٢

49 2 1
                                    


أخرجتُ ساعتي التي أرتديها علىٰ شكل قلادة؛
هذهِ الساعة التي أهداني إياها والدي يوماً قد دُثِر.

ورحت أحدقُ فيها لوهلة،
تذكرتُ حينما أخبرني والدي عنها وقال لي بأنها ليست مجرد ساعةٍ قديمة وبالية كما يُخيل لكثيرٍ من الناس، بل هي تُحفةٌ فنية، تُشكل هيئة بوصلة، عثر عليها والدي وقتاً مضى حين كان يُمارس هوايته، البحثُ بالأنقاض.

أخبرني بأنها تُعلمني بالوقت، الذي هو عُمري الراحل دون عودة.
وعلى عكس الأشخاص الذين لا يهتمون بالوقت ولا يُقدمون معنىً لأي شيء بحياتهم، كان والدي يُقدر الوقت ويقول بأننا خُلقنا هنا ويجب علينا دفع الثـمن.

وثمـنُ الحياة، هو مُحياها.

أن تحيا حياةً تليقُ بك، كنتَ دائم التخطيط لها وكم ستغدو مُبتهجاً لو باشرت بالعيش فيها.

لا ما جُبرت لعيشهِ.

أعدتُ الساعة لمكانها، حيثُ قلبي يقبعُ، وحولت بنظري لجابرٍ الذي أقبل عليَّ.
قال بهدوء "إذاً؟ ما سببُ مجيئك؟" أجبتهُ بمُزاح "ماذا؟ أتراني لا آتيك إلا لسببٍ؟ " ضحك جابرٌ وقال "كلا، لا أقصدُ هذا بالطبع، لكن قد شغلني حُزنك قبل قليل، ماذا حدث؟".

زفرتُ بضيقٍ لتذكري لذلك العجوز وأخبرتهُ رويداً "لقد غادرتُ المنزل الذي كنتُ أعيش فيه" نظرت لجابر لأجده ينتظر أن أُكمل.

فقلتُ حينها دفعةً واحدة " أُريد أن تجد لي منزل نظيف وذا جيرة حسنة ورخيص، وأن تدفع لي هذا الشهر فقط حتى أقطع علاقتي بذاك الرجل البائس، سأعيد إليك المال بأقرب فرصة ولن أكون عبئاً عليك ثانيةً".

كنتُ أعلمُ يقيناً بأن جابر لا يُحب أن أعيد لهُ المال الذي دفعه من أجلي، لكن هو بدوره يعلم بأنني سأنسحب ولن أطلب منه شيئاً لو لم يقبل بإعادة المال.

حدق فيَّ لثوانٍ ثم أخبرني الآتي "لا ضير عندي، وبالنسبة للمنزل، فأنتي محظوظة، جاري الذي في الشارع المُقابل لي عرض المنزل للإيجار.." قاطعتهُ قائلة "إذاً لننهض فوراً ونذهب لرؤيته، لقد أُهلكت من حمل حقائبي في كل مكان".

ضحك جابر وقال وهو ينهض "يا لكِ من ملولة، هيا بنا سأُحادثهُ في الطريق".

وبالفعل نهضنا متوجهين لمنطقته، وفي طريقنا أبقيتُ حقائبي في منزل جابر حيثُ زوجته التي هي صديقتي في الجامعة.
جابر كان يحبها وقد تزوجها رُغماً عن أنفها العنيد.

وبينما نحنُ مُتجهين للمنزل رنّ هاتفي،
أضاء شاشته رقمٌ مجهول .

وحينما أجبت "مرحباً، من معي؟" جائني صوت رجلٍ مُسن يوحي بالدفئ قد قال لي "مرحباً عزيزتي، هل أنتي وتين عُزيزٍ" شدّني لفظهُ لإسم والدي، هو بالتأكيد على معرفةٍ به.

فأجبت بحيرة "نعم يا عم، هل أنت تعرفُ والدي؟" أخبرني بصوتٍ حنون " صديقُ عمري الذي ضاع حينما عرفتُ بموته، كانت صدمةُ حياتي حتماً".

صمت كلانا لـ لحظات،
والدي لم يكن مُجرد جسداً قد دُفن، بل كان روحاً يُستند عليها ونفساً يستنشقه شخصٌ ما.

قال بعد صمتٍ " حسناً، ليس هذا ما أتصلتُ بكِ من أجله، بل لأخبركِ بأن عُزيزٍ قد ترك عندي أمانةً بإسمك، وقد إستغرقتُ شهراً لأُعيد ترتيبها جيداً وأُهديها لكِ".

وبعد دقائق، أرسل لي رسالة بموقعه وقد قدّتُ جابراً معي لأرى ما قد خبأهُ القدر لي.

نظرت لساعتي لأجد عقاربها لا تتحرك.

تذكرتُ حينما حدث هذا لأول مرة، يومها كنتُ قد أخذتُ الساعة للتصليح فأخبرني صاحب المحل بأنها قديمة ومتوقفة ولا فائدة منها .
وحينما خرجتُ من المحل إرتطمتُ بصديقي الجامعي الذي سافر دون علم،ٍ وبعدما أعدت مُقلتيَّ لساعتي وجدتها تنبضُ بالحياة.

عرفتُ حينها، بأن توقف الساعة فجأة يدلني علىٰ أشخاص وأشياء تُفيدني كثيراً،
وما توقفها إلا لكي أستوعب ما يحصل لي من دهشة.

ماذا سيحصل لي الآن؟
وما هي تلك الأمانة؟

البوصلـهWhere stories live. Discover now