأجابت بالإنجليزية فهي لا تفهم الألمانية:
عذراً لا افهمك شكراً على القهوة.
أماء النادل رأسه باحترام ورحل وبقيت بمفردها تجلس على طاولة خارج المطعم ولا يجلس أحد آخر غيرها فالجميع يجلسون بالداخل بسبب البرودة العالية.
وضعت كفها على معدتها المنتفخة قليلاً فصغيرها الآن اقترب أن يتمم شهره الرابع، همست بحنان فطري وأناملها تتحرك على معدتها بلطف:
هانت وأشوفك يا قلب ماما..
تنهدت تحاول السيطرة على دموعها فهي تظهر الصلابة على وجهها وبداخلها هش للغاية ثم أكملت بصوت أرتجف رغماً عنها مثل تلك الدمعة التي سقطت على وجنتها الباردة:
كان نفسي يشوفك كان هيحبك ومتأكدة أنه كان هيتخلى عن كل حاجة عشانك..
رغماً عنها سالت دموعها الدافئة فوضعت يدها على فمها تمنع شهقتها وأكملت:
قادرة أتخيل شكله لما يعرف إني حامل عارف كان هيعمل إيه ؟
صمتت لوهلة فانزلقت ابتسامة صغيرة على شفتيها المرتجفة وأكملت والمشهد يتجسد أمامها:
أول حاجة كان هيفضل ساكت شوية بعدين هيقول "تمزحين أيتها القصيرة أليس كذلك؟" ولما يصدق كان هيلمس بطني ويدمع ده لو قدر يمسك دموعه ومعيطش و..
اختفت بسمتها ورفعت يدها من على معدتها ثم ضمت رداءها الصوفي تستمد منه الدفء فقد شعرت بالبرودة ثم همست بنبرة يشوبها الحزن:
بس ده.. كان.

في مصر تحديداً شقة ماضي وماسال:
ماضي الأكل جاهز.
هتفت ماسال بصوت مرتفع قليلاً حتى يسمعها فلم تتلقى إجابة كالعادة فنادت صغيرها ليذهب لأبيه ويخبره أن الطعام جاهز، ولم يمر سوى دقائق وعاد الصغير يردد:
بابا قالي أقولك أنه نايم.
ابتسمت ماسال على سذاجة صغيرها وأعطته طعامه فهتف بحماس:
لا أنا مش هاكل معاكم هروح أكل مع رفيف وزين.
حركت رأسها بموافقة وساعدته في فتح باب المنزل فمازال لا يستطع الوصول لمقبض الباب ثم تأكدت من دخوله لشقة ملاك ويامن وأغلقت الباب بعدما رأت ملاك تأخذ الصغير ولم تنطق بكلمة واحدة وأغلقت الباب بعدها.
تحركت صوب غرفتها ودقت الباب ثم دخلت فرأته كالعادة منذ ثلاثة أشهر يطفئ أنوار الغرفة ونائم على الفراش أو جالس وعقله مغيب عن الواقع، جلست جواره بعدما أضاءت الغرفة ووضعت كفها على يده تحركها بلطف كنبرتها:
عارفة إنك صاحي.
فتح ماضي عيناه ثم اعتدل وجلس عاقداً ذراعيه أمام صدره فرفعت كفها تضعه على وجنته تلمس ذقنه الكثيفة التي نمتّ مؤخراً ثم تحركت عيناها تتفحص قسمات وجهه التي سيطر عليها الأرق والحزن وكأنه قد كبر في العمر ذلك غير جسده فقد خسر الكثير من وزنه بعدما توقف عن ممارسة الرياضة وعزل نفسه عن الناس والحياة.
حاولت منع دموعها من الهبوط حزناً على ما وصل له حبيبها وهتفت بنبرة حنونة:
لحد أمتى يا ماضي هتفضل كده.. لحد أمتى ؟
ماسال..
همس باسمها بنبرة بها بعض الرجاء فلم تعطيه الفرصة وأكملت بإصرار فلن تجلس تشاهد ضياع زوجها:
مش هسكت يا ماضي عدى ثلاث شهور وأنت لسه زي ما أنت ولا بتاكل ولا بتشرب ولا بتخرج حتى شغلك وقفته وانعزلت عن الناس وقولت ماشي ده حتى ابنك بطلت تقعد معاه زي الأول وأخواتك.. لحد أمتى هتفضل تعذب نفسك وتحط اللوم على نفسك لحد أمتى ؟
اهتزت بفزع قليلاً من صراخه المفاجئ وكأنها قد ضغطت على زر انفجاره:
عشان أنا فعلاً الغلطان أنا السبب في موته يا ماسال كان ممكن أوصل بدري.. كان ممكن ألحقه كان ممكن أسامحه وأقف جنبه وأقنعه أنه مش لوحده وإن ليه عيلة بتحبه بس بغبائي ضيعته خليته يسافر بعد ما كلنا جينا عليه.. كلنا دوسنا عليه عشان خاطر مين عشان خاطر أبونا!
انفلتت ضحكة ساخرة منه وتلألأت الدموع بعينيه وأكمل:
حامد اللي مع أول فرصة هرب من مصر وحتى حقه منه معرفتش أخده.. آدم راح وهو لسه موجود باسم جديد في مكان معرفهوش بيحتفل بموت ابنه اللي كان مستعد ينسى كل حاجة قدام كلمة كويسة واعترافه بيه بس.
صمت يبعد وجهه للجهة الأخرى وقد سالت دموعه فأعادت رأسه بكفها بحنان ثم اقتربت منه تضمه بقوة وتشاركه البكاء ثم أبعدت رأسه قليلاً لترى عيناه وهمست بحنان:
عيط وزعق لغاية ما تحس نفسك كويس.. عيط.
ثم عادت تضمه مرة أخرى قبل أن تطبع قُبلة طويلة دافئة على وجنته فبادلها العناق دافناً رأسه بين ثنايا عنقها موطنه الذي مهما كان حِمل همومه تتبدد به.
وأخيراً سمح لنفسه بالبكاء يتذكر تلك اللحظات التي لن ينساها أبداً.
الحريق.. وصراخه وركضه كالمجنون ليدخل لأخيه..
وسقوطه وسحب الرجال له عنوة.
لن ينسى لحظة إخراج جثمانه بعدما شوهته النيران وقد منعه رجال ثائر من إلقاء نظره عليه، حتى أنه لا يتذكر متى أتى ثائر لإيطاليا وماسال معه ولا يعلم كيف مرتّ تلك الأيام ووجد نفسه بعدها بمصر يقف عاجز أمام غرفة آفاق في المشفى بعدما استقبلت الخبر ودخلت في حالة صدمة ترفض التصديق بأن زوجها قد رحل ولا تستطع رؤيته فقد دُفن في إيطاليا جوار أمه.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: May 02 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

كل الآفاق تؤدي إليكWhere stories live. Discover now